بدعوة من المجلس المليّ الأرثوذكسيّ حيفا، واتحاد الأدباء الفلسطينيّينن ونادي حيفا الثقافيّ، تمّ توقيع كتاب (أوراق نقديّة) للناقد د. محمد خليل، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع الفرس 3 حيفا، بتاريخ 2-10-2014، وسط حضور من الأدباء والأصدقاء والمهتمّين بالأدب، وقد أدار الندوة مفلح طبعوني، وتخللت الندوة مداخلات كلّ من: وفاء بقاعي عياشي، ونادر نادر سروجي، وفتحي الفوراني، وبعد كلمة ألقاها المحتفى به د. محمد خليل، تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
جاء في كلمة مفلح طبعوني: د. محمد خليل ناقدًا وليس منقادًا، ولم يفلت طرف الخيط منه، فعرض وفكك في مختبره "اوراق نقديّة"، والتي قارب فيها أوراق الأدب لأوراق النقد، ليحلل الإنتاجات الأدبيّة التي تواصَلَ معها، خلال فترة ليست بقصيرة بدأها بالتراجم، ومن ثمّ الأدب العربيّ، مُرورًا بالمراجعات الأدبيّة والقراءات الشعريّة، وصولًا إلى فصله الخامس الأخير، "المقالات الأدبيّة". تواصل مع إحسان عباس، وأبي سلمى، وإميل توما وتوفيق فيّاض. رافق الطيّب صالح في "عرس الزين"، واستنشق رائحة الحزن الحقيقيّ من "أرض البرتقال الحزين"، ولبس وتلبّس مع إدريس في "حالة تلبّس" مثيرة، بعد أن تعرّف على الهذيان عند نجيب محفوظ، وتعرّف على الطفل الذي ابتسم في "عائشة تضع حيًّا يقرأ لكم ما تيسّر من سورة البقرة" لمحمد علي طه".
وكتب عن دلالاتِ السياق في "ثلاثيّة الموت/ العشاء الأخير" لزكي درويش، وعن إبداعات لآخرين، وتحاور مع "الحوار الأخير في باريس"، (لذكرى عزّ الدين قلق) لمحمود درويش، فتحرّك بعفويّةٍ ونسقٍ دائريّ يتآلفُ مع الزماكانيّة. ثمّ تابع فتحدّث عن رشدي الماضي، وعن ولعه بالأسطورة ومواردِها وبالرمزيِّةِ ومنابعها
أبحر في لغة الشعراء بين أفق النصّ وأفق المتلقّي، وأكّد على أهمّيّة توظيف الموتيفات في النصوص الإبداعيّة، بعيدًا عن الغموض المُغرِق والوضوح الفاضح. قال عن كتاب د. ياسين كتاني "ستة روائيّين حداثيّين": إبراهيم نصرالله، إدوار الخرّاط، إبراهيم الكوني، وزكريا تامر، ليلى الأطرش، وسحر خليفة: "ولا شكّ بأنّ كتاب الدكتور يستاهل القراءة، لِما فيه من إثراء لكلِّ مستزيدْ "أدخلنا إلى عالم البكّار"، الذي عمل على تأصيل صنعة النقد في نفس طلابه"، والبكّار هو الأستاذ يوسف البكّار، أستاذ كرسي اللغة العربيّة وآدابها في جامعة اليرموك، كما يُعرّفه لنا د. محمّد خليل، فنتواصل مع البكار وقيمته المضافة، تأخذنا إلى بحور النقد الشعريّ واستسلامٍ إبداعيّ، يُريحُنا من التشنّجاتِ الذاتيِّة.
أمّا مع المقامات التي يقول عنها البعض، ومنهم شوقي ضيف، إنّ الأهمّ لها الأسلوب وليس المضمون: "ولا يُستفاد منها إلّا التمرين على الإنشاءِ، وعلى مذاهبِ النظم والنثرِ". أمّا حسين مروة فيقول: "إنّ أدب المقامات نشأ أوّل ما نشأ ظاهرة اجتماعيّة وفنيّة، ويُضيف ديالكتيكيّة لا ظاهرة لغويّة ميكانيكيّة". ونهاية أقول: التحديد في النقد الأدبي يُصَعِّبُ على الناقد مساراته، ويثير الزوابع، ويهدم الأركان والركائز، إذا كان مُنقادًا وليس ناقدًا، ونحن نظنّ أنّ صاحب كتاب "أوراق نقدية" د. محمد خليل بأوراقه النقديّة، بعيدًا عن الأخضر ومشتقّاته، قد "كاد أصنامهم"، ونقول له ما قاله ابن الرومي: يسهلُ القولُ انَّها أحسن الأشـ/ياء طُرًّا ويصعبُ التحديدُ، ولكنّك يا أبا إياد حدّدتَ وبحدّةٍ مطلوبةٍ لسلامة الإبداعِ. لك العافية والأمان والبقاء للصدق والإبداع.
جاء في مداخلة وفاء بقاعي عياشي: مساء يطيب بالحرف والكلمة الراقية، ولا بدّ من كلمة بحقّ الكاتب، فلست مَن تجامل، بل تقول ما تراه عيّنُها، ويحلّله فكرُها. تعرفت عليه قبل عشرةِ سنواتٍ ونيف، كان أستاذي في الكلية، أشاد بحرفي، منحني الدعم والثقة بما أكتب، متواضعًا مُحبًّا للغير، ولا أنسى قوله لي ذات مرة، "ألا يتفوّق الطالب على معلّمه"، هذا دليل على صدقه ودعمه لطلابه، وأنا اقول لك: لا يعلو الحاجب فوق العين أستاذي الفاضل، وهو الحريص كل الحرص على الإرث الثقافيّ، يعمل ويبحث ليل نهار، من أجل دعم المسيرة الثقافيّة وتوثيقها، شكرًا لك أستاذي على ثقتك بي لأتحدّث عن كتابك هذا، الذي تناولت به مسيرة طويلة، لكوكبة من أدبائنا ما قبل النكبة وما بعدها.
أوراق نقدية "مقاربات نقديّة في الأدب والنقد"، كتاب يحتوي على خمسة فصول، وكلّ فصل يتناول به العديد من الرؤى والقراءات الأدبية والدراسات، التي ستكون المرجع الثّمين الغنّي لطالبنا في الجامعات والكليّات، وكان لي الشرف أن أكون في مضامين الفصل الرابع، ضمن دراسة استقرائية لقصيدتي (الطفل الفلسطينيّ والعيد)، من كتابي الأوّل "ما وراء ديمة"، وهذا بدون شك تقدير من جانبكم لما يخطه قلمُنا، ونحن من طرفنا نثمّن مجهودكم. النقد هو فنّ تفسير الأعمال الأدبيّة، وهو محاولة منضبطة يشترك فيها ذوق الناقد وفكره، للكشف عن مواطن الجمال أو القبح في الأعمال الأدبيّة، والأدب سابق للنقد في الظهور، ولولا وجود الأدب لَما كان هناك نقد أدبيّ، لأنّ قواعده مستقاة ومستنتجة من دراسة الأدب، إنّ الناقد ينظر في النصوص الأدبيّة، شعريّة كانت أو نثريّة، ثمّ يأخذ بالكشف عن مواطن الجمال والقبح فيها، مُعلّلًا ما يقوله، ومُحاولًا أن يُثير في نفوسنا شعورًا بأنّ ما يقوله صحيح، وأقصى ما يطمح إليه النقد الأدبيّ، لأنّه لن يستطيع أبدًا أن يقدّم لنا برهانًا علميًّا يَقينًا. لذا لا يوجد نقد أدبيّ صائب وآخر خاطئ، وإنّما يوجد نقد أدبيّ أكثر قدرة على تأويل العمل الفنيّ وتفسيره من غيره.
لابدّ أن يتمتع الناقد بعدة صفات منها: قدر وافر من المعرفة والثقافة، والبصر الثاقب الذي يكون خير معين له على إصدار الحكم الصائب، فالأدب ونقده ذوق وفن، قبل أن يكون معرفة وعِلمًا، وإن كانت المعرفة تعين صاحب الحسّ المُرهَف والذوق السليم والطبع الموهوب، بالتأكيد تملك تلك القدرات، لتمكّنك من الإبحار في مضامين النصوص.
لقد اخترت لمداخلتي هذه اسم "غربة الراعي"، وهي السيرة الذاتيّة للكاتب الفلسطينيّ إحسان عبّاس، الذي كان افتتاحيّة الجزء الأوّل في هذا الكتاب، فللغربة عدّة أبعاد؛ الغربة الجسديّة، والغربة العاطفيّة، والغربة النفسيّة، فهذه الأبعاد التي تضمنت القراءات المتعلقة في النصوص، والتي تتحدّث عن الشعب الفلسطينيّ الذي ذاق ويلات النكبة، وانتقل من غربة إلى غربة، وعاش حقبة الجوع والتشريد وضياع الهُويّة، بعد نكبة عام 1948م التي حلت بنا كشعب له جذوره، فهذه المأساة وما نجم عنها من ولادة اللاجئين، كانت رافدًا من روافد تجربة الشعراء الفلسطينيّين، ما قبل النكبة وما بعدها، وهذا كان جليًّا بالنصوص التي تناولها د. محمّد خليل، والأدباء الذين اختار الحديث عنهم، مثل إحسان عبّاس، وعبد الكريم الكرمي "أبو سلمى"، وإميل توما، وتوفيق فياض، وغيرهم من أعلام الأدب الفلسطينيّ.
بدون شكّ أنّ البُعد الجسديّ عن الأرض والوطن بعد النكبة، يتمخّض عنه البعد النفسيّ، فكان حزن الإنسان الفلسطينيّ ولوعته المتجدّدة بالعودة، مُتجذّرًا في أعماق النصّ، وهنا يرى علماء النفس الاجتماعيّ أثر العوامل، التي يحتمل تأثيرها في استجابة الأفراد النفسيّة، (فكريّة أو عاطفيّة أو سلوكيّة) في مواقف التفاعل الاجتماعيّ، سواء كانت هذه العوامل ذهنيّة، أو ثقافيّة، أو بيولوجيّة، أو بيئيّة طبيعيّة، وهذا يشير إلى أنّ الهدف الرئيسيّ لعِلم النفس الاجتماعيّ هو تفسير سلوك الأفراد الاجتماعيّ، بطريقة تشمل كافة جوانبه، واستجابات الفرد النفسيّة للآخرين، كالعمليّات الذهنيّة الأساسيّة كالذاكرة والتفكير، العمليّات التي تحكم أفكارنا واعتقاداتنا، والفهم العلمي لاستجابات الفرد الإنسانيّ للمثيرات الاجتماعيّة، وبعبارة أخرى، إذا كان مِن المُسلّم به أنّ الإنسان كائن اجتماعيّ، فإنّ علم النفس الاجتماعيّ يسعى إلى فهم هذا المجتمع، متأثرًا بالعوامل التي تَتطرّق لحياته ، وتجعل بها تغييرًا جذريًّا، كما حصل لنا كشعب فلسطينيّ. وهذا البعد النفسيّ المتأثر بالعوامل الطارئة، نتيجة تحصيل حاصل من آثار النكبة، له الباع الأكبر في ولادة نصوص تعكس هذا التغيير، والبعد الأخير هو البُعد العاطفي الوجدانيّ، فالنصّ الأدبيّ لا يخلو من البعد العاطفيّ الوجدانيّ، لأنّه هو الركيزة الأساسيّة في بناء النصّ، وهو الضفيرة التي تجدل ما بين الداخل والخارج، وتحدث عملية الاسقاط على الورق، كما قال الكاتب عيسى علي العاكوب في مقدمة كتاب "العاطفة والإبداع الشعريّ": إن عاطفة الإبداع الشعريّ التي تعني الهزّة النفسيّة التي تعرو الشاعر فتحرّك كيانه، وتُشعل قواه وملكاته، وتضطرّه أخيرًا إلى التغيير، إنّها هذا الشعور الغلّاب ذو السلطان القويّ على نفس الشاعر، وهذا الجيشان الذي يعتمل في الصدر فيقذفه على اللسان، فقد كان الشاعر الكبير شكسبير يسمي هذا الحال ، أو مظهرًا من مظاهرها باسم "نشوة الشاعر".
إذن الجانب العاطفيّ الشموليّ في النصوص الأدبيّة التي تناولها كاتبنا في كتابه، ما هي إلّا إسقاط هذه العاطفة الشموليّة على أثر ما حلَّ في شعبنا الفلسطينيّ، وما زال يُعانيه من ظلم الاحتلال، فإنّ الكلمات تبكي وتحنّ وتأسى على فراق الأحبّة، الذين غادروها وتركوها تكابد مرارة الطبيعة وقسوة الوضع الجديد، من تقلّبات الزمان والمكان، فإنّ هذه العاطفة كانت جليّة وواضحة في قصيدتي (الطفل الفلسطيني والعيد)، التي تناولتُ بها حالة من حالات الغربة واليتم العاطفيّ، لدى أطفالنا الذين يفتقدون للعيد والمعايدة، وما يشحنه من مشاعر السعادة المفقودة، وتبدّل الأحوال وليس ذلك بعيدا عنّا، فما زالت رائحة الموت في العيد تغزو أنوفنا، في الحرب الأخيرة على أطفال غزة، حيث جاء في القصيدة: في اليوم الأول للعيد/ أركع وأحضن أرضي / أحمل باقات الزهور/ أذهب لزيارة القبور/ لعلني يا أمي/ أستطيع أن أغيّر عزف القيثارة/ وأسمع من الأعماق صدىً ينادي/ حجرا.. حجرا.
لقد تناول د. محمد خليل هذه القصيدة ودخل أغوارها، ليجسد الحالة العاطفيّة الشموليّة للطفل الفلسطينيّ في عيده المفقود، حيث يقول: "الأطفال يعيشون طفولتهم كما يفترض، لكن ليس في فلسطين، فأطفال فلسطين مُعذبو أطفال الأرض! لكن لشدّة شغفهم بالحياة الحرّة الكريمة وعشقهم لها، وإصرارهم عليها فوق أرِضهم وأرض آبائهم وأجدادهم، فإنّهم يتجاوزون طفولتهم ويقفزون عليها إلى الشباب والرجولة! إنّهم ينهضون بذكاء لافت، ويُبدعون ملحمة الطفولة، في كل يوم وفي كل ساعة، بل على مدار الساعة، ولأنّهم لا يعرفون الخوف أو الرعب، فالرعب منهم خائف، وهم يكرهون أعداء الأطفال والطفولة والحياة!". لذا يلجأ الشاعر الى غربته الذاتيّة، من أجل أن يعبّر عمّا يجول بخاطره من آلام ومآسٍ.
وجاء في مداخلة نادر سروجي: لست كاتبًا، لكنّني سأحدّثكم الّليلة عن غربال جدّتي، وعلى ما أظنّ تعرفون هذا الغربال، من جدّاتكم أيضًا، كانت تستعمله لتغربل القمح من الزّؤان، الحب (الحبّ) الحقيقي من الحب (الحبّ) المزيّف. هي حكاية عشق بين جدّتي والغربال. لست كاتبًا ولكنّني "أتعمشق" على خاصرة الّلغة، وأحضنها بذراعيّ كثيرًا، وبرؤؤس أصابعي أغازل قصيدة، تجعلني مؤرَّقًا لا أنام، وبرمش العين أحمي نصًا رائعًا وراقيًا ورائقا! هل هي الّلغة الّتي تدغدغني، نصّا وشعرا وفكرا، أم أنّني تورّطت فيها ومعها، كتورّط النّديم مع حبيبات النّبيذ العالقة على طرف كأسه؟ وأتساءل مع أدونيس: وهل الكتابة عمل يشترك فيه الجسد كلّه، لمسا وسمعا وبصرا، شمّا وذوقا؟ وهل الولوج الى فكفكة الكتابة وتذوّق نكهتها، يحتاج الى هذه الحواس كلها أم بعضها؟
وسؤال وجّهه "آرا غوزليميان" صديق مشترك لإدوارد سعيد ودانيال بورينبويم، في حوار خاصّ، صدر عن دار الآداب في بيروت: "هل تشعر أصلا أنّ لك بيتا؟ كان جواب بورينبويم؛ وهو عازف بيانو وقائد أوركسترا مشهور، أنّه يجد بيته حيثما يسافر، ويعزف الموسيقى. وأجاب إدوارد سعيد قائلا: "في فكرة الوطن مبالغة، وفي فكرة "أرض الوطن" كثير من العاطفيّة، بشكل لا يروق لي البتّة. ويضيف: التجوّل هو ما أفضّل فعله في الحياة. ويتبنّى إدوارد بذلك مقولة "غوتة" : "الفنّ رحلة إلى الآخر". ويجيء هاجس القراءة: هل نحن أمام قراءة تعمل على وضع أسس جديدة، لا تتحدّد فيها هويّة الإنسان بانتمائه الى عرق أو دين، إنّما بانتمائه الى الكينونة الإنسانية، بوصفه كائنا إنسانيّا؟ "لا إمام إلا العقل"، كما عبّر عن ذلك الشّاعر العربي "أبو العلاء المعرّي".
عزيزنا محمّد، أديبا وكاتبا وناقدا ومبدعا، إذا كان الإبداع نقدا، فإن في كل نقد حقيقي بعدًا إبداعيّا، وهل نقدك إذن ليس إلّا نوعًا من الضّوء، تشعله أمام الكتّاب والشّعراء والأدباء والمفكّرين؟ وهل تستعمل السّكين وتحزّ رقاب الكلمة، لتفصل الحروف عن بعضها، في عصر السّكاكين والرّقاب، أم تستعمل الإزميل لتدقّ بلطف وفن ّ وهندسة، على ما تقرؤُه، فتحفر هناك ضربة إزميل، أم يتصدّع معك مبنى الكلمات؟
بداية حدّثتكم عن غربال جدّتي، فهل تريد غربال جدّتي، لتهزّه هزّة، حتّى يبقى للكتابة عزّة؟ أم ترغب أن تحمي آثار أقدام أطفال على شاطئ غزّة؟ سؤالٌ يراودني دائمًا: "هل قبل أن يصدر الإنسان كتابًا، يَظلّ مجهولًا في عالم الثّقافة؟ منذ أن يكتب، يعرف كيف ينتشر اسمه، كأنّ الإنسان لا ينوجد إلّا بالكتابة، وكأنّ الوجود حضور بالكتابة وفيها، وثبات بالمكان وفيه؟ وهل قال الشّاعر عندها بما معناه: السّيف أصدق أنباءً من الكتب/ في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب. أخانا محمد، لك غربال جدّتي، فثقوبه كبيرة، ولك أن تفعل ما تشاء، فالكرمل من خلفك، والبحر أمامك، فأين المفرّ؟
وفي مداخلة فتحي الفوراني جاء: في تراث جدنا ابن منظور في "لسان العرب" جاء ما يلي: "النقد: هو تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها. وبعبارة أخرى، النقد هو الفصل بين القمح والزؤان". وفي "المعجم الوسيط" الذي يواكب التغييرات والتجديدات والمستجدات في اللغة العربية، يقوم بعملية التحديث updating متكئًا على المجمع العلمي في القاهرة، في هذا "المعجم" جاء ما يلي: "النقد: فن تمييز الكلام جيده من رديئه، وصحيحه من فاسده"، وهو تعريف قاموسيّ أوليّ، لا يتعدّى مرحلة الطفولة المبكرة، مقارنة مع تسونامي المفاهيم المختلفة للنقد الأدبيّ الحديث.
ومن هذه المادة الخام والتعريف الأوّليّ لمعنى النقد، تأسست القاعدة التي انطلقت منها عمليّة النقد الأدبيّ، وراحت هذه العملية تتطوّر وتنمو وتتشكّل وتتكاثر، عابرة أربعة عشر قرنًا، منذ الجاهلية وحتى العصور الحديثة، وبين البدايات والنهايات المؤقتة وغير النهائيّة، جرت مياه كثيرة في نهر الأردن، فنشأت مذاهب ومدارس نقديّة كثُرت أسماؤها وتعددت معانيها، حتّى وصلت إلى شواطئ النقد الحديث، وهي أيضًا شواطئ مرحليّة متحوّلة وغير ثابتة وغير نهائيّة، ومتجدّدة بتجدّد الحياة، ومن هذه المدارس على سبيل المثال لا الحصر: "النقد الانطباعيّ، النقد العلميّ، النقد الجَماليّ، النقد البلاغيّ، النقد اللغويّ، النقد البُنيَويّ، وغيره من التقليعات النقديّة التي أغدقها علينا النقاد والفلاسفة والمُفكّرون عبر قرون.
العمليّة النقديّة مَهمّة خطيرة، ومسؤوليّة ذات مرتبة عُليا، يَحتاج مَن يضطلع بها إلى ثقافة واسعة، تشمل الاطّلاع على الأدب، والشعر، والمسرح، والرسم، والموسيقى، والفلسفة، والفنّ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من العلوم الإنسانيّة، وألوان المعرفة العديدة، كما يتوجّب على الناقد الأدبيّ والمسؤول الاطّلاع على النقد الأدبيّ العربيّ قديمه وحديثه، كما يتطلّب الأمر ثقافة واطلاعًا على الآداب العالميّة، فضلًا عن الذائقة الأدبيّة التي تلعب دورَها في تقييم العمل الأدبيّ. وفي العديد من المقالات والدراسات النقديّة التي تحتلّ المشهد الأدبيّ، كان النقد الانطباعيّ التأثريّ والاستعراضيّ الذي يطغى عليه العامل الذاتيّ، هو الذي ميّز العديد من النصوص التي تسللت إلى خيمة النقد الأدبيّ الموضوعيّ، بدعوى الموضوعيّة التي ينقصها الكثير الكثير من الموضوعيّة. كان النقد تأثريًّا، إلى أن أصبح نقدًا منهجيًّا مُتعدّد المدارس والمذاهب، التي أرسى قواعدَها كبار النقاد. لن أتحدّث عن نشأة النقد الأدبيّ عند العرب، بدءًا من العصر الجاهليّ وحتى العصر الحديث، ولن أتحدّث عن المذاهب النقديّة التي تشكّلت عبر العصور، ولن أخوض في التفصيلات الدقيقة، فالأمر يطول وخارجًا عن سياق هذه الأمسية.
إذا استعرضنا مسيرة النقد الأدبي منذ عام 1948، لأمكن الإشارة إلى أسماء شتى ساهمت في بناء الخطوط الأولى لخارطة النقد الأدبيّ في هذا الوطن، فقد كثرت المنابر الثقافيّة عبر أكثر من ستين عامًا، وشهدت حَراكًا نقديًّا ثقافيًّا مُباركًا، كان أبرز هذه المنابر الثقافيّة: المجلات والصحف الشهريّة والأسبوعية واليوميّة، فكانت الجديد، والغد، والاتحاد، والفجر، واليوم، وحقيقة الأمر، والأنباء، والمرصاد، والمجتمع، والرابطة، والهدف، والسلام، والخير وغيرها..
بعض الأقلام الناقدة احترفت مهنة النقد، فتفرّغت له ومارسته، حتى تمرّست واصلبّ عودها، وتمترست في قلعة النقد الحصينة، وهنالك أقلام أخرى لم تحترف كتابة النقد الأدبيّ، بل تعاطت مع النقد على حياء، فكانت غيوم صيف عابرة، أطلّت إطلالات خجولة، وأنشأت مقالات موسميّة متفرّقة، كانت أشبه بطفرات تهبّ وتزوبع الساحة الأدبيّة، فتثير الغبار الذي يملأ المشهد الأدبيّ، وما يلبث أن يهدأ ويُلقي السلاح، ويلجأ إلى استراحة دائمة الخضرة لم ينهض بعدها أبدًا، ولو تابع المسيرة، لكان له شأن في عالم النقد.
وقد اكتسبت المسيرة النقديّة زخمًا بأقلام كتاب ونقاد أكاديميّين بارزين كثيرين، تعدّدت مَراتبهم ومذاهبهم، واختلفت رؤاهم الفكريّة والعقائديّة، ولا أريد أن أقع في الفخ فأسرد أسماء هؤلاء الإخوة، حتى لا أنسى أحدًا، فأنا أخشى أن أقع في ورطة، تؤدّي إلى توتر العلاقات الشخصيّة، تكثر الشكوك والتفسيرات والتخمينات والتحليلات والاستنتاجات البعيدة عن الحقيقة والواقع، وتروح قطيعة لا مبرّر لها! يقتحم البعض المشهد، ويُصرّح محتجًّا وبصدق: لماذا تجاهل الراوي اسمي؟ هذا أمر مقصود! هذه مؤامرة! وينرفز آخر قائلًا: لماذا وضع الراوي اسم زيد قبل عمرو؟ أليس عمرو أوْلى من زيد بالأولويّة!؟ ويبلغ الغضب البدائيّ مداه، وبدافع الغيرة والحسد وعقد النقص، يصبّ البعض الحمم البركانيّة على الناقد أو الكاتب، فيَفجُر ويُفجّر جميع ألوان الاستفهام الإنكاريّ، ويستشيط غضبًا، ويدبّ الصوت مُحتجًّا: وهل يفهم زيد شيئًا في أصول النقد؟ ألست أوْلى منه بالريادة!؟ فتستخلص النتائج، وتتخذ المواقف، ويَشطب البعضُ البعضَ بأستاذيّةٍ استعلائيّة مثيرة للسخرية، وتكثر الظنون، ويُناصب البعضُ البعضَ العداء، فتكثر النميمة، ويكثر النفاق، وتكثر العقول الصغيرة، وتكون قلة العقل سيّدة المشهد! وما أكثر سيّدات المواقف والمشاهد وقلة العقل، في هذا الزمن الضحل!
يضيق المقام للإحاطة في أخبار غرناطة، فأنا أمام بحر نقديّ رحب الشواطئ، يطول الحديث عن أمواجه وسبر أغواره واستخراج الدرّ الكامن في أحشائه، مثل هذا الأمر يَحتاج إلى دراسة متأنّية مُستفيضة ومسؤولة، يضيق هذا المساء الثقافي الضيق عن الإحاطة بها، فهل نستطيع أن نحشر العاصفة في فضاء زمنيّ ضيّق وبخيل؟ ذلك أمر يقف على حدود المستحيل. ولكن..لا بدّ ممّا ليس منه بدّ، ولا بدّ من التعريف، أمامنا مائدة نقديّة تزيّنها لافتة كتب عليها "أوراق نقديّة"، يُقدّمها لنا د. محمّد خليل، ويكون دليلَنا السياحيّ في رحلة إلى ربوع الأدب والنقد.
نلتقي في المحطة الأولى بتراجم الأدباء الفلسطينيّين، نلتقي إحسان عبّاس، وأبا سلمى، وإميل توما، وتوفيق فيّاض، ومن ثَمّ ننتقل إلى الرواية والقصّة القصيرة، فنحضر "عرس الزين" في الريف السودانيّ، ثم ننزل في أرض البرتقال الحزين، فنركع وننحني ونقبّل تراب يافا وعطر برتقالها الذي يملأ الدنيا، ثم نتوقف عند غابة "الهذيان"، تحاصرها غابات من علامات التعجّب والسؤال، نستريح قليلًا تحت شجرة صنوبر، فنشرب جرعة ماء من نبع زمزميّ، ثمّ نواصل المسيرة ونحطّ عصا الترحال في الجامعة، فنرى أمامنا مشهدًا مُثيرًا، وتكون المداهمة! نداهم عميد الكليّة الجامعيّة، ويُضبط المنظر في حالة تلبّس! إنه يراقب الطالبة الجامعيّة ويضبطها وهي في حالة تلبّس! إنها تدخّن وتستمتع! "تتوالى الأنفاس، وفي كلّ مرّة تجذب النفس على مهلها، وبتلذذ سعيد تنغلق له عيناها، وكأنّ شفتيها المضمومتيْن على فم السيجارة تبتهلان لشيء، أو ترشفان شيئًا، رحيق السعادة أو إكسير الحياة، ويسترخي جسدها ويتدغدغ للنفس، ثمّ تبدأ عملية الإخراج".
إنه لقاء مع كوكبة من المبدعين: الطيب صالح، ونجيب محفوظ، وغسان كنفاني ويوسف إدريس. ثمّ ندخل إلى دائرة القصّة القصيرة، فنلتقي مع محمّد علي طه، وزكي درويش، وناجي ظاهر، ومحمّد حجيرات، ونبيل عودة، وفوزي أبو بكر، وفي هذه الدائرة نلتقي بما اصطلح على تسميته بـ"الأدب المحلي"، وهي تسمية إشكاليّة كثر حولها الجدل، وراجت في صحف البلاط بعد عام 1948، ونحن اليوم نتحفظ من هذه التسمية. ثمّ ننتقل إلى المراجعات الأدبيّة، فنلتقي أحمد سعد، وياسين كتاني، وعبد العزيز أبو إصبع، وسعيد نبواني. أمّا الفصل الرابع والأخير، فيكرّسه الناقد لقراءات شعريّة، نلتقي فيها محمود درويش، وفهد أبو خضرة، ورشدي الماضي، ومنير توما، وعطاف مناع، ونمر سعدي، ووفاء بقاعي عياشي، ويكون مسك الختام الفصل الخامس، للمقالات الأدبيّة التي يقارب فيها الكاتب مواضيع أدبية عامّة. لماذا أرسم هذه اللوحة الفسيفسائيّة النقديّة، التي تتشكّل منها "أوراق" صديقنا د. محمد خليل؟ أذكر ذلك، لكي ألقي الضوء على "الأوراق النقديّة"، التي تحفل بالنصوص الإبداعيّة التي يخوض غمارها د. محمّد خليل.
وأمّا بالنسبة إلى مقارباته للنصوص الشعريّة، فأنا أشاطره الرأي في نقده لبعض النصوص التي تسللت إلى خيمة الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة، فأحرقت الجسور مع المتلقي العادي وحتى المتلقي المثقف، وبقيت متحصّنة في برجها العاجيّ بعيدًا عن الواقع، وبعيدًا عن الأفهام! يقول أرسطو في كتابه "فن الشعر"، مُعرّفًا الأدب بأنّه "عمليّة إيصال"، فالمبدع يَصبّ فكره ومشاعره في وعاء النصّ الأدبيّ، حتى يوصلها إلى العنوان النهائيّ.. القارئ المتلقي.. النصّ هو حلقة الوصل بين قطبين، وهو الجسر الذي يصل بين الشاطئين، المبدع من ناحية والقارئ المتلقي من ناحية أخرى، ويكتمل العمل الأدبيّ بالربط بين أضلاع هذا الثالوث، المبدع والنصّ والمتلقي، فإذا أغلق النصّ أبوابه وانغلق على نفسه، تعذّر وصوله إلى القارئ، وبقي المثلث بضلعين فقط، دون الثالث الذي نكتب من أجله، ونريد الوصول إليه، وتفريغ الشحنة الإبداعيّة في عقله وإحساسه ووجدانه. ينفرد الشاعر بقصيدته، ويتفرد في غموضه، ويتوالى القصف المكثف بحشد من الأساطير والرموز، والتعقيدات التي تقف حائلًا في سبيل الفهم والاستمتاع بالنصّ، فيولد حاجز الفصل بين القارئ والشاعر. وإلّا، فلمن نكتب؟ إذا كنّا نكتب لأنفسنا، فالأوْلى بنا أن نقرأ لأنفسنا، ونستمتع بنصوصنا "الإبداعيّة"، ثمّ نخزنها في ملفّاتنا، ونريح القارئ من "جهد البلا" وشرّ القتال!
أُحيلكم أيّها الإخوة إلى الكتاب القيّم "الإبهام في شعر الحداثة"، لتقفوا على مدى الدجل والبهلوانيات والشعوذات اللفظية التي يمارسها العديد من الأقلام التي تطمح وتستميت للحصول على البطاقة الذهبيّة للدخول إلى دنيا الشعر، فتنجح أحيانًا وتنطلي لعبة الحداثة على الملعوب عليهم! نحن أمام ناقد مثقف ينهل من الينابيع النقديّة على مختلف هُويّاتها، ويُواكب الإصدارات الأدبية الفلسطينيّة في هذا الوطن، ويَرصد ما يصدر من إبداعات في العالم العربيّ، ويتمتع باطلاع واسع على المدارس النقديّة، وعلى آراء كبار النقاد العرب والغربيّين. إنّه ناقد موضوعيّ وعميق التحليل، يتمتع بمسؤوليّة نقدية وأخلاقيّة عالية. يعمد الناقد إلى الآراء المختلفة، ويحللها فيثبت ما يرى ويرفض ما يرى، كما نلمس في تحليله لقصة "الهذيان" لنجيب محفوظ، ثمّ يخلص إلى رأيه الخاصّ، بعد الغوص في التحليل والمقارنة ومناقشة الرأي والرأي الآخر. ناقدنا ذوّاقة، يتمتع بذائقة فنيّة تُجيد تسليط الضوء على مَواطن الجَمال في النصّ الإبداعيّ، وهذا ما تحفل به النصوص النقديّة في "أوراق نقديّة".
يلتزم المؤلف النقد الموضوعيّ بعيدًا عن الهوى، وينحو منحى التقييم الموضوعيّ، موصِلًا إلى التقويم الذي يُضيء الطريق أمام النصّ، لإيصاله إلى شاطئ الأمان الفنيّ. أما همّ الإبداع الفلسطينيّ فهو ما يشغل بال ناقدنا، وهو ما يغطي القسم الأكبر من "الأوراق النقديّة"، وإذا نظرنا إلى خارطة المبدعين في هذا الوطن، نرى أن القنديل النقديّ الذي يحمله أبو إياد لم يكتفِ بالإضاءة على الأقلام البارزة، التي تحتلّ مركز الخارطة الأدبيّة، بل أوْلى اهتمامه بالأقلام الموهوبة والواعدة التي تعيش في الظلّ، وعلى هامش الخارطة الإبداعيّة، ولا تُجيد المزاحمة لشقّ طريقها وسط الزحام الأدبيّ وصولًا إلى دائرة الضوء. هذه الأسماء تتمتع بحضور خجول في المشهد الأدبيّ، ونكاد لا نحسّ بها ولا نراها، وهي بحاجة إلى شيء من الإضاءة، بحاجة إلى البوصلة النقديّة، لكي تأخذ بيدها، وتوصلها إلى الشاطئ الذي تصبو للوصول إليه، فيكون أبو إياد لها، ويكون حارسها وحاميها وحادي القافلة الأدبيّة. وفي هذا وذاك يلتزم أسلوبًا رزينًا متواضعًا، بعيدًا عن الأستاذية والاستعلائية التي يبرع فيها بعض الطامحين إلى التزيّي بزيّ النقاد، ويكون نصيبهم لا يُسمن ولا يُغني من جوع!
عزيزنا الدكتور محمد خليل..شكرًا على هذا العمل القيّم الذي يثري خارطة النقد الأدبي في هذا الوطن.. وسلامًا..سلامًا عليكم..وكل عام وأنتم وشعبنا بخير
وفي مداخلة د. محمد خليل جاء: شكرًا لكم جميعًا على تلبيتكم الدعوة، شكرًا للزملاء معي على المنصّة، شكرًا للمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وللنادي الثقافيّ واتحاد الأدباء الفلسطينيّين على هذه المبادرة الكريمة، كما أخصّ بالشكر المقرون بالمودة والاحترام والإكرام الأخَ الفاضلَ فؤاد نقارة، العينَ الساهرة على مدينة حيفا، هذه المدينة التي لا تغفو إلّا على إبداع ولا تصحو إلّا على ثقافة، كي تبقى كما كانت منارةً للإشعاع الحضاريّ، ومصدرًا للتنوّر الثقافيّ، منذ ما قبل النكبة إلى اليوم. وأشيدُ بجهده الدؤوب وحرصه الدائم على تنظيم مثلِ هذه النشاطات الأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، التي نحن بأمسِّ الحاجة إليها، والتي تُذكّرنا بحيفا العراقة والأصالة والمُعاصَرَة، وبدوْرِها الرياديّ سابقًا وحاضرًا، في دعم وتشجيع حركتنا الأدبيّة والثقافيّة في بلادنا الجميلة.
بداية أنوِّهُ بضرورةِ أن يتسع صدرُنا جميعًا بالاستماع لآراء بعضنا البعض بروح ديمقراطية ورويةٍ عقلانية وأناةٍ معرفية، فاختلاف الرأي يجب أن لا يفسدَ للود قضيةً كما يُقال. يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير المعروف بمحاربته للتعصب بكل أشكاله: إنّي أخالفُك رأيَك ولكنّي سأدافعُ حتى الموتِ عن حقك في إبدائه! وكان الإمامُ الشافعي سبقه إلى القول: رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأيُ غيري خطأ يحتملُ الصواب! أما أرسطو فكان يقول: من النقاش يخرج النور! فالمسألةُ لا تعدو كونَها وجهاتِ نظر، أو زوايا رؤية قد تختلف من واحدٍ إلى آخر ليس أكثر! فالنقاش والحوار مطلوبان، لكن تحت سماء روح الديمقراطية والاحترام المتبادل! فذاك وحدَهُ كفيلٌ بصقلِ المفاهيمِ والوعي وشرطِ الترقي في مدارجِ العلمِ والمعرفة.
معنى كلمةِ نقدٍ لغةً: تمييز المزيّف من الدراهم من غير المزيف. واصطلاحيًا: قراءةُ النصِ الأدبيِّ قراءةً منتجةً لا مستهلكة بُغية الكشفِ عن أسس هذا النّص ومرتكزاتِهِ المعرفيةِ والمنهجيةِ والجمالية،في ضوءِ أساليبَ أو مناهجَ معينةٍ، ومن ثَمَّ الوقوفُ على مواطن النواحي الفنية التي فيه، إيجابًا وسلبًا. حُكي أن رجلًا قال لخلف الأحمر: ما أبالي، إذا سمعتُ شعرًا استحسنتُه، ما قلتَ أنت وأصحابُك فيه!! فقال له: إذا أخذتَ درهمًا تستحسِنُه وقال لك الصيرفيُّ إنه رديء هل ينفعُك استحسانُك إياه؟! لكنه في الوقت نفسِه يمكنُ أن يُكسبَك، على المستوى الشخصي، الأعداء لا الأصدقاء، فنحن شعب يحب المديح والإطراء والمجاملات أكثر من النقد! قد نجد النقدَ الأدبي ونقدَ النقد ما زالا، إلى اليوم، الحلقةَ الأضعفَ في مشهد حركتنا الأدبية المحلية! وفي الحق، فإن غيابَ النقدِ الحقيقيِّ يساهم من حيث ندري أو لا ندري في هبوط مستوى الإبداع وتدنيه! بحيث يتركُ المجالَ مفتوحًا لكل من هبّ ودبّ بالكتابة والتأليف. لقد حان الوقت لأن نوليَ النقدَ الأدبيَ ما يستحقُه من اهتمام ورعاية!
بالنسبة لأوراق نقدية موضوعِ الأمسية: في العنوان تورية تشي بمعنىً قريبٍ غيرِ مراد وآخرَ بعيدٍ هو المراد. المأمولُ والمفترضُ أن نكتبَ والجمهورُ يقرأ! شهادتي بكتابي، تظل مجروحةً، فالحكمُ الأول والأخير هو للمتلقي أي للقارئ الكريم. أنا أقرأ وأكتب حتى أُقرأ... فإيماني بالقراءة كإيماني بالكتابة! أوراقٌ نقدية، يحملُ في جعبته إضمامةً من السهام رُميت تجاه الهدف، قد تكون أصابته وقد تكون أخطأته. مادتُه مقارباتٌ نقدية لبعض النماذج الإبداعية المحلية والعربية على المستوى النظري والتطبيقي. هي محاولاتٌ ليست قطعيةَ التقرير، ولا تدعي امتلاك الحقيقة، وأنها لا يأتيها الباطل من أمامِها ولا من خلفِها، إنما هي ذاتُ معرفةٍ نسبيةٍ نجتهد من خلالها توسيعَ آفاقِ بعضِنا البعض بطريقة الإرسال والاستقبال، وإثارةِ السؤال، لأن السؤالَ مِفتاحُ المعرفة!
لم يعد دورُ الناقد أن يقرر فقط بأن هذا النصَّ أو ذاكَ الأثرَ الأدبيَّ جيدٌ وذاك رديء، هذا جميل وذاك قبيح، فهذا أسلوب قديم، يقول شكري الماضي "وظيفة النقد الأدبي لا تعني البحثَ عن الجودة والرداءة أو الحسناتِ والعيوبِ (فهذه مهمة قديمة) بل تعني الفهمَ، فهمَ نظامِ النص وتفاعلاتِه الذاتيةِ والموضوعية وفهمَ الإنسانِ المبدعِ للأدب والمتلقي له أيضًا، وعلاقتِهما المعقدة بالعالم المعيش" (شكري الماضي: غالب هلسا.. وتطور النسق الروائي، وعي الكتابة والحياة، قراءات في أعمال غالب هلسا، ص95، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2004). كذلك ليس المطلوبُ من الناقد أن يقدم شرحًا أو تفسيرًا للنص فحسب، إنما أن يشير إلى سحرِ البيانِ الذي فيه، كما ورد في الأثرِ (إن من البيان لسحرا)! يُفترضُ بالناقدِ أن يُقدّم نصًا أدبيًا إبداعيًا لكلِّ شيءٍ نصًا يتسم بالوصفية، لا بالمعيارية التي قد يُفضي فعلُها إلى ما يُشبه فعلَ المزادِ العلني! أما الناقد السعودي عبد الله الغذامي فيقول: من لم يقوّلِ النصَّ ما لم يقله فهو ليس بناقد! هذا كلام متقدِّم جدًا، وهذا ما أجريتُه على قصيدة صمت ذات الكلمة اليتيمة للشاعر فاروق مواسي! في مقالة مطوّلة من ثلاث حلقات عنوانُها: قراءةٌ غيرُ صامتة في قصيدة صمت!
وللنقد وجهان لعملة واحدة: ففيه كشف وإضاءة وشرح وتحليل وتأويل وإفادة. مثلما فيه من البعثرة والشطط والإساءة للنص وصاحبه! كلُّ قارئ وقراءتُه، وعددُ القراءات بعدد القراء، فالنّص الإبداعي حمّالُ أوجه وقراءاتٍ متعددة. أضف إلى ذلك فإن النقدَ الأدبي يُفترضُ أن لا يتمَّ إلا في أجواءٍ من الحرية المطلقة، النقد الأدبي لا يعرف قيودًا أو حدودًا، وهو غيرُ خاضعٍ لأي قيد أو شرط! هنالك إجراءاتٌ نقدية لا بدَّ من تطبيقها على النص أو الأثر الأدبي سواء أكان شعرًا أم نثرًا أم نصًا دينيًا مقدسًا، كلها، ولا استثناء، خاضعةٌ للنقد والتشريح والتفسير والتفكيك والتأويل مبنى ومعنى ومن منظور نفسي أو اجتماعي أو جمالي وما إلى ذلك بغية فهمها، وتحقيقِ أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المتعة واللذة المشتهاة والفائدة المرجوة، والقيمة المضافة لا أحدَ فوق النقد وتلك قاعدة نقدية أساسية لا يمكن أن يتجاهلَها أو ينكرها أحد! مرة أخرى، شكرًا لكم جميعًا على حسن الاستماع، وكل عام وأنتم بخير لمناسبة عيد الأضحى المبارك.