حكايتي مع صديقي الطبيب الحاذق

2020-07-05

صديقي العتيد المعتّق الطبيب الحاذق والموغلة علاقتي به من زمن الفتوّة والصبا ومازالت في أوج توهّجها، هذا الصديق يتصل بي بين الفينة والفينة كلما احسّ بوجود وقت فراغ لديه  وما أقلّ فراغهُ في غمرة انشغالاته الجمّة، يتنقل من مشفى الى آخر وهو الإخصائي الضليع في أمراض القلب والأوعية الدمويّة لنقضي جلسات ومسامرات بصحبة  بعض أصدقائنا القدامى  فقد اعتدنا على أن نرتّب لقاءاتنا كلما أكرمَنا الوقت  بفسحة من اللقاء، ثم جاء زمن الكورونا الوغد ليزيدنا بعدا وتفريقا باستثناء اللقاءات الهاتفية ونصائحه الجمّة عبر الأثير خوفاً عليّ مما لا تحمد عقباه لو نزلت هذه الكورونا على صدري وأقامت ردحا في رئتيّ المتعبتين أصلاً جراء التدخين الهائل الذي أمارسه .

ومن طباع هذا النطاسيّ الصديق الحميم واهتمامه الملفت بي أنه لايني يراقب وضعي الصحي باهتمام بالغ ويعمل على فحص ضغط الدم بنفسه كلما التقينا، هذا الرجل الصديق المزدحم على الدوام والذي يندر جدا اللقاء به لكثافة عمله؛ يحسب عدد دقات قلبي المتعب ويرغمني على فحص دمي من المختبر الملاصق إلى عيادته  دون ان يكلّفني مالا من جيبي الشحيح أصلا من أجل معرفة نسبة السكّري الذي لازمني طويلا ويوصيني بانتقاء ما أتناوله راجيا مرةً وحازما مرةً أُخرى لو رأى مني هوانا أو تكاسلا ويتندّر معي ساخرا قائلا لي : إنني طوع أمرك الآن .

لكن الغريب حقا أن صديقي النطاسيّ العزيز عليَّ لا يبدي أيّ اهتمام بوضعه الصحي المعتلّ هو الآخر ويتناسى أنه مثلي مبتلٍ بدزينة من الأمراض الشائعة ونحن على أعتاب الشيخوخة وجسده صار مرتعا خصبا للأمراض وكلما أهمس في أذنه مشاغبا ومداعبا أن يلتفت إلى نفسه أول الأمر غير أنه يردّ عليّ مازحا بان باب النجار ستبقى مخلوعة وإن حذاء الإسكافي الماهر سيبقى متهرئا، ولا يخفي عليّ صراحته المعهودة بأنه أكثر سقماً من مراجعيه المرضى غير أنه يتحامل على نفسه ويحمل عبء ما يعانيه جسدُه طالما أن مريديه المرضى هم بأمسّ الحاجة اليه .

ويعلل ذلك بقوله إن الأطباء المصابين بالسقام يمكن أن يكونوا أصعب أنواع المرضى تعاملاً لأنهم نادراً ما يراجعون زملاءهم ذوي الإختصاص ولا يأبهون بالعلل السود الكامنة وراء ملابسهم البيض لا يتعاطون الأدوية والعقارات التي يقترحونها ويصفونها لمراجعيهم، كما أنهم أقلّ الناس ممارسة للرياضة وكثيرا ما تزداد معاناتهم النفسية عندما تبلغ بهم نرجسية التفوّق العلمي وقد تصل إلى حدّ العجرفة والثقة بالنفس مبلغا؛ إذ يعمدون إلى تناول الأدوية بأنفسهم عند اقتضاء الحاجة  دون استشارة زملائهم الإخصائيين ربما لشدة ثقتهم التي يتوهمونها إنها الأنجع والأكثر فعالية وقد يُكذّبون حتى نتائج التحليلات الخاصة بهم عندما تردهم من غرف المختبر ويبدو أن أمثالنا السائرة بين ظهرانينا لم تجانب الصواب حين تندّرت وتعجبت كيف أن " طبيبا يداوي الناس وهو عليل " .

وتبقى غرائب الحياة شائعة ومحيّرة حقا فالنجار الماهر الذي يلوي الخشب الصلب ويلينه باحتراف متقن قد يصل حدّ البراعة وبلمسات فنية تخلب الأنظار وتسحر الألباب يعجز تماما عن إصلاح باب بيته المتهالكة وكذا الإسكافي الذي يفهم تماما أن أناقة الإنسان تبدأ من حذائه أولا لكنه لا يفلح أبدا من أن ينتعل حذاءً جميلا مريحا وتراه يبخس على نفسه جديدا ويقنع ذاته أن يلبس حذاءً طنبوريا تالفا مع أنه يشغل كلّ ذهنه ومهارته لتصميم أحذية فيها من الإبتكار والصنعة الحسنة الشيء الكثير مثل حال صديقنا الطبيب اللوذعي الذي لا يعبأ ابدا بوضعه الصحي وكلّ اهتمامه أن يرضيني ويرضي مراجعيه المرضى المبتلين بالأسقام  .

ويبدو ان معظم الأشخاص – أصحّاء كانوا أم مبتلين بالسقام – لا يتصرفون بعقلانية تجاه صحتهم بما في ذلك ممتهنو الطب البشري وما يتعلق بهم من صيادلة وممرضين وذوي المهن الصحية إذ إن سلوكهم الخاص تجاه صحتهم ليس خاضعا للعقل الاّ بنسبة قليلة جداً ومن النادر جدا أن ترى أحدا يفكّر في إضافة خمس أو ست سنوات إلى عمره لو التزم بوصايا ونصائح الناصحين ذوي الخبرة والإختصاص الطبي .

فمن منّا نهض صباحا ليمارس رياضة الجري والهرولة  سواء كنا فتيانا أو في مراحل العمر المتأخرة أو انتقى طعاما صحيا بحسابات السعرات الحرارية وفق مقادير محسوبة، وحتى لو مارسناها أمدا محدودا فإننا نادراً ما نواظب عليها لتكون عادة متّبعة متداولة يوميا وكم عجزنا عن إقناع أولادنا الشباب للإقلاع عن التدخين أو الحذر من السمنة المفرطة مع إننا نمتلك البراهين والأدلّة على خطورتها ودنوّها من الموت لكننا ننعطف كثيراً للإهتمام بصحتنا حينما ينذرنا العطل أو يقتحمنا المرض المفاجئ وتبدأ التوقعات السيئة بالظهور إلى العلن مما يعني بجلاء إننا لا نفكّر بأوضاعنا الصحية مبكرا ونفتقد الرؤيا العلاجية على المدى البعيد وأعتقد جازما أن هذا الحال جزء من تكويننا النفسي وقد أكون أنا وصديقي الطبيب الماهر من هؤلاء الذين لا يبالون بعافيتهم الاّ بعد فوات الأوان .

ومن الحالات التي  تبعث الراحة في نفسي حينما أرى البعض يسابق ظهور الأمراض وأوجاع الشيخوخة ويعمل على تعطيلها مدة أطول ويولي اهتماما ملحوظا بعافيته ليكسب مزيدا من سنوات العمر لحياته من خلال ترويض نفسه وانتقاء الطعام الأفضل لغذائه الصحي والنأي عن كل ما ينغّص مجرى حياته لتكون سلسة وضّاءة مستبشرة يعيشها بهناء لما تبقّى من العمر ويسير في مسالكها غير الوعرة وكأنه في مشوار عشق للقاء من يحبّ .

وكم ستكون حياتنا بهيجة لو استمررنا على هذا المنوال، وهذا ما أوصاني به صديقي الطبيب دون أن يوصي نفسه أولا فهذه غرائب الحياة أن يهتمّ الإنسان بالآخرين ويغفل ذاته ولا أدري هل فات الأوان أم مازال في العمر بقية لنعيشه على أفضل ما يرام  .

 

 

 

 

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved