يطرح الكثير من المفكّرين العرب، وعلى رأسهم المرحوم المفكّر العراقي “هادي العلوي” هذا السؤال: هل هناك حاجة لأن تكون لدينا مدرسة عربية في الفلسفة.. رغم أن الفلسفة هي فكر كوني يبحث في الوجود كوجود وكموجود.
هل هناك مدرسة عربية في الفلسفة. وهل ثمة وجود وضرورة وجود لماهية قومية للفكر والمعرفة والحقيقة.
هل ثمّة مدرسة عربية للفلسفة؟ البداهة والمنطق وعلم المعرفة (الأبستمولوجيا) تؤكد ما ينفي هذا السؤال وهذه المسألة. فالفلسفة فكرٌ كوني (أبستمي) يتعيّن بالرأي المجرّد المتجرّد (Ordoxa بالإغريقية) وليس بمجرّد الرأي Doxa، وهو يبحث في الحق – لذاته، والحقيقة لذاتها، بمنأى ومعزل عن أية نزعة ماهوية، قومية، أو دينية، أو أيدولوجيا قبلية أو بعدية. والفلسفة بطبعها وطابعها تقوم على السؤال والترحال المعرفي. في ضوء المعرفة وتعالي الفكر وحرية البحث والنظر والتساؤل.
إذاً لماذا ندعو إلى وجود مثل هذه المدرسة العربية للفلسفة؟ وهل ثمّة عودة إلى إشكالية منطق يونان ولغة عدنان القديمة – المتجددة؟
كلا، ليست غاية المدرسة العربية للفلسفة التأكيد على نزعة قوموية ضيقة، وإنما عن دور معرفي، كوني، إنساني، إسهامي، يُحرّر الإنسان العربي ويُحرّر الإنسانية.
الفلسفة، كالتاريخ أدوار وأطوار، وبهذا المعنى يُمكننا أن نتحدّث عن طور إغريقي ودور عربي وإسهام ألماني وفرنسي دون الوقوع في إسار النزعة القومية التشوفية الضيقة Chauvinism.
والفلسفة في العصور الحديثة غدت مقترنة ليس فقط بلغة المنطق، وإنما بمنطق اللغة وبعلوم اللغة والدلالة والمعنى والقيمة. ولهذا لم تعد لغة عدنان في تعارض مع منطق الإغريق ولا لغة العرب مع لغة الإنسان، في السعي إلى الحقيقة الكونية الواحدة – المتعددة.
هل يسوغ لنا واقعنا الحضاري، الفكري والعملي المادي والمعنوي، هذا الادعاء بالكونية وتحرير الإنسان والإنسانية؟
يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز إنَّ أفضل الأشياء الوسطية أو الأمور الوسطى ولكأنّه في طرحه وجمعه هذا يُقدّم لنا المفتاح والمفهوم الذي يقوم عليه الدور العربي في الفلسفة والحضارة قديماً وحديثاً وهو الوسطية، فالوسطية سمة الأمة العربية التي تجمع في موقعها وخصائصها ورسالتها الوسطية والتواصل التاريخي بين الماضي والحاضر (التاريخانية) وعلاقة الجغرافيا بالوسط، والحضارات التالدة بالجديدة، والبيئة بالمجال والفلسفة بالحكمة (والفلسفة هي طلب الحكمة والإحكام والحاكمية) في الدعوة إلى المدينة الفاضلة والمدنية الفاضلة.
قد لا يُجيز لنا الظاهر والعيان الكلام عن دور وطور عربي في تجديد الإنسانية وتحرير الإنسان. لكنّ الإمكانيات والطاقات المتوّفرة تُخوّلنا الادعاء بدور قديم – جديد، يقرن الإمكانية بالفعالية والطاقة بالقوة والثروة بالثورة، والإنسان بالإنسانية، أما إذا اقترن مشروعنا العربي بمشروعنا الإنساني في سعينا إلى الفعالية والمشروعية والكينونة الحقة.
الأمة العربية قوية بإمكاناتها وطاقاتها، ودورها ورسالتها، وإن كانت ضعيفة ومُستضعفة بسياسات أنظمتها ودولها وقادتها. وربّ قادة أكبر من شعوبهم في الدور والمكانة، بل رُبّ قادة وأنظمة أصغر من أممهم العظيمة، فليست اليابان أكبر من الصين عدداً ومساحةً، ولكنّ قادتها (الميكادو) جعلوا من جزر اليابان أمّة عظيمة، ومن المؤسف أنّ الأمة العربية العظيمة (بامتدادها الحضاري) لا تجد في الأنظمة السائدة والقادة ما يُناسب ويُطابق إمكاناتها العظيمة.
كيف تأتّى للعربي البدوي في النهضة العربية – الإسلامية الأولى أن يقود (بأسلوب أو بآخر) حضارات العالم الكبرى (من ساسان ويونان وتركمان)، فيما ترزح أمتنا العربية الحاضرة في حالة من الضعف والتأخّر والتخلّف، وهي القوية بإمكاناتها وطاقاتها ورسالتها ودورها الإنساني؟
هل وصلنا إلى “نهاية العربة والعروبة” ونهاية التاريخ، كما يرى بعض أبناء هذه الأمة – ناهيك عن أعدائها؟ هل في عقوق هؤلاء الأبناء حقيقة، وآية لنهاية التاريخ أم علامة لبداية التاريخ، وعودٌ على بدء، في العود الأبدي – الأزلي للحضارة الإنسانية؟
فمُنذُ أن وجد هيدغر أنَّ اللغة مسكن الكينونة صار المفهوم (أو الأفهوم) مُرادفاً للمعنى، والدلالة والإشارة والقيمة والبنية، وليس مُرادفاً للماهية، أو الذاتية أو مُطابقاً لمبدأ الهوية (الشيء بما هو هو) بالمعنى المنطقي أو بالمعنى الوجودي الحصري ontique. وقد اعتبر هيدغر الفكر Dinken أشمل من الفلسفة. فالفلسفة “اصطلاح” نظامي عقلاطي (لوغوقراطي)، بينما الفكر انفتاح وعلاقة ودينامية وجدلية، بين الفكر واللامُفكّر فيه والعقل واللامعقول، والهوية والاختلاف والكلمات والأشياء.
والحال هذه أصبحت الفلسفة مُتعدّدة – لا تقوم على جدلية الاختلاف والائتلاف فحسب – بل تنطوي في صيرورتها الحاضرة على بُعد معرفي جديد يقوم على مبدأ الفروعية PlurididciPlinarite في علاقة الفلسفة بحقول المعرفة المتشابكة والمتداخلة المُعقّدة من فلسفة المرئي والمسموع (الصوت والصورة) إلى فلسفة اللامرئي الحدثي والميتافيزيقي مروراً بفلسفة “الصمت” و “الموت” والذكاء المصنعي، والمنطق الرياضي، وفلسفة العلم، وفلسفة الفلسفة (الأبستمولوجيا) والسبرنطيقا التأويلية ألخ.. وبناءً على هذه التطورات أصبحت الفلسفة لا شخصية depersonalise، ولم تعد تقترن بأسماء العلم (الكانطية، أو الهيغلية، أو الماركسية وغيرها).
والفلسفة والحال هذه تختص بما هو كلّي وكوني طلباً للحق – لذاته والحقيقة – لذاتها أو الفكر المحض في مجالها الخاص ونطاقها المعرفي.
وإشكالية الترجمة أوسع وأكثر تعقيداً من ترجمة النصوص، بالمعنى التكنوقراطي، فالنفس أوسع من النص، والروح أشمل من الحرف والقراءة أعقد من الكتابة وبالمنطوق الحسابي (التكنوقراطي) إذا اعتبرنا أن لا فلسفة إلا بعد الترجمة، فلابد أن نجد ما يُقابل ذلك بالقول بأن لا ترجمة إلا بالفلسفة. إن فعل الفلسفة لم يعد في هذا العصر اللغوي بامتياز من داخل الفلسفة ومن خارجها بحاجة إلى عصر تدوين للدخول إلى عالم الحقيقة والمعرفة. وإلا يُصيبنا ما أصاب حمار بوريدان الذي احتار ما بين الماء والطعام (العلف) فمات جوعاً وعطشاً إذ لا داعي لهذه المعادلة والمفاضلة ما بين الفلسفة والترجمة، لأن إناطة الفلسفة بالترجمة رغم أهميتها مع وجود الفارق التراكمي الهائل بيننا وبين الغرب – ناهيك عن حالة التسارع في إنتاج المعارف الجديدة – تعني أن تمضي حياتنا الحاضرة والمستقبلية بالترجمة فمتى نُبدع ونبتكر ونُساهم في الكونية؟ وهل الترجمة تُعارض الإبداع؟ الأجدى، والحال هذه، ليس الدخول في لعبة التسارع واللامجدية وإنما التفلسف انطلاقاً من الوضع والظرف المحلي، الذي ترفد فيه الكوني ويرفدنا في جدلية الخاص والعام. وإذا كان الغرب يتقدم بالتقنية فإنه يتقهقر بالنزعة التكنوقراطية، وإذا كان يتقدم في السيطرة على الطبيعة فإنه يتخلّف في الحفاظ على البيئة والمجال. وإذا كان يتقدم بالاقتصاد فإنه متأخر في مجال القيمة والحاجة. وإذا فصل السياسة عن الأخلاق فإنه بحاجة إلى وصل السياسة بالفضيلة وإذا تقدّم بالمادة فقد تراجع في المجال القيمي – الحيوي (الروحي) وفي كل هذا بمقدور الفلسفة العربية أن تُسهم في تحرير الإنسان والإنسانية، كونها تقوم على الوسط والوسطية: فالثقافة المُبدعة هي التي تأتي من الوسط وتقوم على الوسطية.
وأخيراً، وليس آخراً الفلسفة العربية المُعاصرة قائمة في كل المقولات والمقالات المنطوية على البحث في الحق – لذاته والحقيقة – لذاتها في تواضع البحث عن الحقيقة، وعدم ادعاء امتلاك المعرفة واحتكار التسمية.
لعلّ أهمية الدور الفلسفي والعلمي للعرب تكمن بادئ ذي بدء في معنى العقل نفسه، مناط وأس وأساس الفلسفة، فالعقل يعني بالعربية “الربط” (عقل الشيء أي ربطه) والفلسفة الحديثة تقوم على الترابط والجدل ما بين الذهني والعيني، العقلي والحسي والمختلف والمؤتلف والقدسي والدهري، والمتعالي والمحايث، في ذاتية الشيء والظاهرة.
الأصول والفروع:
يعتقد أعلام المدرسة العربية للفلسفة والمعرفة (مَعْلَم) بالدور الكوني الطليعي للفكر العربي الذي من شأنه إذا توفّر له المشروع الذي يُوطّد ويُعزّز مشروعية هذه الأمة في دورها الإنساني الكبير، لتحرير الإنسان والإنسانية بتحرير الحداثة وما بعد الحداثة من حالة اللاطبعنة واللاأنسنة واللاقدسنة التي تشوب مجتمع الاستهلاك وحضارة السوق في العصر الحديث. وتجد المدرسة العربية للمعرفة (مَعْلَم) جذورها في النهضة العربية – الإسلامية الأولى، والفلسفة الأولى، في بحثها عن الحق – لذاته والحقيقة – لذاتها (كما عرّفها الفارابي “المعلم الثاني”) مثلما تجد جذورها في منطق اليونان، والحضارات القديمة، وفي التجريبية العربية، وفلسفة ابن رشد والرشدية، وابن سينا والسينوية، والخلدونية وعلم الاجتماع والتاريخ، والشيرازي رائد الوجودية الأولى المؤكدة على علاقة الأذهان بالأعيان والوجود بالحركة الجوهرية.
كما تجد أصولها في عصر النهضة الثانية، مع الطهطاوي المعلم النهضوي الأول، وكل رجالات ونساء النهضة العربية الثانية، أما رموز وأعلام المدرسة العربية الراهنة للفلسفة فهم كثر، ولذلك لا طائل ولا معنى من الحديث عن عدم وجود قول عربي ومدرسة عربية في الفلسفة. فالفلسفة العربية حاضرة ولا ريب (من وجودية عبد الرحمن بدوي حتى فكر عبد الرحمن مرحبا) كما هي موجودة في منطق النص، ونقد الذات، ونقد النقد في مساهمات الفلاسفة والمفكرين العرب، بأسمائهم الكبيرة وقاماتهم العالية المديدة.
وهي موجودة وحاضرة في القول الفلسفي وفلسفة الاختلاف مع مفكرين يجمعهم الاتفاق، في اختلاف مشاربهم وأطروحاتهم “واختلاف أمتي رحمة”، من شيخ الفلاسفة الدكتور عبد الرحمن مرحبا الذي يُعيد في كتابه الكبير “الفكرانية” الأهمية لقوة الفكر، والرأي في علاقة الفكر بالوجود، بالتأكيد على كينونة الفكرة والهوية والتجربة التي تعيّن ماهية الشيء كما تعين ماهية الإنسان (فأفلاطون هو فكر أفلاطون، وأينشتين هو فكر أينشتين كما أن الكتاب هو فكرة الكتاب، واللوحة فكرة اللوحة، وفي هذا الطرح – الجمعي ريادة فكرية أكيدة).
المفكر العربي العلماني هادي العلوي في كتبه التي تربو على العشرين يُشير بشكلٍ واضح إلى ضرورة وجود فكر عربي فلسفي مُعاصر نابع من كينونة الفكرة والهوية والتجربة الذاتية.
كما نجد في مساهمة علم النفس المعرفي، فلسفة ميتا-بسيكولوجية في كتابات رائد النقد السيكولوجي – المعرفي المفكر علي زيعور. ونجده في الكتابة العلمية، في مجال فلسفة النص وأبستمولوجيا ما بعد – الحداثة والألسنية وفلسفة العلوم عند الفيلسوف سامي أدهم صاحب “ما بعد الفلسفة”. كما هي موجودة في الدعوة إلى الفكر المحض الباحث عن الحق – لذاته والحقيقة – لذاتها عند د. جميل قاسم. وفي النقد السوسيولوجي الفلسفي (هشام شرابي وعبد الله العروي، نديم البيطار، وحليم بركات) وفي أدبيات التنمية المستقلة والمستدامة (سمير أمين وغيره) وما يوحّد رواد المدرسة العربية للفلسفة هو منطق الاختلاف والاعتراف بالذات والآخرين في فلسفة عربية تقرن المحلية بالعالمية، ولغة عدنان بمنطق اليونان والألمان والهند واليابان وغيرهم من شعوب الأرض قاطبة في السعي إلى تحرير الإنسان وتحرير الإنسانية، بمنأى عن سياسات الهيمنة والسيطرة و”الاستعمار والإمبرياليات القديمة” والمستحدثة.
يرى بعض أساتذة الفلسفة (خصوصاً في الجامعة اللبنانية) أ، لا وجود لفلسفة حديثة أو معاصرة في العربية، وإن كانت هناك محاولات في الفكر، ولكن شتان ما بين الفكر والفلسفة؟ ويرى هؤلاء أن إمكان الفلسفة في العربية – يكاد بل هو ينحصر ويقتصر على الترجمة من اللغات الفلسفية الحديثة، بحيث يكون المترجم – كما يذهب الباحث التونسي فتحي المسكيني – هو الفيلسوف من حيث كونه ناقل أو حامل أو فاعل الفكر الفلسفي؟ أو الفلسفة.
في المقابل يرى آخرون – ومنهم د. جميل قاسم – أن طرح هذا السؤال سؤال “الإمكان خطأ باعتبار أن الفلسفة العربية ليست ممكنة فحسب، بل هي موجودة ومتحققة في الكثير من الكتابات والمحاولات الفكرية – الفلسفية (كتابات عبد الله العروي، الجابري، حسين مروة، حسن حمدان، مطاع صفدي، علي حرب، علي زيعور، ناصيف نصار، سامي أدهم، هشام شرابي، عادل فاخوري، زكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم) حيث أن الفلسفة لم تعد فلسفة نظامية Systematique، بل غدت مع تطوّر العلوم (علوم الإنسان والطبيعة) فلسفة في الفلسفة، أو لا فلسفة (فلسفة – مضادة للفلسفة)، وذلك مع صيرورة عامل اللغة كمفهوم تكويني للقول الفلسفي.
علوي” هذا السؤال: هل هناك حاجة لأن تكون لدينا مدرسة عربية في الفلسفة.. رغم أن الفلسفة هي فكر كوني يبحث في الوجود كوجود وكموجود.
هل هناك مدرسة عربية في الفلسفة. وهل ثمة وجود وضرورة وجود لماهية قومية للفكر والمعرفة والحقيقة.
هل ثمّة مدرسة عربية للفلسفة؟ البداهة والمنطق وعلم المعرفة (الأبستمولوجيا) تؤكد ما ينفي هذا السؤال وهذه المسألة. فالفلسفة فكرٌ كوني (أبستمي) يتعيّن بالرأي المجرّد المتجرّد (Ordoxa بالإغريقية) وليس بمجرّد الرأي Doxa، وهو يبحث في الحق – لذاته، والحقيقة لذاتها، بمنأى ومعزل عن أية نزعة ماهوية، قومية، أو دينية، أو أيدولوجيا قبلية أو بعدية. والفلسفة بطبعها وطابعها تقوم على السؤال والترحال المعرفي. في ضوء المعرفة وتعالي الفكر وحرية البحث والنظر والتساؤل.
إذاً لماذا ندعو إلى وجود مثل هذه المدرسة العربية للفلسفة؟ وهل ثمّة عودة إلى إشكالية منطق يونان ولغة عدنان القديمة – المتجددة؟
كلا، ليست غاية المدرسة العربية للفلسفة التأكيد على نزعة قوموية ضيقة، وإنما عن دور معرفي، كوني، إنساني، إسهامي، يُحرّر الإنسان العربي ويُحرّر الإنسانية.
الفلسفة، كالتاريخ أدوار وأطوار، وبهذا المعنى يُمكننا أن نتحدّث عن طور إغريقي ودور عربي وإسهام ألماني وفرنسي دون الوقوع في إسار النزعة القومية التشوفية الضيقة Chauvinism.
والفلسفة في العصور الحديثة غدت مقترنة ليس فقط بلغة المنطق، وإنما بمنطق اللغة وبعلوم اللغة والدلالة والمعنى والقيمة. ولهذا لم تعد لغة عدنان في تعارض مع منطق الإغريق ولا لغة العرب مع لغة الإنسان، في السعي إلى الحقيقة الكونية الواحدة – المتعددة.
هل يسوغ لنا واقعنا الحضاري، الفكري والعملي المادي والمعنوي، هذا الادعاء بالكونية وتحرير الإنسان والإنسانية؟
يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز إنَّ أفضل الأشياء الوسطية أو الأمور الوسطى ولكأنّه في طرحه وجمعه هذا يُقدّم لنا المفتاح والمفهوم الذي يقوم عليه الدور العربي في الفلسفة والحضارة قديماً وحديثاً وهو الوسطية، فالوسطية سمة الأمة العربية التي تجمع في موقعها وخصائصها ورسالتها الوسطية والتواصل التاريخي بين الماضي والحاضر (التاريخانية) وعلاقة الجغرافيا بالوسط، والحضارات التالدة بالجديدة، والبيئة بالمجال والفلسفة بالحكمة (والفلسفة هي طلب الحكمة والإحكام والحاكمية) في الدعوة إلى المدينة الفاضلة والمدنية الفاضلة.
قد لا يُجيز لنا الظاهر والعيان الكلام عن دور وطور عربي في تجديد الإنسانية وتحرير الإنسان. لكنّ الإمكانيات والطاقات المتوّفرة تُخوّلنا الادعاء بدور قديم – جديد، يقرن الإمكانية بالفعالية والطاقة بالقوة والثروة بالثورة، والإنسان بالإنسانية، أما إذا اقترن مشروعنا العربي بمشروعنا الإنساني في سعينا إلى الفعالية والمشروعية والكينونة الحقة.
الأمة العربية قوية بإمكاناتها وطاقاتها، ودورها ورسالتها، وإن كانت ضعيفة ومُستضعفة بسياسات أنظمتها ودولها وقادتها. وربّ قادة أكبر من شعوبهم في الدور والمكانة، بل رُبّ قادة وأنظمة أصغر من أممهم العظيمة، فليست اليابان أكبر من الصين عدداً ومساحةً، ولكنّ قادتها (الميكادو) جعلوا من جزر اليابان أمّة عظيمة، ومن المؤسف أنّ الأمة العربية العظيمة (بامتدادها الحضاري) لا تجد في الأنظمة السائدة والقادة ما يُناسب ويُطابق إمكاناتها العظيمة.
كيف تأتّى للعربي البدوي في النهضة العربية – الإسلامية الأولى أن يقود (بأسلوب أو بآخر) حضارات العالم الكبرى (من ساسان ويونان وتركمان)، فيما ترزح أمتنا العربية الحاضرة في حالة من الضعف والتأخّر والتخلّف، وهي القوية بإمكاناتها وطاقاتها ورسالتها ودورها الإنساني؟
هل وصلنا إلى “نهاية العربة والعروبة” ونهاية التاريخ، كما يرى بعض أبناء هذه الأمة – ناهيك عن أعدائها؟ هل في عقوق هؤلاء الأبناء حقيقة، وآية لنهاية التاريخ أم علامة لبداية التاريخ، وعودٌ على بدء، في العود الأبدي – الأزلي للحضارة الإنسانية؟
فمُنذُ أن وجد هيدغر أنَّ اللغة مسكن الكينونة صار المفهوم (أو الأفهوم) مُرادفاً للمعنى، والدلالة والإشارة والقيمة والبنية، وليس مُرادفاً للماهية، أو الذاتية أو مُطابقاً لمبدأ الهوية (الشيء بما هو هو) بالمعنى المنطقي أو بالمعنى الوجودي الحصري ontique. وقد اعتبر هيدغر الفكر Dinken أشمل من الفلسفة. فالفلسفة “اصطلاح” نظامي عقلاطي (لوغوقراطي)، بينما الفكر انفتاح وعلاقة ودينامية وجدلية، بين الفكر واللامُفكّر فيه والعقل واللامعقول، والهوية والاختلاف والكلمات والأشياء.
والحال هذه أصبحت الفلسفة مُتعدّدة – لا تقوم على جدلية الاختلاف والائتلاف فحسب – بل تنطوي في صيرورتها الحاضرة على بُعد معرفي جديد يقوم على مبدأ الفروعية PlurididciPlinarite في علاقة الفلسفة بحقول المعرفة المتشابكة والمتداخلة المُعقّدة من فلسفة المرئي والمسموع (الصوت والصورة) إلى فلسفة اللامرئي الحدثي والميتافيزيقي مروراً بفلسفة “الصمت” و “الموت” والذكاء المصنعي، والمنطق الرياضي، وفلسفة العلم، وفلسفة الفلسفة (الأبستمولوجيا) والسبرنطيقا التأويلية ألخ.. وبناءً على هذه التطورات أصبحت الفلسفة لا شخصية depersonalise، ولم تعد تقترن بأسماء العلم (الكانطية، أو الهيغلية، أو الماركسية وغيرها).
والفلسفة والحال هذه تختص بما هو كلّي وكوني طلباً للحق – لذاته والحقيقة – لذاتها أو الفكر المحض في مجالها الخاص ونطاقها المعرفي.
وإشكالية الترجمة أوسع وأكثر تعقيداً من ترجمة النصوص، بالمعنى التكنوقراطي، فالنفس أوسع من النص، والروح أشمل من الحرف والقراءة أعقد من الكتابة وبالمنطوق الحسابي (التكنوقراطي) إذا اعتبرنا أن لا فلسفة إلا بعد الترجمة، فلابد أن نجد ما يُقابل ذلك بالقول بأن لا ترجمة إلا بالفلسفة. إن فعل الفلسفة لم يعد في هذا العصر اللغوي بامتياز من داخل الفلسفة ومن خارجها بحاجة إلى عصر تدوين للدخول إلى عالم الحقيقة والمعرفة. وإلا يُصيبنا ما أصاب حمار بوريدان الذي احتار ما بين الماء والطعام (العلف) فمات جوعاً وعطشاً إذ لا داعي لهذه المعادلة والمفاضلة ما بين الفلسفة والترجمة، لأن إناطة الفلسفة بالترجمة رغم أهميتها مع وجود الفارق التراكمي الهائل بيننا وبين الغرب – ناهيك عن حالة التسارع في إنتاج المعارف الجديدة – تعني أن تمضي حياتنا الحاضرة والمستقبلية بالترجمة فمتى نُبدع ونبتكر ونُساهم في الكونية؟ وهل الترجمة تُعارض الإبداع؟ الأجدى، والحال هذه، ليس الدخول في لعبة التسارع واللامجدية وإنما التفلسف انطلاقاً من الوضع والظرف المحلي، الذي ترفد فيه الكوني ويرفدنا في جدلية الخاص والعام. وإذا كان الغرب يتقدم بالتقنية فإنه يتقهقر بالنزعة التكنوقراطية، وإذا كان يتقدم في السيطرة على الطبيعة فإنه يتخلّف في الحفاظ على البيئة والمجال. وإذا كان يتقدم بالاقتصاد فإنه متأخر في مجال القيمة والحاجة. وإذا فصل السياسة عن الأخلاق فإنه بحاجة إلى وصل السياسة بالفضيلة وإذا تقدّم بالمادة فقد تراجع في المجال القيمي – الحيوي (الروحي) وفي كل هذا بمقدور الفلسفة العربية أن تُسهم في تحرير الإنسان والإنسانية، كونها تقوم على الوسط والوسطية: فالثقافة المُبدعة هي التي تأتي من الوسط وتقوم على الوسطية.
وأخيراً، وليس آخراً الفلسفة العربية المُعاصرة قائمة في كل المقولات والمقالات المنطوية على البحث في الحق – لذاته والحقيقة – لذاتها في تواضع البحث عن الحقيقة، وعدم ادعاء امتلاك المعرفة واحتكار التسمية.
لعلّ أهمية الدور الفلسفي والعلمي للعرب تكمن بادئ ذي بدء في معنى العقل نفسه، مناط وأس وأساس الفلسفة، فالعقل يعني بالعربية “الربط” (عقل الشيء أي ربطه) والفلسفة الحديثة تقوم على الترابط والجدل ما بين الذهني والعيني، العقلي والحسي والمختلف والمؤتلف والقدسي والدهري، والمتعالي والمحايث، في ذاتية الشيء والظاهرة.
الأصول والفروع:
يعتقد أعلام المدرسة العربية للفلسفة والمعرفة (مَعْلَم) بالدور الكوني الطليعي للفكر العربي الذي من شأنه إذا توفّر له المشروع الذي يُوطّد ويُعزّز مشروعية هذه الأمة في دورها الإنساني الكبير، لتحرير الإنسان والإنسانية بتحرير الحداثة وما بعد الحداثة من حالة اللاطبعنة واللاأنسنة واللاقدسنة التي تشوب مجتمع الاستهلاك وحضارة السوق في العصر الحديث. وتجد المدرسة العربية للمعرفة (مَعْلَم) جذورها في النهضة العربية – الإسلامية الأولى، والفلسفة الأولى، في بحثها عن الحق – لذاته والحقيقة – لذاتها (كما عرّفها الفارابي “المعلم الثاني”) مثلما تجد جذورها في منطق اليونان، والحضارات القديمة، وفي التجريبية العربية، وفلسفة ابن رشد والرشدية، وابن سينا والسينوية، والخلدونية وعلم الاجتماع والتاريخ، والشيرازي رائد الوجودية الأولى المؤكدة على علاقة الأذهان بالأعيان والوجود بالحركة الجوهرية.
كما تجد أصولها في عصر النهضة الثانية، مع الطهطاوي المعلم النهضوي الأول، وكل رجالات ونساء النهضة العربية الثانية، أما رموز وأعلام المدرسة العربية الراهنة للفلسفة فهم كثر، ولذلك لا طائل ولا معنى من الحديث عن عدم وجود قول عربي ومدرسة عربية في الفلسفة. فالفلسفة العربية حاضرة ولا ريب (من وجودية عبد الرحمن بدوي حتى فكر عبد الرحمن مرحبا) كما هي موجودة في منطق النص، ونقد الذات، ونقد النقد في مساهمات الفلاسفة والمفكرين العرب، بأسمائهم الكبيرة وقاماتهم العالية المديدة.
وهي موجودة وحاضرة في القول الفلسفي وفلسفة الاختلاف مع مفكرين يجمعهم الاتفاق، في اختلاف مشاربهم وأطروحاتهم “واختلاف أمتي رحمة”، من شيخ الفلاسفة الدكتور عبد الرحمن مرحبا الذي يُعيد في كتابه الكبير “الفكرانية” الأهمية لقوة الفكر، والرأي في علاقة الفكر بالوجود، بالتأكيد على كينونة الفكرة والهوية والتجربة التي تعيّن ماهية الشيء كما تعين ماهية الإنسان (فأفلاطون هو فكر أفلاطون، وأينشتين هو فكر أينشتين كما أن الكتاب هو فكرة الكتاب، واللوحة فكرة اللوحة، وفي هذا الطرح – الجمعي ريادة فكرية أكيدة).
المفكر العربي العلماني هادي العلوي في كتبه التي تربو على العشرين يُشير بشكلٍ واضح إلى ضرورة وجود فكر عربي فلسفي مُعاصر نابع من كينونة الفكرة والهوية والتجربة الذاتية.
كما نجد في مساهمة علم النفس المعرفي، فلسفة ميتا-بسيكولوجية في كتابات رائد النقد السيكولوجي – المعرفي المفكر علي زيعور. ونجده في الكتابة العلمية، في مجال فلسفة النص وأبستمولوجيا ما بعد – الحداثة والألسنية وفلسفة العلوم عند الفيلسوف سامي أدهم صاحب “ما بعد الفلسفة”. كما هي موجودة في الدعوة إلى الفكر المحض الباحث عن الحق – لذاته والحقيقة – لذاتها عند د. جميل قاسم. وفي النقد السوسيولوجي الفلسفي (هشام شرابي وعبد الله العروي، نديم البيطار، وحليم بركات) وفي أدبيات التنمية المستقلة والمستدامة (سمير أمين وغيره) وما يوحّد رواد المدرسة العربية للفلسفة هو منطق الاختلاف والاعتراف بالذات والآخرين في فلسفة عربية تقرن المحلية بالعالمية، ولغة عدنان بمنطق اليونان والألمان والهند واليابان وغيرهم من شعوب الأرض قاطبة في السعي إلى تحرير الإنسان وتحرير الإنسانية، بمنأى عن سياسات الهيمنة والسيطرة و”الاستعمار والإمبرياليات القديمة” والمستحدثة.
يرى بعض أساتذة الفلسفة (خصوصاً في الجامعة اللبنانية) أ، لا وجود لفلسفة حديثة أو معاصرة في العربية، وإن كانت هناك محاولات في الفكر، ولكن شتان ما بين الفكر والفلسفة؟ ويرى هؤلاء أن إمكان الفلسفة في العربية – يكاد بل هو ينحصر ويقتصر على الترجمة من اللغات الفلسفية الحديثة، بحيث يكون المترجم – كما يذهب الباحث التونسي فتحي المسكيني – هو الفيلسوف من حيث كونه ناقل أو حامل أو فاعل الفكر الفلسفي؟ أو الفلسفة.
في المقابل يرى آخرون – ومنهم د. جميل قاسم – أن طرح هذا السؤال سؤال “الإمكان خطأ باعتبار أن الفلسفة العربية ليست ممكنة فحسب، بل هي موجودة ومتحققة في الكثير من الكتابات والمحاولات الفكرية – الفلسفية (كتابات عبد الله العروي، الجابري، حسين مروة، حسن حمدان، مطاع صفدي، علي حرب، علي زيعور، ناصيف نصار، سامي أدهم، هشام شرابي، عادل فاخوري، زكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم) حيث أن الفلسفة لم تعد فلسفة نظامية Systematique، بل غدت مع تطوّر العلوم (علوم الإنسان والطبيعة) فلسفة في الفلسفة، أو لا فلسفة (فلسفة – مضادة للفلسفة)، وذلك مع صيرورة عامل اللغة كمفهوم تكويني للقول الفلسفي.