“دخول الحمام مش زي خروجه”
في أحد الأيام إبّان الحكم العثماني، قرر أحدهم أن يفتح حمّامًا جديدًا، وكي يجذب الزبائن بطريقة مبتكرة، أمرَ أن تُعلّق لافته كبيرة، كُتب عليها : “دخول الحمام مجاناً”، ذاعت شهرة الحمّام الجديد، وتهافت الناس عليه . كان صاحب الحمّام يحتجز ملابس كل من يدخل إلى الحمّام، وبعد أن ينتهى المستحِِم ويقرر الخروج، يرفض صاحب الحمّام تسليمه الملابس إلّا بعد أن يدفع مبلغاً معيناً، فوجىء الزبائن ودُهشوا من تراجع الرجل “صاحب الحمام”، عمّا أعلنه على اللافتة، ولما واجهه الناس، ردّ قائلًا : “دخول الحمّام مش زي خروجه” .
اللي اختشوا ماتوا
في حمّام «إينال» في مصر، اندلعَ حريقٌ أجبر العديد من المستحمّات على الهروب عاريات، فيما احترقت داخله اللاتي لم يجرأن الخروج عاريات، حياءاً، ولذا مُتنَ حرقاً داخل الحمّام، فشاع المثل الذي يقول : «اللي اختشوا ماتوا»، والذي لا زال المصريون يتداولونه حتى الآن .
للحمّام تاريخ عريق
يعود تاريخ ردهات الحمّامات، التي تمنح الإنسان خصوصية الاستحمام في منزله، إلى فجر الحضارتين المصرية القديمة، وحضارة ما بين النهرين، وكانت حكّرًا على الأثرياء، لأنها كانت تتطلب وجود شخص بشكلٍ دائم، من أجل سكب المياه من جرار على رؤوس وأجسام المستحمّين —وكان من العبيد في معظم الحالات— . وتوجد هناك عدة رسومات جدارية في المعابد والمباني تُظْهِر كيف كان الخدم والعبيد يساعدون ملكات العصور القديمة وأفراد عائلاتهن على الإستحمام .
منذ عصور ما قبل التاريخ، كان التطهير في مصر شرطاً أساسياً لكل من يدخل المعابد، ملكاً كان، كاهناً، أم من عامة الناس، وبذا فإن المصريين قد سبقوا العالم في تشييد الحمّامات في بيوتهم، ويُرجَّح أن أول حمَّام شهدته المجتمعات الإنسانية كان في الحضارة الفرعونية من 3000 عام ق.م، كما جاء في الموسوعة العربية الميسرة . وتطورت الحمّامات العامة في مصر مع توالي العصور؛ وفي العصر الروماني أنشأ الرومان الحمّامات العامّة بما يحمل طابعهم الثقافي، وأصبحت جزءًا من ثقافة المصريين .
ما معنى كلمة حمّام :
أرجع الرازي بن محمد أصل الكلمة الى «الحَمّة»، والتي يعرِّفُها بأنّها عين الماء الحارّة التي يستشفي بها المرضى، ووردت الكلمة في عدة مواقع من كتب الرّحالة والجغرافيين، فقد أورد لنا ياقوت الحَمَوي مثالاً عن حمّة الإسكندرية التي تشفي من البرص ومن جميع الأمراض الجلدية، ويرجع البعض الآخر أصلها الى كلمة «الحَميم» والتي تعني الماء الحار، فنقول حمّى الماء، أي سخّنه، واستحمّ أي اغتسل بالحميم، ثم صار كل اغتسال استحماماً بأي ماءٍ كان، بارداً أم ساخناً .
وقد وردت كلمة الحمّام مؤنّثة في بعض المواقع ومذكّرة في مواقع أخرى، فنجد زعم الجوهري يصف حمّاماً في بيت له يقول :
فإذا دخلت سمعت فيها رجة
لغط المعاول في بيوت هداد
لم تكن الحمٌّامات مجرد أماكن للاستحمام والطهارة فحسب، بل كان لها أثرٌ في الحياة الاجتماعية، جعلها تتبوأ مركزًا اجتماعيًّا وثقافيًّا مهمًّا في حياة العرب، وصيغت على أوضاعِه وأحكامِه أمثالٌ، وأشعارٌ، وقصصٌ، وتقاليد شعبية، عُرف بها الأدب العربي الشعبي والفصيح .
ولعبت الحمّامات العامة دورًا اجتماعيًّا في نقل أخبار وشؤون البلاد، وأصبحت وسيلة إعلامية، قبل أن تظهر وسائل الإعلام العصرية . كذلك استخدمها التجار في عقد الإتفاقيات، وخاصة في عصر المماليك الذي ازدهر فيه بناء الحمّامات العامة .
بدأ الاهتمام بتشييد الحمّامات العامة الفاخرة مع انتقال مركز الدولة الإسلامية من أرض الحجاز، حيث البساطة والبداوة، إلى بلاد الشام أرض العراقة والترف، حيث كان الأمويون يفاخرون بحمّاماتهم؛ فيذكر أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، قال لأهل دمشق عند بناء الجامع الأموي : «إنكم تفخرون على الناس بأربع، بمائكم، وهوائكم، وفاكهتكم، وحمّاماتكم» .
وشهد العصر الأموي مولد الحمّام الخاص الملحق بالقصر، مُرافقاً لإنشاء الحمّامات العامة . ومن الحمّامات الملحقة بقصور الأمراء التي ترجع لتلك الفترة : حمام «قصير عمرة» ببادية الشام، الذي يعد أقدم حمّام إسلامي في بلاد الشام، حيث يرجع تاريخ بنائه لعام 715 ميلاديًّا (95هـ) . وقد زُيّنت جدرانُه برسومات صيد واستحمام ونساء راقصات، ولا يزال قائم حتى الآن .
خير الحمّامات ما قدِم بناؤه واتسع هواؤه وعذب ماؤه، وقدَّر الوقاد وقاده بقدر مزاج من أراد وروده... الشيرازي
توالى بناءُ الحمّامات عبر المدن في العصر العباسي، حتى انتشرت انتشارًا واسعًا لم تعرفه المدن الرومانية في أوج ازدهارها . وقد أحصى المؤرخ العراقي أحمد اليعقوبي حمّامات بغداد بـ 10 آلاف حمّام في عام 360 هجري/ 970 ميلادي .
حمام بغدادي
وذكر الرحّالة الأندلسي ابن جبير أن حمّامات بغداد كانت لا تحصى في القرن السادس الهجري . وبلغت الحمّامات في عهد هارون الرشيد والأمين 60 ألفًا، حسبما أورد المؤرخ العراقي ابن الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد» .
لكن الحمّامات التي تنتشر على ضفاف دجلة والتي شُيِّدت جميعُها على الطراز العباسي القديم، بدأت بالاندثار ولم يبق منها سوى القليل . وإن الحمّامات مثل غيرها من معالم بغداد ذات الطابع الأصيل، بدأت بالتلاشي تدريجياً، ومن أصل 67 حمّاماً في بغداد، لم يبق سوى تسعةٌ منها فقط . وبعضٌها سعى إلى مواكبة التطور، فخسر المكان سحرَه، وتقاليدَه بعد استخدامه للوسائل الحديثة .
لقد شُيِّدت الحمّامات في بغداد بناءاً على طلب من الخليفة المنصور، وتعتبر الحمّامات وسيلة أساسية عند المسلم لتأمين طهارته التي يتمكن من خلالها تأدية واجباته الدينية . وهذا ما يفسر رغبة الخليفة العباسي أبو جعفر المنصورفي بناء المساجد والحمّامات معاً . وكانت مقترنة بحقول النشاط العام، حيث أنها احتلت مكاناً مهماً في حياة البغداديين اليومية، لكونها تعتبر مكاناً اجتماعياً يجمع أبناء الحارات المتقاربة، فالحمّامات العامّة تتميز بفوائد عديدة إضافة إلى الإغتسال والنظافة، فهي تعد منتجعاً للترفيه والطبابة والتعارف والإسترخاء وحتى الغناء اثباتاً للموهبة والهواية . ومن حمامات بغداد :
حمّام حيدر
وهو من حمّامات بغداد العامة المعروفة والذي يقع في محلة رأس القرية، وسط بغداد، خلف ساحة الغريري، وعلى شارع النهر (المستنصر حالياً) وبابه مواجهة لنهر دجلة، شيّده الشابندر حيدر باشا الجلبي الذي كان من أعيان بغداد وتُجّارها المشاهير، وبنى جامع الحيدرخانة، وعُرِفََت به محلة الحيدرخانة . في القرن الحادي عشر للهجرة .
حمّام خيزرانة
هو من حمّامات بغداد العامة، ويقع في جانب الرصافة في محلة الحيدرخانة في الزقاق الذي يقابل جامع الحيدرخانة . واشارت اليه مصادر أخرى حيث جاء في معجم الجغرافية لمدينة بغداد القديمة .
حمّام القاضي
يقع في شارع المستنصر لصق المحكمة الشرعية، ظهره إلى نهر دجلة، وجبهته تقابل جامع العادلية الكبير، وهو من الحمّامات القديمة في بغداد وكان أكثر رواده من تجار بغداد . والحمّام الذي يرتاده التجار تكون خدماتُه متميزة، فصاحب الحمّام ومن يتبعه من العاملين يعرف التجار الموسرين، ومنزلة ومزاج كل واحد منهم، من كثرة تعامله معهم . لذلك يكون لكل واحد "دلّاك" خاص به، والذي يعرف خريطة جسمِه جيداً ومايريحه وما يزعجه من طرق التدليك، وإن كان بالكيس الخاص أم بالّليفة . وحمّام القاضي يتميز بنظافة المكان وأناقة "المنزع" ونظافة المناشف، حيث يحتفظ صاحب الحمّام بمناشف خاصة لكل شخصية تلائم منزلته، وكانت المناشف مثل المنازل درجات، وتكون الخدمة فيه بأحسن مايمكن أن يقدم للزبون من حوض خاص ومن تدليك وإزالة الشعر بواسطة مادة هي مزيج من النورة والزرنيخ .
لقد جمعت حمّامات الأندلس شتى أشكال الحسن والجمال بما اشتملت عليه من النافورات، والبرك الفريدة، التي سَطَّر فيها الشعراء أفضل قصائدهم وأجمل أشعارهم . وكانت تعقد فيها مجالس أُنس النُخبة، والوزراء، ودواوين العامة والشعراء، ومنها تبدأ المساجلات، وتعقد في ساحاتها الأمسيات والمناظرات .
وكانت حمَّامات الزاهرة، الزهراء، غرناطة، والحمراء، محط أنظار المؤرخين والأدباء، وعجيبة من عجائب العمران والبناء، التي جعلت شعراء الأندلس تتباها بها .
حمّامات مصر استرخاء وسمر
لقد كانت الحمّامات بالإضافة إلى مهامها الإجتماعية والسياسية والاقتصادية، تمثل ما يشبه النوادي الاجتماعية الحالية، كونها مكانًا يلتقي فيه أهل الحي . وكانت مقصدًا للمسافرين من أجل الاسترخاء، والتخفف من عناء السفر، وملتقى الحكام، والتجار، والعوام، وبالإضافة إلى مكانة الحمّاما ت الإجتماعية والثقافية، فإنها قد ارتبطت بطقوس المناسبات، كتجهيز العرائس لحفلات الزفاف . ويروى أن كان أهل وأصدقاء العروسين في مصر، يزفون العروسين من الحمّام، رجالاً ونساءاً ، في مواكب أغاني على وقع الدفوف والطبول إلى مقر زفافهما . كذلك، كانت تُقام فيها احتفالات الطهور، والولادة . وارتبطت الحمّامات بكثير من المواقف الاجتماعية، التي رافقت الإنسان في كل مرحلة جديدة من مراحل حياته .
الطبيب الأبكم
أن العصر الذهبي للحمامات العامة في مصر بدأ في زمن العثمانيين، الذين كانوا يطلقون عليها «الطبيب الأبكم»؛ لأن المعالجين كانوا يستخدمون بها الأعشاب الطبية والزيوت لعلاج المفاصل والالتهابات وبعض أمراض الجلد وهم صامتين .
اتسمت الحّمامات الشعبية القاهرية بالديكورات والزخارف، والأبواب الصغيرة، والممرات المتعرجة؛ لمنحها الخصوصية، وتوفير الهدوء، ومنع التيارات الهوائية والضوضاء، وورد في كتاب جماليات الحمّامات في الضارة العربية الإسلامية، إن مصر كانت أكثر بلدان العالم الإسلامي اهتمامًا بإنشاء الحمّامات، وكانت الحمّامات في مصر تؤشر على أبهة في المعمار، والروح الفنية العالية لدى الحرفيين المصريين، ومدى ما بلغه الناس من رفاهية، فأرضها مرخّمة بأصناف الرخام وباختلاف ألوانه، وجدرانها وأسقفها وقبابها مبيّضة بياضًا ناصعًا، ومرسومة بزخارف وزهور مختلفة الألوان، وقبابها الكبرى مرصّعة بزجاج من كل الألوان، بحيث إذا دخلها الإنسان لا يُؤثر الخروج منها، أما قاعاتها الرئيسية فتُزَين بنافورات المياه لتوفر طراوة لطيفة معتدلة تجعل الجسم يسترخي في حلمٍ وردي لا نهائي» .
وقد حرص المصريون على نظافة الحمّامات وجمال طرزها المعمارية، فأبهرت الرحالة الأجانب، وعلماء الحملة الفرنسية، واعتبروها مظهرًا حضاريًا لا يُضاهى حُسنًا وبهاءً .
الحمامات الفاطمية (358-567هـ)
لم يبقَ من هذه الفترة سوي حمّام واحد فقط، هو حمّام مرجوش الشهير بـ "الملاطيلي" الذي يمتاز بواجهته الأثرية، والزخارف الهندسية التي تزين الباب ويقع في شارع أمير الجيوش بباب الشعرية (غرب القاهرة)، يقول زينهم أحمد، صاحب الحمّام، أن تاريخ الحمّام يعود إلى عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، أنه حافظ على الطابع المعماري للحمّام، كما حافظ على الطقوس التقليدية فيه، لأن ذلك يُعد من أهم عناصر الجذب .
وحسب ما يذكره المؤرخون، ان أهم الحمّامات في مصر كانت في العصر اليوبي (567-648هـ) وفي العصر المملوكي (648-953هـ) . ولم يبقَ من الحمامات العامة، التي شُيّدت في العصر الأيوبي، إلّا إثنين، الأول حمّام الدود في شارع محمد علي، والوارد وصفه بشكل دقيق في وثيقة وقف السلطان قايتباي . أما الآخر فحمّام سعيد السعداء، الذي بناه السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي .
أما في عصر المماليك، فأُدخل للحمّامات بعض العناصر المعمارية الهامة، مثل الفسقية والمغطس، فضلًا عن اتساع مساحتها، ومن أهم الحمّامات :
حمام بشتاك (742هـ)
بناه الأمير بشتاك الناصر، أحد مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون، ويوجد في شارع سوق السلاح بمنطقة الدرب الأحمر (غرب القاهرة)، وأجمل وأروع ما فيه هو المدخل، الذي يعبّر بزخرفتة وروعتة عن العمارة المملوكية، حيث استخدم فيه رخام أبلق (الجامع بين اللون الأبيض والأسود)، بالإضافة إلى الزخارف الهندسية . وحاليًا الحمام مغلق، وبعد أن كان مزارًا سياحيًا أصبح مرتعًا للحيوانات الضالة .
حمام المؤيد (823هـ)
أمر ببنائه السلطان المؤيد شيخ المحمودي، ويُعد من الحمّامات التي أهملتها وزارة الآثار أيضًا، لذلك طمست الكثير من معالمه، ويمكن رؤية ما بقي منه في شارع المعز لدين الله الفاطمي .
حمّام إينال (861هـ)
بناه السلطان الأشرف أبو النصر سيف الدين إينال، وهو السلطان الثاني عشر من دولة المماليك البرجية، ويوجد في شارع المعز لدين الله الفاطمي، وهو حاليًا مزار سياحي فقط .
الحمّام المغربي طقسٌ لم ينل منه الزمن
في المغرب الإسلامي، ظهرت نماذج من الحمّامات أكثر غنى وزخرفة وأوفر مساحة، وأخذت تنتشرعبر كافة الأحياء حتى صار لكل حي حمّام أو أكثر . وذكر المؤرخ الأندلسي أبو عبيد الله البكري، أنه كان بالقيروان 48 حمّامًا، وكانت فاس تحتوي على 93 حمامًا في زمن الموحدين .
ويُعتبر الحمّام التقليدي مرفقاً من المرافق الاجتماعية، وهو جزء من مورفولوجية المدن المغربية العتيقة، بهندسة معمارية قديمة . كما لا يخلو حي من الأحياء بالمغرب من حمّام، يُشيَّد غالباً بالقرب من الأسواق الشعبية والمساجد .
أقدم الحمّامات
كشفت الحفريات عن حمّام فريد من نوعه في منطقة أغمات، في نواحي مدينة مراكش، ويُعَدُّ، طبقا لعلماء الآثار، من أكبر الحمّامات، وأقدمها في الغرب الإسلامي، وتبلغ مساحته 197 متراً مربعاً وتم تشييده في القرن العاشر للميلاد على يد الدولة المغراوية، وتعود آخر فترة لاستعماله، كحمّام، إلى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي .
منذ قرون وحتى يومنا الحاضر والحمّام المغربي الشعبي هومقصد المغاربة لكل أسبوع، لتَميّزه في تنظيف وتقشير البشرة، بالإضافة إلى أنّه ملتقى للعائلة، والأصدقاء، وطقوس الزفاف، وعادةً ما تبدأ طقوسُه بنقع الجسم بالماء الساخن، ثمّ وضع الغسول المغربي، وبعدها الاستحمام بالصابون المغربي (البلدي) ذا اللون الأسود الذي يتميّز عن غيره من أنواع الصّابون .
مدخل حمام تقليدي في وجدة
طقوس الحمام في العرس المغربي
إن صورة كل مدينة مغربية عتيقة، لا يؤثثها إلّا مشهد صومعة المسجد الذي يحاذيه الحمّام المغربي، وفرن شعبي، وحولها تتراصّ البيوت والسواقي، وترتفع الأسوار وأبوابُها، في نمط عمارة لا يحدّث عن وظائف مرافق المدينة فقط، بل يرمز أيضاً لثقافة أهلها وعاداتهم .
من تلك المرافق التي كانت في تاريخ المغرب والدّالة على حضارة البلاد، وتكثيفاً لعلاقات المقدس والمدنس في وعي أهلها هو "الحمّام التقليدي" .
إن ارتباط المغاربة بالحمّام الشعبي تقليد قديم، فمنذ عقود خلت كان المغاربة يخصصون يوماً كاملاً استعداداً للاستحمام وفي الغالب يكون يوم الخميس، وذلك لاستقبال يوم الجمعة بهيئة نظيفة استعداداً للصلاة . وكان المغاربة في القديم يحرصون على الاستيقاظ مبكراً، وتقوم النسوة بطلي الحناء الممزوجة بالقرنفل والريحان والخزامى على الشعر والجسد" .
يعتبر الحمام المغربي من العادات الأساسية التي تقوم بزيارتها العروس، حيث تجتمع قريباتها وصديقاتها لقضاء يوم الحمّام، وخلال الحمّام تخضع العروس لجلسات بخار وماسكات لتنظيف البشرة ومنحها النضارة والحيوية واللمعان، ومن طقوسه أن تذهب العروس برفقة صديقاتها وتأخد معها السكر لكي تعطيه للمرأة التي تعمل بالحمام (الطيابة)، ويسبق دخول العروس للحمّام دخول مرافقاتها، وعند دخولهن يبدأن بالزغاريد، وتكون العروس آخر من يدخل، وعند الاستحمام تُشعل شمعة وعلى العروس أن تنهي استحمامها قبل أن تنطفئ الشمعة، والطقس الأخيرهو البخورالذي يأتي بعد انتهائها من الإغتسال .
يتكون الحمّام الشعبي من ثلاث غرف مرتبطة ببعضها، الأولى باردة، والثانية متوسطة، والأخيرة التي تسمى "البرمة" شديدة الحرارة نظراً لاحتوائها على صهريج الماء الساخن حيث يتزود رواده بذلك الماء المغلي الذي يضيفون إليه الماء البارد لتصبح درجة الحرارة مناسبة .
وبالإضافة لتلك الأدوار شكَّل الحمّام الشعبي منصة لتداول الأخبار الخاصة والعامة، نظراً لاجتماع العديد من الناس فيه في الوقت ذاته، بالإضافة لكونه شكّل في السابق مكاناً لمبيت العابرين ممن تقطعت بهم السبل .
المرأة والحمّام
علاقة المرأة بالحمّام الشعبي أعمق من علاقة الرجل به، لاعتبارات اجتماعية تاريخية، حيث شكَّل الحمّام واحداً من الأماكن القليلة التي كان يُسمح للمرأة الذهاب إليها، نظراً لضغط التقاليد التي حدّت من تحركات المرأة خارج بيتها، وبالتالي ارتبط الحمّام بطقوس معينة كانت تحظى فيها المرأة بحريتها الظرفية .
ويمتد ارتباط المرأة بالحمّام على مدى عمرها، تذهب إليه وهي طفلة مع أمِها، وتقوم بالاعتناء بإخوتِها عندما تصل سن البلوغ، كما كان يخطط لخطبتها فيه، بعد تدقيق أم العريس المحتمل، أو الخاطبة، في جمالها الطبيعي وقدرتها البدنية، وفي حفل زفافها يعود الحمّام ليشكل أهم فضاء احتفالي يجمعها بقريناتها وبقية نساء الأسرة والأقرباء، وليضم احتفالات تسمح للنساء بأخذ قسط من الحرية في ما بينهنّ، وحتى عند وضعها مولودها يكون الحمّام مكاناً للاحتفال به .
الحمام المغربي له جذور ضاربة في القدم، ممتدة من عهد الرومان في شمال إفريقيا، إذ اصطحبوا خلال وجودهم، في القرنين الأول والثاني للميلاد، أنماط معيشتهم وطرائق بنائهم للمدن التي شيدوها، وكانت الحمّامات أحد أبرز معالمها .
من حمّامات مدينة فاس
هذا الموروث الحضاري والمعماري الروماني سيبقى ناظماً لأغلب تصاميم المدن المغربية، وسيلبس لبوس الحضارات والثقافات التي تعاقبت على المغرب لقرون طويلة، .وهكذا حجز الحمام التقليدي لنفسه في المدينة المغربية، والثقافة الشعبية، ركناً أصيلاً، صمد في وجه التحولات المتسارعة التي شهدها المجتمع المغربي .
وإلى اليوم يكاد لا يخلو حي من أحياء المغرب، الشعبية والراقية، من الحمام العمومي، .