حقُّ الرِّفقةِ العجَبُ

2015-03-23
لأبي مُحَسَّدٍ، أحمدَ، المتنبئ، ولـِ " مُعْجز"ه ، أعتذرُ، وبهِ ألوذُ، مُدّرِعاً حقَّ رِفقةٍ مُدّعاةٍ، متذرِّعاً بحبٍّ أُكَتِّمُهُ لم يَبْرِ جسدي، بل لقد زادهُ بُرءاً وبراءةً. 
 
أقول هذا، وأنا أقرأ قصيدةَ أبي مُحسّدٍ ذاتَ المطلعِ البهيّ، شأنَ مَطالعِهِ: 
أيدري الربعُ أيَّ دمٍ أراقا/ وأيَّ قلوبِ هذا الرّكْبِ شاقا؟ 

حتى إذا بلغتُ البيتَ: 
تركْنا من وراءِ العيس نجداً/ ونَكّبْنا السماوةَ والعراقا
وجدْتُني في حيرةٍ من أمري، ذلك لأني أروي البيتَ روايتي الفريدةَ: 
تركْنا في مهبِّ الريحِ نجداً/ ويَمّمْنا السماوةَ والعراقا
وأحياناً أرويه كالآتي : 
تركنا من وراء العيس نجداً/ ويمّمنا السماوةَ والعراقا
 
**
لكأنني لم أُرِد لأبي الطيّب أن يحيدَ عن السماوة والعراق، مُصْعداً إلى حلبٍ وسيفِ الدولة، أو كأنني ضننتُ به، فوددتُ لو تلَبّثَ شيئا، قبل أن يكون على قلِقٍ كأنّ الريحَ... 

للاستعادةِ منطقُها، وللتجاريب منطقها أيضاً. 

وها أنذا أتغنى بالسماوةِ والعراق، في حضرة أبي الطيّب، بطريقةٍ خاصّةٍ. لقد قُتل المتنبي في ما بعد، ببادية السماوة التي نكّبَها يوما، مُصْعداً إلى حلب، أمّا أنا فقد نجوتُ من القتل ببادية السماوة، في مصادفةٍ مَحْضٍ لم تُتَحْ للمتنبي. 
 
**
كان العام 1963. 

ومنذ أوائل ذلك العام، أي منذ مؤامرةِ الخَوَنة، ظللتُ أتنقل بين السجون العراقية، جنوباً حتى ملتقى شطّ العرب بالخليج، ووسطاً حتى بعقوبة، مروراً ببغداد في انتقالاتٍ عبثيةٍ بقطاراتِ حمولة، وسيارات سجونٍ ذواتِ قضبان، وحافلاتٍ مستأجرةٍ ؛ كأنّ الكونَ ليس غير سجونٍ وسجناءَ وشرطةٍ وضحايا (أنا بين الضحايا على أي حال).

في مرحلةٍ من المتاهة الكافكوية، بلغَ بي المقامُ نُقرةَ السلمان، وهي قلعةٌ في أقاصي بادية
السماوة عند التخوم العراقية السعودية، بناها أبو حنَيك (الجنرال غلوب باشا في ما بعد) لأغراضٍ أوّلُها أن يصدّ مُغِيري الوهّابية (كان الواحدُ من جِمالهم يحمل مغِيرينِ اثنين) الذين ظلوا يحاولون أن يجعلوا العتباتِ المقدسةَ قبوراً دوارسَ (وهي خيرُ القبور في رأيهم)، لكن بين الأغراض الأخرى أن تكون القلعةُ منأى السجناء الخطرين ... 

إذاً، صرت، بقدرة قادرٍ طبعا، سجيناً خطِراً. 

الوصولُ إلى نقرة السلمان ليس يسيرا، بل إنه لفرط صعوبته، صار حلماً أو كالحلم... أنت، حُكِمَ عليك، وجاها، بعد ضربٍ ومهانةٍ ومقاربةِ إعدامٍ عشوائيّ... وهكذا صرتَ تفكر بأنّ الأمور بلغتْ حدّاً معيّنا، نقطةَ تَوَقُّفٍ في الأقل، وبأنك سوف تتكيِّفُ لظروفٍ جديدة، قد تطول أو تقصر، لكنها مرحلةٌ محددةٌ على أي حال. 

كم أنت واهمٌ ! 
إن بينك وبين نقرة السلمان لَبرزخاً، وهي تتراءى لك الآنَ جنّةً في البُعد، جنةً للأمان والتقاطِ الأنفاس، والنومِ إلى آخر الدهر... أمّا البرزخُ فهو شرطة التسفيرات التي تتولّى نقلَ المحكوم عليهم، من أمثالك، إلى مآويهم المتناثرة على طول العراق وعرضه، وما العراقُ بالبلد الصغير... 

إذاً، ستكون في موقف السّراي اللصيق بسجن بغداد المركزي، أسطورةِ السجون ومجازرها. هناك تنتظر دورك في التسفير. 

زوايا الموقف احتلّها العُتاةُ من السجناء العاديين، وعليك أن تجد لك مُربّعاً تفرش عليه بطّانيتَك التي اعتدتَ حملها من مثوىً إلى آخر (كانت لي حَشِيّةٌ وثيرةٌ سمّاها المحكومون "فندق بغداد"، إكباراً لها، وسخرية، واضطررتُ إلى التخلي عنها لفرط ثقلها)، وأن تتدبّرَ مأكلَك، ومشربك، والشاي؛ وأن تجاملَ العُتاة اتِّقاءَ شرِّهم، إذ كانوا يُستخدمون لإيذاء السجناء السياسيين. 

الحياة، بإطلاق، على غير ما يُرام. 

ونقرة السلمان تتراءى في البُعد، حلماً! 
 
**
ليس من يومٍ موعودٍ... 

الأشياء تبدأ فجأة، وتنتهي فجأة، مثل يوم الحشر. مثل الولادةِ المباغتةِ والموتِ العنيف. 

النورُ الذي في آخر النفقِ (كما يقول التعبيرُ المزدرَعُ في صحافتنا)، يَهِلُّ في هيأة شرطيٍّ يجلبُ الأرزاق (طعام الحكومة)، وهو أساساً ما جادتْ به مخيِّلةُ المتعهدِ من قوتٍ. 

هذا الشرطيّ ذو المعاش الرثّ، قد يغدو المنقذَ: 
حين يسلِّمُك رزقَك (رغيف خبزٍ وكرّاثٌ مثلاً)، تعطيه بالسرّ دينارين وعنواناً لقريبٍ أو صديق، كي يذهب حين يحلو له، ويخبر القريبَ أو الصديقَ بأمرك ومستقرِّك. 


المحظوظون منا سيأتيهم الأهلُ والصديقُ بالثوب النظيف، وبالمأكل اللطيف صوانيَ عامرةً نُدعى إليها فنلتهم الأخضرَ واليابس، ونمصمص أصابعَنا متلذذين... 

لكن الفضل العميمَ لشرطيّ الأرزاق سيكون يومَ يقال لك: 
الآن تسَفَّرون إلى النقرة (النقرة اسم تحبيبٍ لنقرة السلمان!) 
إذ يتعيّن عليك أن تخبر أحداً بأنك ستكون هناك، وأنك سالكٌ اليومَ دربَ مَن صَدَّ ما رَدَّ (بالتعبير الشعبي غير المزدرَع)، بمعنى أن رحلتك قد تكون رحلةَ اللاعودة، مثل مجنَّدِ القيصر الروسيّ. 

ملحوظة : 
جاء في الرواية الروسية الكلاسيكية أن الفتى المجند الذي ما نبت عارضاه بعد، تباح له القرية سبعة أيامٍ بلياليها، عُرفاً متَّبَعا، فيفعل الفتى ما يشاء، يعبّ الفودكا لينطرح في أي دربٍ أو أي بيتٍ، ويعاشر من فتيات القرية مَن استحلى، عابثاً أو مُعابثاً... يكسر الأبواب، ويدخل من الشبابيك. ذلك لأنه سالكٌ بعد سبعة أيامٍ دربَ مَن صدَّ ما ردَّ. إنه سيظل في جيش القيصر جندياً حتى لو طالت لحيتُه الشائبةُ لتبلغَ قدميه! 
 
**
أنا لم أُبلغْ أحداً أمري. 

كنتُ واثقاً أنني لن أكون وحدي في الرحلة الطويلة من بغداد إلى مركز السماوة (بالقطار)، ومن مركز السماوة (بالحافلة العتيقة) عبر المفازةِ الخطرة اللامتناهية حتى التخوم العراقية السعودية حيث النقرة. 

تقول الأغنية الشعبية: 
نخل السماوة يقول ... 

وبعد عشر سنين من 1963: 
توهّمتُ نخلَ السماوةِ نخلَ السماواتِ... 
وأبو الطيّب المتنبي، وفاتك الأسدي، وبادية السماوة! 

في رحلة القطار ذي المقاعدِ الخشب، وطول المسافةِ الشنيعة (القطار بطيء) من بغداد إلى محطة السماوة كنا مكبلين، اثنين اثنين؛ يدك الشمال موْثقةٌ ب( الكلبجة) إلى يد رفيقك اليمين، والشرطيّ ذو البندقية هو الجليس الثالث على المقعد الخشبِ. 

أترضى لنا هذا العذابَ يا أبا إسماعيل؟ 

الحقُّ أنها لم تكن رحلتي الأولى بالتكبيل المزدوج، إذ بعد أن أصدرت المحكمة العسكرية بمعسكر الوشّاش في بغداد حكمها علي، نُقلتُ أولاً إلى البصرة بالطريقة إياها، وعبر الطريق إياه. 

أتذكّر الآن أننا بلغنا محطة السماوة في الضحى. والموقفُ في مركز شرطة السماوة كان مكتظّاً... كان معظم المعتقلين في المركز من أبناء البلدة، باستثنائنا نحن القادمين من
قطار بغداد، المنتظرين متابعةَ الرِّحلة الخرافية عبر تلك البيداء التي "لم يعرف بها ساكنٌ رسما"... 

انتبهت، أنا القادم من متاهة الهول، إلى جوِّ المرح الشائع؛ واستمعتُ إلى أغنيةٍ خفيضةٍ في ركنٍ، وتذكرتُ أن أهل البلدة مشهورون بالغناء، والكرم، والبسمة الدائمة . ها نحن أُولاءِ وراء القضبان جميعاً... لكن أهل السماوة يمرحون! 

نحن، الذين ألقانا القطارُ هنا، لم نُطل المكثَ. حُشرنا في الحافلة المتداعية، ظهرا، في الطريق الرهيب إلى نقرة السلمان. 

أعتقدُ أن الحافلة كانت تحمل ركّاباً عاديين أيضا، شرطةً وموظفين في تلك الناحية الملعونة حقّاً. 

لا أتذكّر الآن، إن كنا، نحن السياسيين، مكبّلين أم لا داخل الحافلة، والأرجحُ أننا لم نكن... إذ أن الحافلة هي، فعلا، قاربُ النجاة الوحيد، والقفزُ من القارب يعني الهلاك الأكيد، ظمأً أو افتراساً بأنياب الذئاب في هذه المفازة (والحكاياتُ عن مصير التائهين هنا ليست نادرةً). 

كم ساعةً كانت المسافة بين السماوة والنقرة؟ 

لستُ أعرف. لكن الطريق لم يكن ذا معالم، أو هكذا بدا لنا، نحن الحضر. توقفت الحافلة مرتين، مرةً لإصلاح خللٍ ما، وأخرى لتزويد " الرادييتر" ماءً. 

فجأةً لمحنا شجراً. 
وقال قائلُ: النقرة! 

لقد "بزغت" نقرة السلمان، مباغِتة، من القفر المحيطِ. إنها لَفي خَبْتٍ من الأرض، تُتْلِعُ رأسَها، فعلَ الأفعى، لتتبدّى بكامل شرِّها وزينتها. نقرة السلمان التي أعلنتْ عن نفسها وسطَ هذه المفازة، بشجرٍ متناثر، بدا فائقَ الخضرة، سوف تُطْبِق علينا بأسوارها العاليةِ ذواتِ الأبراجِ العشرين، كما تطبق الأفعى الملتفّة. 

توقّفت الحافلة في الظل. هبط "العاديّون" مسرعين إلى الهواء الطلق الساخن، أمّا نحن، فعلينا أن نمرّ بمرحلة التسليم والتسلُّم في مكتبٍ خارج الأسوار، قبل أن تُفتح البوابةُ الكبرى لتلتهمنا. 

هل بمستطاعي الآن، وبعد مُضِيّ  خمسة عقود، أن أستعيد بدقّةٍ ما، إحساسي حينَ بلغتُ قلعةَ التخومِ هذه؟ 
أتراني فكّرتُ بما ينتظرني فيها، وبما سألقى هناك، ومن ألقى؟ 
هل فكّرتُ بالزمن المطْلق؟ 
أو بمعنى أن أكون، أنا، في هذا الموقع من خرافة العقاب؟ 

أظنّ الأمرَ في غاية الصعوبة الآن... 
لكني متأكدٌ من إحساسٍ واحدٍ: أنا لم أكن خائفاً! 
ربما كان هذا بسببٍ من طيشٍ ظلَّ يلازمني... 

لستُ في ما أكتب الآنَ راويةَ أيامٍ وأحداثٍ مرّتْ عليّ في نقرة السلمان، ولا مؤرخَ تفاصيلَ؛ لم أسعَ إلاّ إلى مقارَبةٍ معيّنةٍ بين سيرتين فصلتْ بينهما قرونٌ وقرون، أمّا مقصدي فهو تبيانُ أن حالنا لم تتبدلْ كثيرا، وأن بادية السماوة ظلّت، كعهدها، منذ زمان أبي الطيّب، مَقتلةً كامنةً للشاعر كما لسواه. 

لقد أشاعَ الانقلابيون، أوائلَ السبعينيات، أنهم سيهدّون "نقرة السلمان" هدّا، فكتبتُ نصّاً عنوانه قصيدة وفاء إلى نقرة السلمان أتنبّأ فيه بأن القلعة سوف تُبنى من جديدٍ بأيدينا حتى لو هُدّتْ هدّاً. والواقعُ أن القلعة لم تُهَد، بل غدتْ بعد قمع الانتفاضة، مرتكَزَ المدافنِ السرّيّة للشهداء... 
 
**
ما أبعدني هذه اللحظة، يا أبا الطيّب، عن السماوة والعراق! 

أنا في القرية الإنكليزية نَكّبْت، مقلداً إيّاك، السماوةَ والعراقا... 

لن أقترح عليك أمراً يتّصلُ بنَصِّك، فأنت الدليل. ولأنسَيَنَّ روايتي بيتَك تلك الروايةَ الفريدةَ! 

إني لأتغنّى ببيتكَ: 
تركْنا من وراءِ العِيسِ نجداً/ ونَكّبْنا السماوةَ والعراقا 
 
**
لماذا نتذكّر؟ 
لماذا أتذكّر، مثلا، أنني كنتُ الأقربَ إلى بوابة القلعة، حين فُتحتْ ليدخلَ معتقلو السجن العسكري رقم واحد، الذين نجوا، في ما يشبه المعجزة، من موتٍ مخطَّطٍ له، داخل العربات الحديدِ لقطارِ الموت؟ 

في الصباح الذي أعقبَ وصول المعتقلين، نُقِلتُ إلى سجن بعقوبة. 
لكنّ لهذا السجن الجديد قصّةً أخرى طويلةً. 
وأنا امرؤٌ تزيدني الذكرى رهَقاً...

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved