سفينة الربيع العربي التي أبحرت من تونس عادت إلى مرفإ الانطلاق خاسئة حسيرة. ومرساها في تونس ليس على الجوديّ، فهي تترنّح وقد اشتدت بها الريح في يوم عاصف. ذلك ما لاح لي خلال شهر أغسطس/أوت الذي قضيته في بلدي. فالتجربة تشهد امتحانا عسيرا، ومكابرٌ من يدعي ان الأوضاع مستتبة والعواصف سكنت. لقد تعثرت الأمور في جل الميادين، وطفح مقتٌ من قلوب الناس شاع على الألسن. وأرجّح أن الحالة عائدة بالأساس لعامل رئيس على صلة بمسلك حركة النهضة. أن النظر للواقع لدى قادتها، يختزل عقماً تاريخيا يعاني منه العقل الديني الإسلاموي، بموجب افتقاره إلى السداد والحصافة والفطنة. فهناك اعتماد على الولاء المستند إلى المعايير الحزبية البالية، دون إيلاء انتباه إلى شروط القوة والأمانة والعلم والكفاءة الواردة في قوله تعالى: "قالت إحداهما يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرت القوي الأمين" و"قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظٌ عليم". فتغيير سياسي واجتماعي منشود، تزعمته حركة النهضة، انفضّ من حوله المثقفون والعارفون والجامعيون والعلماء وانتصرت له الدهماء، هو تغيير أعرج لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع.
لقد حُشر المجلس التأسيسي وجحافل الحكومتين، الساقطة والمترنّحة، ومؤسسة الرئاسة، بغثاء كالسيل من المتسلقين غير الأكفاء. هذا الضعف الهيكلي في بنية النهضة التونسية وحلفائها جعلها أمْيل في سياساتها وقراراتها إلى التنطع وتعنّت الجاهلين منه إلى نباهة العارفين. يحسب قادة النهضة في جموع الغوغاء الذين يتمّ حشدهم عند الطلب قوةً وسنداً، ودارهم أوهن من بيت العنكبوت، أقلها أن حركة مليونية لا تملك في صفّها قلما رشيقا ولا صحيفة محترمة.
في الدارجة التونسية نقول: "مغبون وطاحت عليه نفقة" حين تصيب النعمة المعدَم، فتنسيه أمسه وتلهيه عن غده، وذلك حال حركة النهضة لمّا داهمتها نِعم السلطة بعد الثورة، فطفقت تخبط خبط عشواء حينا في الطهارة وأخرى في القذارة. ردد أنصارها بزهو مفرط حين هلت السلطة قوله تعالى: "اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير"، ولكن آي سورة آل عمران تُقرأ حين تقبل الأيام وحين تدبر. وفي زحمة الوقائع العصيبة في مصر، التي يرتد وقعها إلى تونس، درسٌ بليغ للمتبصرين.
في الأشهر الأولى عقب الثورة التونسية حرصتُ على دعوة الأستاذ راشد الغنوشي إلى جامعة لاسابيينسا في روما، أكبر الجامعات الأوروبية، فلبى الدعوة مشكورا، وذلك للمشاركة في ندوة عن التحولات السياسية في البلاد العربية. سألته في ختام مداخلته: ألا ترون أن الرؤية التي تعتبر الحكم غنيمة سياسية، هي مسألة في غاية الخطورة، لأن النظام الديمقراطي المنشود، هو مسار تصنعه أطراف متضافرة، ليبرالية ويسارية وإسلامية؟ بصفة الفكر الذي يَعُدّ الوصول إلى السلطة مغنما يتضمّن خطورة، وأتصوّر أن الفكر الإسلامي مطالب أن يُطوِّر النظر إلى السلطة كونها ليست غنيمة، بل هي مسار تحوُّلٍ يخوضه الجميع سويّا.
جاءت إجابة الأستاذ راشد سياسيةً أكثر منها أكاديمية، معللا القول بالاستحواذ على السلطة: "أن مرده عائد إلى تصريح صدر عن الشيخ القرضاوي، قال فيه إن الاشتراكيين أخذوا حظّهم، وأن الرأسماليين العلمانيين أخذوا حظهم، والآن جاء وقت الإسلاميين، فهل هذا يتناقض مع الديمقراطية؟ هل هذا يحوّل الحكم إلى مجرّد غنيمة؟ يمكن، ولكن ليس بالضرورة، فكلّ حزب يبشّر بنفسه أن له المستقبل، هذه طبيعة العمل السياسي، كلّ يقول لي المستقبل ليجمع الناس حوله. فمن حقّ الإسلاميين أن يفعلوا ذلك، وهذا ليس فيه جريمة، ولكن ما هو السبيل الذي سيسلكه هذا الذي يقول أنا المستقبل، هل سيسلك السبيل الديمقراطي السلمي أم سيسلك طريق المؤامرات والانقلابات؟".
لا أقدر أن النهضة سلكت مسلك الزاهد في الكراسي والمناصب، فالناس في تونس يتلظون من مسلك رجالاتها في الحكم بعدما اجتاح الأنصار المغانم وقدّموا الأقرب وأخّروا الأكفأ. فقد روى لي أحد المتنفذين في النهضة أنهم أتوا بأحدهم من شغله في مدجنة، ليولّوه ويكلفوه أمر الناس، وهل تفتقر تونس إلى علماء الاجتماع ورجالات القانون والمفكرين والإداريين؟
في هذه المدة الوجيزة من الحكم بدّدت النهضة رأسمالها الرمزي بسرعة فائقة، وحولت الإلف والوئام بين التونسيين إلى صراع إيديولوجي مقيت تضررت منه صورة الدين الحنيف. لم تتعظ فيه من كون الإسلام السياسي منذ نشأته الأولى، فوق الأرض العربية، وُلد خصاميا وصداميا، ليس للأنظمة القمعية فحسب، بل لكافة الحساسيات الفكرية والشرائح الاجتماعية، ما جعله يراكم مقتا هائلا في الداخل والخارج. النهضة غير قادرة على تجميع القوى التونسية حولها في الراهن وأقدّر كذلك في قادم الأيام، وقد كانت السبب في تشتيت القوم وبث الفرقة بينهم. تآكلت الثقة بينها وبين الناس بما يشبه تآكل الثقة بين الرجل الذي نهشت أخاه أفعى فدعاها للصلح فتصالحا، لكنه عزم يوما على قتلها، فلما مرت به ضربها فلم يصبها، ووقعت الفأس على الحجر فأثرت فيه. فأتاها ثانية يدعوها للصلح والعودة إلى ما كانا عليه. فأجابت الحية: أنت لا تصفو لي ما دمت ترى قبر أخيك، وأنا لا أصفو لك ما دمت أرى أثر فأسك. ذلك هو المناخ الذي رعته النهضة وهي أول من جنى حصاده.