مرة اخرى وليست أخيرة بالتأكيد، نستمع الى اسطوانة الإعتذار(التملص) والتأكيد الرسمي للسلطة في اسرائيل من رئيس الحكومة حتى رئيس الدولة، بادانة التصرف الأحمق المفضوح لضابط اسرائيلي هذه المرة برتبة مقدم اسمه شالوم ايزنر نجحت الكاميرا بتوثيقه اثناء تصرف عدواني عنيف وغير مبرر، ضد شاب دانيماركي ذنبه انه يعارض احتلال اسرائيل للأراضي الفلسطينية، وجرى الاعتداء عليه دون ان يشكل أي خطر ولو وهمي على الجنود وقائدهم المقدم ايزنر، وكان الشاب قد خرج مع قافلة راكبي دراجات في يوم ربيعي جميل للتمتع بمناظر الأرض الفلسطينية في منطقة اريحا (الغور)وبالطبع لولا المصور الذي سجل اللقطة في لحظتها لأتهم الشاب انه هدد حياة المقدم وجنوده وأمن دولة اسرائيل ب "السلاح النووي" الذي يخفيه في جيوبه.
هذا الأسلوب ليس جديدا علينا، وينكشف مرة تلو الأخرى، ولكن دون اتخاذ الخطوة القانونية البديهية بتقديم الجاني الدوري، هذه المرة شالوم ايزنر، الى القضاء لينال العقوبة المناسبة التي قد تفيد ولو بشكل نسبي في عقلنة تصرفات الجنود والضباط بمواجهة الفلسطينيين والمتضامنين معهم.
صرنا خبراء كاملين بمضمون الادانة الرسمية والتنصل من تصرف انفضح امام الكاميرا بلحظة الحقيقة. وماذا تفيد الادانة امام تكرار متنامي للتجاوزات الجنائية؟
المقدم شالوم ايزنر هو نموذج لجنوده ونموذج للتفكير العسكري في مواجهة الأصوات السلمية الرافضة للعنف والاحتلال.
المقدم ايزنر ينضم الى قافلة من الضباط والجنود تصرفوا بشكل لم تستطع قيادة الدولة والجيش تبريرها بشطارتها المعهودة بسبب توثيقها المصور. كيف ننسى الجندي الذي أجبر بتهديد السلاح اطفالا ان يفتحوا حقيبة ظن حضرته انها مليئة بالمتفجرات ارسلهم لموت محتمل ضمانا لسلامته. ولا اظن اننا نحتاج لاستعراض الاف اللحظات الموثقة بالتصوير التي اضطرت قادة الدولة والجيش الى ادانتها والتنصل منها والتأكيد ان جيشهم اخلاقي ولا يقبل هذه التصرفات.اذن لماذا لا تتوقف ؟ وهل يمكن ايقافها قبل انهاء السبب الأساسي لوقوعها: الاحتلال؟
ما زلت اذكر ذلك الجندي من الانتفاضة الأولى كيف هشم امام الكاميرا راس فلسطيني بحجر بضربات متتالية والفلسطيني ممدد امامه بلا قدره على المقاومة. وذلك الجندي او الضابط الذي اطلق رصاصة مطاطية على ساق شاب فلسطيني مقيد ومعتقل امام الجيب العسكري. وهل ننسى المرأة المستوطنة في الخليل وهي تهاجم بيت فلسطيني وتهتف بلا حياء لصاحبة البيت بكلمة "شرموطة" ملحنة ومرات عديدة وكأنها تغني مقطع اوبرا؟ وهل نسينا الدروع البشرية الفلسطينية المقيدة على السيارات العسكرية؟ وهل غابت عن ذاكرتنا ما يسميه الجيش "منهج الجار" حيث يجبر فلسطيني على قرع باب بيت يشتبه فيه الجيش ، لأن هناك خوف من رد فعل الشخص بالبيت باطلاق الرصاص فيرسل الفلسطيني الى موت محتمل؟
هل هذه تصرفات عسكرية اخلاقية؟
منظمة "بتسيلم" لحقوق الانسان في المناطق المحتلة، هي منظمة يهودية، و"جنود يكسرون الصمت" و"يش دين - منظمة متطوعين من اجل حقوق الانسان" ومنظمة "أطباء لحقوق الانسان" وغيرها ،لا يمكن اتهامهم بانهم فلسطينيين او لاساميين ومعادين لوجود اسرائيل. ما تقوم به هذه المنظمات اليهودية بتركيبتها من فضح تصرفات الجنود والضباط واجهزة الدولة الداعمة للمستوطنين والإستيطان وتجاوز لحقوق الانسان الأولية، وقلع الأشجار المثمرة وحرق بساتين هو عمل كبير القيمة للفلسطينيين وأيضا للشعب اليهودي نفسه ليكن على علم بما يرتكب باسمه. لم يعد يكفي الاستنكار والادانة الشكلية التي باتت اسطوانة مملة تكرر نفسها.
لا يوجد احتلال اخلاقي او انساني. كل احتلال هو همجي ويرتكب جرائم ضد اصحاب الأرض الشرعيين. الطريقة التي عومل بها انصار السلام في مطار اللد وكأنهم مخربون ، اعطى لاوساط واسعة في المجتمع الاسرائيلي نفسه ، ولكل انسان يملك عقلا في رحاب الأرض، درسا سيئا في اخلاقيات اسرائيل وفقدانها للرغبة في تحكيم المنطق العقلي.
تخيلوا لو استقبلت اسرائيل ركاب الطائرات القادمين الى مطار اللد، بهدف التوجه الى بيت لحم والمناطق الفلسطينية، بالورود والترحيب مثل ما قام بذلك نشطاء سلام وحقوق انسان اسرائيليين واجهوا قمع الشرطة أيضا. هل تتخيلوا ما كانت اسرائيل الرسمية ستكسبه اعلاميا هنا في الداخل وفي الرأي العام الدولي؟
النتيجة كانت ستكون كسبا هائلا لإسرائيل. شكرا لأنها لم تفعل ذلك وفضحت نفسها واحتلالها، ولكنها اعطت للمقدم ايزنر اياه المزيد من القناعة بأن كل تصرف عدواني ضد الأجانب المتضامنين ايضا هو مشروع تماما كما هو مشروع ضد الفلسطينيين. الا أن الكاميرا "ابنة العاهرة" لم تكن بالحساب، فوثقت تصرفه "العسكري الأخلاقي"، او الأصح فضحت مرة اخرى اخلاقيات الاحتلال العسكرية، وهي نفس اخلاقيات كل الجيوش المحتلة في العالم عبر كل التاريخ البشري.ايضا امريكا استنكرت قتل جندي محتل في افغانستان لمواطنين افغان ابرياء وعرضت تعويضات سخية للحفاظ على ما تبقى من اخلاقيات مدعاة لجنودها.
صحيفة "هىآرتس" كشفت في تقرير لها نشر يوم الثلاثاء (17-04-2012) على خلفية الحادث في غور الأردن (منطقة اريحا المحتلة) بانه تجري تحقيقات كثيرة حول اعمال عنف يرتكبها جنود وضباط الجيش ولكن التهم نادرة ولم تقدم الا لوائح اتهام قليلة، واكثرية ممارسي العنف لا يقدمون للقضاء لمحاكمتهم بالجنح المرتكبة.
من المعروف انه فتحت مئات الملفات ضد جنود اعتدوا على الفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية واجريت تحقيقات داخلية بالجيش وبعض الملفات اثارت صدى واسعا لدى الجمهور، ولكن اكثرية الملفات اغلقت وممارسي العنف من الجنود لم يقدموا للمحاكمة، هذا مع العلم ان بعض هذه الممارسات وثقت بافلام مصورة بايدي فلسطينيين يعملون مع منظمات دولية وفي احيان كثيرة حتى التوثيق المصور لم يقد لادانة ممارسي العنف من رجال الجيش.
وتكتب "هأرتس" في تقريرها :ان فحص الأحداث السابقة يبين انه ما عدا حادثين، معظم الحوادث بدأت بصوت مرتفع ( كما في حادثة الاعتداء الجديدة) وانتهت بتوبيخ او تعويق في الترقية للضباط وليس بالتقديم لمحاكمة جنائية.
رئيس الكنيست الأسبق ابراهام بورغ ، واحد قادة حزب العمل سابقا، اصدر قبل سنوات كتابا هاما جدا أثار موجة من الحوار الحاد حمل كتابه اسم :"لننتصر على هتلر". جاءت في كتابه حقائق تترسخ اليوم أكثر. كتب:" الحرب حولتنا ، بدون ارادتنا ، من ظاهرة شاذة ، لنصبح قاعدة الشواذ نفسه . طريقة حياتنا قتالية . مع الجميع . مع الأصدقاء ومع الأعداء . قتال مع الخارج وقتال مع الداخل ، يمكن القول ... بحزن وثقة ، ان الاسرائيلي يفهم فقط ... القوة . هذا الوضع بدأ كحالة استعلائية اسرائيلية امام عجز العرب من التغلب علينا في ساحات الحرب ، واستمر كإثبات للكثير جدا من التصرفات والقناعات السياسية ، التي لا يمكن قبولها في عالم سوي. كل دولة تحتاج الى قوة بدرجة معقولة. الى جانب القوة تحتاج كل دولة ايضا الى سياسة وقدرة نفسية على لجم القوة . لنا توجد قوة . الكثير من القوة وفقط قوة . لا يوجد لنا أي بديل للقوة ، ولا نملك أي فهم أو ارادة عدا ان نجعل القوة تتكلم .. ".
وأضاف :" في نهاية الأمر حدث لنا ما يحدث لكل ممارسي العنف والبلطجية في العالم : شوهنا التوراة وشوهنا مفاهيمنا ولم نعد قادرين نحن انفسنا على فهم أي شيء آخر عدا لغة القوة . حتى على مستوى علاقة الزوج بزوجته ، وعلاقة الانسان بصديقة ، وعلاقة الدولة بمواطنيها ، وعلاقة القادة ببعضهم البعض . ان الدولة التي تعيش على حرابها ، والتي تسجد لأمواتها ، نهايتها ، كما يبدو ، ان تعيش بحالة طوارئ دائمة ، لأن وجهة نظرها أن الجميع نازيون ، كلهم ألمان ، كلهم عرب ، كلهم يكرهوننا، والعالم، بطبيعته، كان دائما ضدنا...".
ليس مهما كيف ستنتهي فضيحة اعتداء ضابط كبير على مناصر حقوق انسان دانيماركي جريمته انه يريد ان يرى ارض السلام تعيش بسلام وحرية من الاحتلال.
لن يتغير شيئ وننتظر الفلم القادم والفضيحة القادمة ، ولن تتعوق.نعرف انها حوادث يومية، ولكن الكاميرات ليست متواجدة دائما.. ربما يحضرون الآن فرق خاصة لضبط الكاميرات والمصورين، وقد يطرح للتصويت في الكنيست قانون جديد يعتبر كل من يصور تصرفات الجيش او المستوطنين ارهابيا يشكل خطرا على امن الدولة. أي يمكن التخلص منه برصاصة "طائشة". والمضحك ان آخر ما تفوه به ايزنر انه أخطأ باستعمال السلاح امام الكاميرا. اي بدون كاميرا الأمر متاح؟! ولكن لا بد من سؤال : متى سيصحوا الضمير العالمي لوضع حد لعربدة آخر احتلال في التاريخ؟
السؤال لم يعد متى سيتحرر الشعب الفلسطيني من الإحتلال، بل الأنسب ان نسأل متى سيتحرر الشعب اليهودي نفسه من احتلاله؟
nabiloudeh@gmail.com