نادي مسرح بيت الكرمة استضاف الكاتبة هيام أبو الزلف في أمسية ثقافيّة فنيّة، وسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء، لإشهار ديوانها الشعري إسار الكلام، وذلك بتاريخ 29-8-2018 في قاعة مسرح بيت الكرمة في حيفا، وقد تولّى عرافة الأمسية الممثل الفنان نبيل ضوّ، وكانت مداخلات عن الديوان لكل من الأدباء: د. راوية بربارة، وهيام قبلان وتركي عامر، وقد تخللتها فقرات طربيّة للمطرب إلياس عطا الله بصوته الرّخيم، وفقرة مع الحكواتيّة حنان أبو الزلف بنسج حكاية لإحدى قصائد إسار الكلام، واختتمت هيام أبو الزلف المحتفى بها اللقاء بكلمة شكر للمنظمين والمتحدثين والحضور، وثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة د. راوية بربارة: ما بين الهُيام وإسار البوح: مساؤكم ككرمة لها بيتٌ في القلبِ الذي يرفّ فرَحًا، على شواطئ حيفا العامرة بحاضرتها الثقافيّة المتنوّعة المتوزّعة بين أطياف قوسِ قزحِها، تلمّ به عنبَ الأدبِ، وتحتسي خمرَ الفنون، وتسير نحو أسرِها بإسارٍ من الكلمات التي تقيّدنا بمحبّتِنا للعطاء وللتواصلِ. الثيمة الواضحة التي يتناولها هذا الإسار ويترك لها الحبلَ على الغارب، إنّما هي ثيمة الحبّ الذي لم يتحقّق وصالُه، هذا الحبُّ العارضُ الذي لا بدَّ أن يزولَ كالفرَحِ، كالعيدِ، لكن مع زوالِهِ ستخلو القصيدة من المعاني، من الثيمة التي تملأ هذا الإسار، وستفرغُ الحياةُ من معناها، وتصبحُ بلا حبٍّ الموتَ الأكيدَ: يقولون للحبِّ عيدٌ ويمضي/ وهذا لَعَمري كوعدِ الجِنانِ/ فيومٌ وأُلقي بِوِزْرٍ فأسلو/ ومما أعاني ستخلو المعاني/ يقولون.. لكنْ هو الحبُّ عُمرٌ/ ونبضُ الفؤادِ كوقعِ الثواني/ وإنْ قلتُ دعني فموتي أكيدٌ/ حنانيْكَ يا حاضرًا في زماني (ص. 33)
وهذا الحبُّ بالنسبة للذات الشاعرة بمثابةِ الروحِ، ففي التفاتٍ في استعمال الضمائر، يقول عنوان القصيدة "هو الروح"، والروح مؤنثّة اللفظ، لذلك كنّا نتوقّع "هي الروح"، وهذا الالتفات في الضمائر إنّما أتى في عتبةِ النصِّ، لينبّهَنا إلى أنّ الروح التي تسكن الشاعرة هي روح الحبيب، فهو بمثابةِ روحِها: هو الروح حلّتْ بجسمي وروحي/ وقد كان عمري بلا الروح يسري
كنتُ أفضّل في الشطر الأوّل من البيت أن تستبدل كلمةَ "روحي"، لأنّها في تتمّة البيت تقول بأنّ عمرَها كان بلا الروحِ يسري، فهي وجدتْ روحَها وضالّتَها منذ وجدتَ حبيبَها، لذلك لا مكان لكلمة "روحي" في هو الروح حلّت بجسمي وروحي. والشاعرةُ لا ترى الحياةَ وكُنهَها إلّا من خلال عيني الحبيب: وإنْ تاهَ عن ناظري كُنْهُ عيشي/ بعينيه يبدو لذاتي وفكري.
وتوارب وتواري وتوازن بين الحبيب وبين الشِّعرِ، ليصبحَ الشِّعرُ حبيبَها وروحَها، ففي تراسلٍ للحواسِّ نسمع خفقَ النبضِ صوتَ صلاةٍ متأجّجة كأنّها النار: ونبضي صلاةٌ ستخبو بموتي/ ويبقى لي الروحُ في نبضِ شِعري. مع كلّ نبضةِ دمٍ تتدفّق نسمع صوتَ الصلاةِ، لكنّها صلاةٌ ستخبو نارُها، وما روحُ شِعرِها إلّا من نبضِ روح الكلماتِ التي ستحيي الشاعرةَ بقصائدِها حتّى بعدَ موتِها.
وبعدَ أن توازنَ بينَ الحبيب وبين الشِّعرِ، ترجع لتفصلَهما عن بعض، فنجدها تتّكئ على الأوكسيمورون "الإردافُ الخلُفيّ" بين "ما كنتُ أحيا" يعني الموت، وبين "إنْ ناءَ قبري" يعني الحياة؛ ولتتالي الخيبات، والمفارقة بين المتأمَّل، المتوقَّع وبين الموجود نرى الأوكسيمورون يأسر القصيدة والكلامَ، ليدلّل على مفارقات الواقع، فهي ستغدو ترابًا وهي على قيدِ الحياةِ، بخلافِ المعروف "من التراب وإلى التراب تعود"، فما كانت تحيا دونه، حتّى ولو بعُدَ قبرُها، لأنّه روحُها.
وفي قصيدةِ الفصول الأربعة، تغيّر مسارَ الطبيعةِ ودورتَها، لتخبرَنا بأنَّ فصولَ سنتِها تختلفُ عن فصولِ سنتنا: قد أشحتُ الوجهَ عن كلِّ الفصولِ/ لستُ أهوى يا غريبًا، غيرَ فصلِكْ/ يا ربيعًا في خريفي أو هجيرًا في شتائي، إنّني أحيا لأجلِكْ (ص28).
وقد تعدّت هيام دورةَ الطبيعة لتغيّرَ أيضًا مدارَ الأفلاكِ، فنجدُ أنّها قد وجدَتْ مدارًا آخر وكواكبَ غيرَ كواكبِنا، إذ وجدتْ لها شمسًا خاصّة فيها، غيرَ الشمس التي تشرقُ من الشرقِ، ، فمن هي/ هو شمسها يا ترى؟ نقرأ معًا من قصيدة "شمسي": "إنْ حلَّ"، إذًا هو الحبيب، هذا الشخص الذي يحوّل ليلَها نهارًا: إنْ حلَّ .. ليلي نهارٌ/ قد جاء في الليل يسري/ لو غابَ واسيتُ ذاتي/ سلّمتُ للّهِ أمري/ غارَتْ من الشّرقِ شمسٌ/ قد أشرقتْ شمسُ عمري (ص34).
ونجدُها كأغلبِ أديباتِنا وشاعراتنا تخشى البوحَ، تخافُ قراءةَ المجتمعِ للنصِّ وكأنّه هي، وكأنّه واقعُها الذي ننبشُه أثناءَ القراءةِ، لندخلَ حجراتِ قلبِها ونكشفَ الأسرار، لذلك طالَ صمتُها: لقد طالَ صمتي وحارَ الفؤادُ/ ومالي منَ الأمرِ يغدو عليَّ. وما كان لها من منقذٍ إلّا الكتابة: وكمِ شاغلَ الحرفَ فكري لأنجو/ ويبدو ليَ الموتُ منّي إليَّ
لكنّها على بوحِها ما زالت تخشى المجاهرة بمشاعرِها، وتقسو على نفسِها فتكبِتَ كلماتِها، وتسترَ المعاني وتراعي طقوسَ العقيدة، رغم أنّ حبَّها عبادة: أراني أداري شعورًا تعالى/ فحرفي خجولٌ ويبقى شقيّا/ وساديّةُ الصمتِ فيها بلائي/ وإنْ رُمتُ جهرًا فأقسو عليَّ
فهي بين اثنتيْن كلتاهما النار، لا تستطيع صمتًا فتبلى، ولا بوحًا فتقسو على نفسِها، لذلك تستر كلَّ المعاني لتقي نفسَها، فتوازن بين عقيدتِها التي تأمر بالسترِ وبينَ شعرِها: أيا قارئًا سِتْرَ كلِّ المعاني/ يقيني سطورٌ بوجهي جليّا/ هو الحبُّ ديني ونبضي صلاةٌ/ أرومُ انعتاقًا فأخشى العليَّ.
وبعيدًا عن ثيمة الحبّ، نرى الديوانَ يكرّم شعراءَنا وأدباءَنا الذين اختطفهم الموت، نزيه خير: "يا نزيهَ الشعرِ باقٍ أنتَ دوما/ قُرَّ عينًا أنتَ حيٌّ في القوافي" (ص29)
وشاعرَنا الكبير سميح القاسم: ليسَ في الفقدانِ سلوى أو عزاءٌ/ غيرَ أنّ الموتَ مهزومٌ مُعابُ/ حارسُ الأوطانِ باقٍ في الكلامِ/ سوفَ يحيا الآنَ أكثرُ يا غيابُ (ص49)
ولمحمود درويش تقول: "طوبى لوطنٍ تقمَّصَتْ خريطتُهُ ملامحَ وجهِكْ" (ص57)
وطبعًا لا تنسى القريب الفقد عزيزَنا سلمان ناطور: للردى أذعنتَ قلنا "مستحيل"/ في ذهولِ الصمتِ قد لاذَ الجَنان/ كيفَ يا سلمانُ تمضي طائعًا/ ما عهدنا منكَ/ إلّا العنفوان (ص58)
وكيف تهرب الذات الشاعرة من هذا الواقع الرافض للتحقّق، ومن هذا الواقع الأليم؟ باستراتيجيّة البشر المعهودة: بالأحلام، لأنّنا عادةً نحلم بما لم نستطع تحقيقه، وما لم نستطع تجاوزُهُ واقعًا نتركُ له أحلامَ اليقظةِ لتعبث بمكنوناتِه وتثملُنا ونحن على قيدِ صحوة وتصهل فينا الأحلامُ كفرسٍ تجمح لنقفزَ فوقَ روتين هذا الواقع: قصيدة "ثمالة"(ص111): يقتحمُ صهيلُكَ يقظني../ يكُرُّ في صحوي/ فيفرُّ الحلْمُ نحو النسيان/ أتابعُ فلولَهُ/ تصفعني يدُ الجمالِ.. تُربِكُ حواسي/ تسقيني اليقظةَ حتّى الثمالة/ تعيدني إليكَ.. إلى أوّلِ الحلْم.
هو إسارٌ فكَّ شاعرتنا من قيدِها، حرّرت فكرَها بالكلامٍ الذي أسرَتْهُ وأسرَّتْهُ لنا، فمبارك هذا الإسار، وكلّ إنتاج وأنتم مسرورون.
مداخلة هيام قبلان بعنوان/ الموت "في إسار الكلام": ألقي الضوء على نماذج من قصائد هيام أبو الزلف (معبد في الغيب ص70): وذات شتاء/ سترتخي أصابعي القابضة على الوهم/ ويأخذني البين منك/ وأنا أحدّق في طيفك حتى الشّهقة الأخيرة/ لن تدع العواصف أحدا يعرف برحيلي/ وهي تحمل لوعتي نحو حلولي الجديد
وص(71-72): مابين مولدي وموتي الاّتي/ أحملك يا أناي على مدى صحوتي/ وأقاوم النّوم فقد لا يستحضرك الحلم/ أنا هناك بلا وعد أو وداع/ وهنااااك، وبعد عصور/ روحي الهائمة في مسافات الزّمن/ ستحلّ بأسطورة، سيكون لي فوق القمّة/ معبد يشرف على الجهات الأربع/ يدخله من يسلّم نبضه الى دقات السّاعة/ تعود بعمره نحو الصّفر
الموت إذن لدى هيام هو ولادة جديدة، بعث وحياة، الموت ليس وداعا أخيرا ولا غيابا، إنّما هو عودة، وإن كان في الموت الحياة نتساءل: لماذا نأتي الى الدنيا ونعبر مراحل العمر، ومن ثمّ نموت ونترك وراءنا كلّ ما بنيناه وأنجزناه؟ ومن هنا كانت دورة الحياة والموت والبعث هي الفكرة المحورية في الدين والأسطورة، الفكرة التي يتمركز حولها لا شعور الفرد في الماضي والحاضر.
معظم الأساطير في الزّمن القديم، عبّرت على أنّ الموت لم يكن أبدا مرحلة نهائية تضع حدّا لوجود الفرد، بل عمليّة تؤمّن عبوره لحالة أخرى من الوجود، مختلفة عن الحالة السابقة، وجميع الأساطير في تراث الشّعوب تشتمل فكرة الصراع الأزلي بين الخير والشّر، من حفظ الحياة وإبعاد الموت والأذى، فالخير هو الحياة والخصب والسعادة والنور، والشّر هو الموت والدّمار والخوف والظّلام، لكن ما تركته لنا الحضارة المصرية القديمة من تجسيد الموت، كان واحدا من أبرز المعالم الحضارية التي عرفها تاريخ الشعوب، من حفريات واكتشاف ثروة من المعابد والأهرامات والقبور، مرفقة بوثائق ونقوش ومومياءات أثارت ذهول العالم، وكانت خير شاهد على فكرة الموت، هكذا جسّدوا الأمل بالخلود، وحين يصف الباحثون عقائد ما بعد الموت المصرية بـ (عقائد الخلود)، فهي في الحقيقة نوع من (الإسكاتولوجيا)؛ أي ما يعتقده الإنسان عن الموت من أساطير قبل الموت وبعده، أي عن فكرة خلود الإنسان بعد الموت، وبقائه حيّا بروحه وجسده في عالم الآخرة، وهي بلا شك تشكّل ركيزة من ركائز أيّ دين، سواء كان في فترات ما قبل التاريخ أو الحضارات التاريخية، ومن هنا يرى بعض المفكرين أنّ الحياة ما هي الاّ الموت نفسه، وقد صوّر لنا هذا الموقف تصويرًا رائعًا (لافونتين) في إحدى حكاياته الشهيرة التي أسماها (الموت والحطّاب)، ولافونتين من أكبر شعراء فرنسا في القرن التاسع عشر إذ يقول: "ما بالك وأنا أحاول الآن أن أجعلك ترى في الحياة ما رأيت أنا فيها، من أنّها هي الموت، وأنا إذ أقول الجد ولا أقول أنّ الحياة هي الموت في فترات اليأس، بل أصفها بذلك في أفراحها وأتراحها، في حلوها ومرّها، ولا يعنيني إذا كانت هذه اللحظة لحظة سعادة أم شقاء". إذن؛ فإنّ الإنسان لا يحيا إلا وهو يموت، ممّا يوكّد فكرة (حتمية الموت) لدى (فولتير) حين قال: "الجنس البشري هو الجنس الوحيد الذي يعرف أنّه سيموت، وهو يعرف ذلك من خلال التجربة، فكلّ البشر قدّر عليهم الموت". الشاعرة هيام في بحثها عن الحياة انطلاقة نحو تغييرعالم ومكان ونفس، مع تأكيد (حتميّة الموت) في قصيدتها سفر التكوين (ص77 وص78) تقول: تركل حلمي أرجل الانتظار/ تتلاشى روحي تحت وطأة الثّواني/ فأقول ربّاه أين هو الموت؟/ أنت لست ثابتا كالموت/ لست صادقا كالموت/ لست أبديا كالموت/ ستزول يوما ويبقى الموت/ سيفنى الكون قطعا ويبقى الموت/ وعندما تشهق اَخر ثانية في الوقت/ سيكون الموت.
هيام هنا لا تهرب من الموت، بل تؤكّد حتميته وثباته وصدقه وأبديته، هو الباقي بعد فناء الكون، هي نظرة واعية وعميقة لفلسفة الموت لدى هيام، وبتحدّ كبير دون خوف، لأنّ الولادة تقتضي الفناء والكون يقتضي الفساد، ولا بد أن يكفّر هذا العالم عن خطيئة ميلاده بالفناء، يفنى ليولد عالم جديد هي العدالة المنشودة في نظر الشاعرة هيام، من حيث أنّ الفناء كما يرى بعض الفلاسفة: أنّ الفناء تكفير الوجود بطبيعة خطيئته، أما فكرة الخلود فقد تطورت على يد ( فيثاغوروس) الذي علّم تلاميذه تناسخ الروح وتطهرها في عجلة الميلاد، لأنّ الروح تحلّ في الجسد وتغادره عند الموت، وبعد فترة من التطهير تدخل جسما اَخر .
وفي انتصار الحياة على الموت تنقلنا شاعرتنا الى قصيدة (إيزيس)ص82، وتتقن عملية إسقاط جميل في قصيدتها بانتصار الحياة على الموت، وبتجسيد أسطورة إيزيس للخروج نهائيا من دائرة الفناء، وتمكّنها من جمع أعضاء أوزيريس لترتدّ له الحياة، وهذا الرجوع إنّما هو رمز لتجدّد الطبيعة والخصب وقهر الموت، وهيام في إيزيس تخرج من دائرة صمت الضجيج الى صخب الصمت، ومن قحل خصبهم الى خصب قحلها، ومن برد دفئهم الى جذوة يذكّيها احتمال وألف ألف علامة سؤال. هكذا هيام فراشة من ألوان ونغم كما تقول: تبتسم الجفون/ معهم ..لكنّها وحيدة وحيدة/ قدّ منفاها من سكون/ ولكنّها في عرس ما له صدى/ لها الأزل والأبد وما بينهما من المدى
وتنتقل هيام الى ص84 لتقول: وفي الركن القصيّ حيث يصحو الأرق/ يرتعش بيدها القلم/ نطفة نطفة يسيل الكلام/ ويختلج الورق ...
وفي قصيدة (سيزيف- ص108) تصل الى فكرة العبث أو المحال، وسيزيف هو نموذج لعبثية الحياة، إذ يهبط في كلّ مرة من الجبل الى الوادي، ليقبض على الصخرة ويدفعها من جديد الى القمة، وتكمن قوته بتكرار عقيم، وهنا قوّة السؤال: هل تستحق الحياة أن نحياها كما تساءل (ألبير كامي) في أسطورة سيزيف؟ هو يسأل عن معنى الحياة، فيبرز تجربة (العبث) بوصفها وعيا بالموت ورفضا له في نفس الوقت، هذا الشعور عند ألبير كامي يشبّه نشأة الشعور بالعبث بمولد عاطفة الحب في قلب الإنسان، كلاهما يهبط عليه من حيث لا يدري، شعور مفاجئ قد يؤدي الى إصرار وتمرّد، لذا كان تمرّد هيام في نص (سيزيف) بسخطها على العجز والظمأ والحزن والغياب، وقد قدّمت أسطورة (سيزيف) أنّ من واجب الإنسان وكرامته احتمال الوجود العبثي أيضا في حياته والتّصدي له، وهيام فعلت ذلك بقولها: كلّ يوم أغذّ السّير اليك/ أتعب، أستظلّ بعجزي، أظمأ/ أرتوي من معين دمعي/ أجوع، ولا ينفذ حزني/ على متكأ غيابك أمضي/ ولا أصل..
هذا النضال المستفز إبهارًا هو الموت عند هيام، حياة جديدة ومتّسع للبقاء والحلم والحبّ، بإدراكٍ لا يقبلُ الشّكّ كما تقول هيام: طالما أدركت أنّ الموتَ ظلّي/ مع ثواني العمر يجري نحو رمسي/ ليس أمسي، ليس يومي والمآتي/ غير فصل واحد يجثو لحسّي/ لو يطول العمر، لي معنى لعمري/ فابق يا معناي دوما فوق رأسي/ إن تخلّى، سوف أمضي في سرور/ بين جفني طيف أحلامي وأنسي
مداخلة الشاعر تركي عامر: الجمهور الجميل، من الجولان والمثلّث والكرمل والجليل. أسعد الله مساءكم بكلّ خير وحبر وحبّ وحدب وحنوّ وحنان. مين حنان؟ حلوة؟ قدّيش عمرا؟ عندا فيسبوك؟ تذكّرت يا أخوات الفسبوكة، اللّي عامل عليّ بلوك يتفضّل يعطينا عرض كتافو يفكّ البلوك ويضيفني ويرجع لهون. هون فين يا سول مامتك؟ وجهك ع الحيط.. وجهك ع الحيط !
لم أكن أحبّ "بيت الكرمة"، أمّا اليوم فصرت أحبّه مرّتين، مرّة لاستضافته هذا الاحتفال الفاغم بتوقيع كتاب لأخت وصديقة وزميلة أحبّها وأحترمها شخصًا ونصًّا، ومرّة لأنّه ("بيت الكرمة") وفّر لنا "دوخانًا" يليق بذوي المقاسات الخاصّة.
الفرندات والفرندون الأعزّاء، الّلايك عليكم وزحمة الكومنت وحركاته. الزّملاء، سليم ضوّ، هيام قبلان مصطفى، محمد حمد، راوية بربارة، حنان أبو الزّلف، الياس عطا الله. المحتفى بها، عروس هذا المساء هيام أبو الزّلف. أسرة المحتفى بها، آل منصور وآل أبي الزّلف (من الملعقة الصّغيرة وصولًا إلى الكفكير الأكبر. (لست ناقدًا بالمعنى الحَرفي والحِرفي. للنّقد رجاله ونساؤه وهؤلاء قوّامون وقوّامات عليه. لا تتوقّعوا منّي كلمةً مهنيّة في الكتاب. ليس في جعبتي إلّا تحيّة صديق يحبّ ما أنجبت صديقته (وين المغلي؟).
تحيّة زميل يفرح لفرح زميلته بإنجازها الجميل. ولنا مع الفرح موعد ثان إن شاء الله يوم زفاف أمل وحلمي الغاليين. ألف مبروك سلفًا وخلفًا وعقبال النّيدز أجمعين. لست ناقدًا مهنيًّا ولست وصيًّا على من يكتبون. فصمتنا قاعة واسعة تتّسع لجميع الأصوات. لكنّها فرصة لأقول لكتّابنا وشعرائنا، النّاشئين منهم والنّاتئين: إضافة إلى حرصكم على دقّة اللّغة رسمًا ونحوًا وصرفًا (وهذا مقدور عليه)، فلتتركوا الثّرثرة الإنشائيّة والكلام الخطابيّ المنشّى إلى غير رجعة، ولتبتعدوا عن الحشو والإسهاب والهذر والإطناب ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا من حذف وإيجاز وتكثيف واختصار، وليكن ما تكتبون واضحًا أنيقًا بسيطًا عميقًا، ولكن لا ضير بقليل من الغموض، فهذا يفرح قلب القصيدة وقلب القارئ أيضًا، ولتكن كيمياء الكلمات متطابقة مع فيزياء المعاني قدر الإمكان، وأخيرًا في هذه الشّأن، حبّذا كان المكتوب شديد الشّبه بالمكبوت والمكبوس، ولو كان هذا خارجًا من كابوس.
وبالعودة إلى هيام، وما أحلى الرّجوع إليها، قبل أقلّ من سنة قلت فيها: لَهَا فِي الْقِرَاءَةِ عَيْنُ الصُّقُورْ،/ تَصُولُ تَجُولُ وَلَا يَعْتَرِيهَا غُبَارُ غُرُورْ./ تَرَى مَا وَرَاءَ السُّطُورِ سُطُورًا وَرَاءَ سُطُورْ./ هُيَامُ شَقِيقَةُ رُوحٍ، رَفِيقَةُ رِيحٍ،/ بِحُبٍّ تُحَاوِرُ شِعْرِي،/ وَلَيْسَتْ تَضِنُّ بِصِدْقِ الشُّعُورْ. أمّا اليوم وبعد صدور كتابها الأوّل، أقول: لَهَا فِي الْكِتَابَةِ بَيْتٌ وَزَوْجٌ وَخَمْسُ بَنَاتْ/ وَقَلْبٌ كَبِيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاةَ،/ لَهَا فِي الْحَيَاةِ كِتَابٌ عَلَى أَرْضِنَا يَسْتَحِقُّ الْحَيَاةْ.
لا أقول ذلك من باب المجاملة الكسولة أو الضّريبة الكلاميّة. أقول ذلك لأنّنّا أمام أديبة تتقن اللّعبة الحبرولوجيّة بشكل لافت، أمام من تمتلك موهبة جميلة وتجربة طويلة وثقافة لا يخجل بها كبار الأدباء. إلى ذلك، وفي هذا السّياق المرأوي، ليس سهلًا على المرأة الكاتبة (العربيّة خصوصًا وتخصيصًا وخصخصةً) أن تكون زوجةً وأمًّا وعاملةً بوظيفة كاملة ولا يتبقّى للقراءة والكتابة إلّا القليل القليل من الزّمان والمكان. مثلّثة النّعم الأدبيّة (شاعرة وقاصّة وناقدة). لم تصدر باكورة روحها البيضاء إلّا بعد أربعين عامًا من "التّيه" في صحارى الفضاء. بعد طويل انتظار وجميل انتصار. بعد تأنٍّ وتريّث وإعادة ترتيب أوراق وأشواق وأخلاق، تتحفنا هيام بمجموعتها الشّعريّة الأولى، "في إسار الكلام" (2016)، صادرة عن "دار الكلمة" لصاحبها الصّديق الشّاعر والكاتب والفنّان معين حاطوم. ألف مبروك للصّديقة الأستاذة هيام أبو الزّلف لهذا الإصدار الباذخ. قدمًا إلى حيث الأمام يا هيام.. وإلى المزيد من العناوين في مختلف الجانرات الأدبيّة الّتي تتقنين. أمّا بعد، ولأنّي وعدت سليم ضوّ أن ألتزم بأقلّ من عشر دقائق فأكتفي بما يلي: في كتابِ هيامْ،/ "في إسارِ الكلامْ"،/ تجدونَ كلامًا يعيدُ البريقَ لفنِّ الكلامْ،/ تَجِدُونَ كَلَامًا يَقُول كَلَامًا بِدُونِ كَلَامٍ يُتَرْجِمُ بَوْحَ الْهُيَامْ/ تَجِدُونَ كَلَامًا يُعِيدُ الْحَيَاةَ لِمَا فَاتَنَا مِنْ رَمِيمِ عِظَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حُبٍّ بِإِبْرَةِ حُلْمٍ وَخَيْطِ سَلَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حَرْبٍ عَلَى حُلَفَاءِ الظَّلَامْ
مداخلة هيام ابو الزلف: وفي الختام كانت كلمتي حيث شكرت كل من أسهم في نجاح الأمسية، قمت بعدها بقراءة قصائد تمثل أنواع الشعر المختلفة: الكلاسيكي، وشعر التفعيلة، وقصائد النثر.
مما ورد في كلمتي: الشاعر تركي عامر القادم من أعالي الجليل، ذكرته في مقدمة الكتاب بما يلي: للْمبدع ((تركي عامر)) فضْلٌ وأثر على ما أكتب.. ولا أبالغ إن قلت أن قصيدتي قبل التَّعرّف إليه عام 2009 من خلال منتداه الأدبيّ "ورقستان" هي غيرُها بعدَه.. "أنت تكتبين الشعر الحر، وفي نفس الوقت تعتمدين السّجع، قصائدُك تبدو كرجل عصريّ بسروال جينز ولا يتنازل عن الْعباءة، إذا أردت أن تكتبي قصيدة النثر، اتركي السّجع". نعم، كنت أعتقد أنني أستمدُّ الإيقاع من القافية. وإذا هي في عرْف الشّاعر "تركي عامر" مجرَّد سجع، ما دام الشّعر لا يُلتزم فيه بالأوزان، وبأن قصيدة النّثر تستمدّ إيقاعَها من جمل قصيرة موحية.. وكم ساعدني بملاحظاته حول سمات شعر التّفعيلة، وحول ما لا يجوز في القصيدة العموديّة.
.. إليك شاعرنا أقول: لِتُرْكي وللـشِّعْـرِ أُجْزي التَّحيّة/ لحبْرٍ نظيفٍ وحُسْنِ الطَّويّة/ إلى الحقِّ والخيْرِ والحُسْنِ ترنو/ فتزهو وتسمو بِكَ الْأبْجَدِيّة/ فأرجـو لك الخـيْرَ كـيْفًا وكـمّا/ فذا الخيرُ.. منهُ الْمَعاني عليّة
شاء حسن طالعي أن أستمع إليه في مداخلتين رائعتين في أمسية الأديبة حوا بطواش، وفي أمسية الشاعرة نبيهة جبارين في نادي حيفا الثقافي الّذي يديره الرائعان الأستاذ المحامي فؤاد نقارة وزوجُه سوزي، مما جعلني أعد نفسي بأن يكون ضمن من سيدلي بدلوه في أمسيتي، إنه د. محمد حمد، وأعرف بأنني لن أفيك حقك حين أقول: امتناني دونَ حَدٍّ يا محمد/ من بنهر العلمِ والإدراكِ عُمّد/ قَد بهرتَ الكلَّ في حسْنِ البيانِ/ كم أجدْتَ الْقولَ يا فذًّا تفرّد/ ذو حضورٍ منْهُ سحْرٌ اعْترانا/ مدهش من ساح في الأرقى وأبعد
اختياري للدكتورة راوية بربارة كان أمرا بديهيّا، فهي إلى جانب ثقافتها وسعة اطلاعها أديبة، ملمة باللغة العربية، تملك أدوات نقد كل الألوان الأدبية، وأعتبر نفسي محظوظة إذ استمعت إليها في أكثر من نشاط ثقافي.. فاستمتعت واستفدت: كمًّا من الكيف قد أجزيتِ يا راوية / يا منّةً من إلهي إذ أجدْتِ العطاء/ يسمو بك الفكر والمعنى ويعْلو البيان/ إن كان من مرتجًى باقٍ فأنتِ الرّجاء / ما دام لي خافقٌ الْفضْلَ لن أغفِلَه/ جَمٌّ منَ الْحُبِّ في قلبي.. يطالُ السّماء
الصّديقة الشّاعرة هيام قبلان كانت بالنسبة لي المثلَ الأعلى، ومحطَّ إعجابي ومبعثّ فخري، وهي الرائدة من وسطنا الدرزي التي اقتحمت مجال الأدب، فسلطت عليها الأضواء لتكشف إنسانة جريئة تتحلى بالكاريزما والإلقاء الجميل. كم سحرني صوتُها وثقتها بنفسها وثقافتها، في لقاء إذاعي مع زكي المختار،كنت أتطلع إلى يوم أتقرب فيه منها وأصبح صديقتها.. ويا لي من محظوظة: هيامُ الشّعرِ جادَتْ بالكلامِ/ فكانَ الطّيبُ منْ نفْحِ الْهُيامِ/ وكانَ اللّحْنُ يَأتينا بسحْرٍ/ فتصبو الرّوحُ شوقا للتسامي/ إليْكِ الْحُبُّ منْ قلبي يسيلُ/ كنَهْرٍ نَحْوَ بَحْرٍ منْ سلامِ
أنا أدّعي أنّه وراء كلّ قصيدةٍ حكاية.. فالشعر -مع أنه جانر يختلف عن السرد- هو الابن الشرعي لقصة نسجت أو ما زالت تنسج، وقارئ القصيدة أو سامعها يطلع فقط على الاعتمالات الشعوريّة الّتي سببتها الأحداث التي خبرها ويخبَرها بطل القصة أي الشاعر.. لذا أقول لحنان أبو الزلف: كالكرملِ المطبوعِ بالزّعتر/ مجبولةٌ بالسّحرِ هذي الحنان/ أدهشتني بالسّرد أمتعتني/ أهوى حكاياتٍ تشي بالجُنان/ اسْعَيْ نحو أفقٍ وضُمّي السّنا/ هاتي لنا فخرا ونالي الأمان
قرأت عبارة بالعبرية لا أعرف من أطلقها، مفادُها أن روح الدعابة هي أمر جديّ، בדיחה זה עניין רציני، وفعلا، من يمتلكون روح الدعابة هم الأذكياء بالضّرورة، بل العباقرة، فهم يتحلون بسرعة البديهة، بالإلمام بالسياق الاجتماعي والسياسي والديني والنفسي، بالإبداع الباهر، إذ إن في كل نكتة مفارقة مدهشة، أحد هؤلاء هو سليم ضو: مثلُ الثريا في تسام باهر/ لكن من الألبابِ دانٍ مستَديم/ يستحضِرُ الإبهاج من عمق الأسى/ حتّى تخالَ الكونَ ذا مثل النعيم / خصْمي اغترارٌ واختيال بائسٌ/ لكنّني أزهو بلقيا ذا السليم/ إذا انفرجتْ أساريرُ الكـلامِ/ يجيءُ البوحُ مشدودٓ الحِـزامِ/ نُحنّي الصّمتٓ إكليلاً لِسِفْرٍ/ منٓ الأنسامِ من قلمِ الهيامِ !! الشاعر مجيد حسيسي
"في إسارِ الكلامْ"،/ تجدونَ كلامًا يعيدُ البريقَ لفنِّ الكلامْ،/ تَجِدُونَ كَلَامًا يَقُول كَلَامًا بِدُونِ كَلَامٍ يُتَرْجِمُ بَوْحَ الْهُيَامْ/ تَجِدُونَ كَلَامًا يُعِيدُ الْحَيَاةَ لِمَا فَاتَنَا مِنْ رَمِيمِ عِظَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حُبٍّ بِإِبْرَةِ حُلْمٍ وَخَيْطِ سَلَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حَرْبٍ عَلَى حُلَفَاءِ الظَّلَامْ. الشّاعر تركي عامر
أنا أدّعي أنّه وراء كلّ قصيدةٍ حكاية، فالشعر- مع أنه جانر يختلف عن السرد- هو الابن الشرعي لقصة نسجت أو ما زالت تنسج، وقارئ القصيدة أو سامعها يطلع فقط على الاعتمالات الشعوريّة الّتي سببتها الأحداث التي خبرها ويخبَرها بطل القصة، أي الشاعر، لذا أقول لحنان أبو الزلف: كالكرملِ المطبوعِ بالزّعتر/ مجبولةٌ بالسّحرِ هذي الحنان/ أدهشتني بالسّرد أمتعتني/ أهوى حكاياتٍ تشي بالجُنان/ اسْعَيْ نحو أفقٍ وضُمّي السّنا/ هاتي لنا فخرا ونالي الأمان