ليس الأمر مجرد أزمة اقتصادية وتداعياتها، بل هو أعمق من كذلك لجهة ان الثقافة الرصينة في عصرنا تعيش محنة كونية بامتياز، فهاهي واحدة من أعرق علامات الموسيقى الرصينة في الولايات المتحدة تعلن افلاسها، ولأسباب كثيرة جداً، منها انخفاض عائدات التذاكر والتبرعات بالإضافة إلى التكاليف التشغيلية ومستحقات تقاعد العاملين، على رغم انخفاض اجورهم فضلا عن العدد القليل النسبي لهم.
انه خبر سيء بالتأكيد، لكن ما هو اسوأ من افلاس أوركسترا فيلادلفيا الشهيرة التي تأسست في عام 1900، هو مؤشر انحسار الذائقة الجماهيرية، فبدون جمهور مواظب على حفلات الاوركسترا، وبدون اقتناء الاسطوانات التي توثق حفلاتها تارة، او تعكس القدرات التأليفية والعزفية لاعضائها تارة اخرى، لايمكن لمؤسسة ثقافية رفيعة كالاوركسترا الاميركية الشهيرة الا ان تغلق ابوابها، حتى وان استمرت بخجل بعض محاولات ابقائها على قيد النغم الجميل عبر تبرعات محبي الموسيقى الرفيعة او دعم بعض المؤسسات التجارية.
أروكسترا فيلادلفيا السيمفوني: معلم ثقافي رصين يعلن افلاسه
الامر اذن يتعلق بتحولات الذائقة، والتغييرات الجوهرية التي طالت صورة الموسيقى وتأثيرها في ثقافة الجمهور العريض، الذي بات يختار ما يناسب ذائقته وتطلعاته دون التوقف عند رموز كبيرة ومؤثرة، حتى ولو كانت بحجم التأثير الذي يعنيه تاريخ من النغم الانساني الرفيع قدمته لاكثر من قرن اوركسترا فيلادلفيا السيمفونية.
الجمهور اليوم يقتني نغمه الخاص وموسيقاه الشخصية، وليس سرا ان مغنية مثيرة للجدل موسيقى واداء وظهورا صاخبا مثل "ليدي غاغا"، تحقق اقبالا ومبيعات اكبر من مما تحققه مثالا مبيعات اسطوانات بيتهوفن، ليس في الولايات المتحدة وحسب بل في مناطق عدة من عالمنا المعاصر. هذا لا يعني مؤشر اساءة الى ثقافة من يقبل على انغام المغنية الاميركية الغريبة الاطوار، ولا الى المغنية ذاتها، بل انه مؤشر تغييرات كبرى في الذائقة وصورة الثقافة ذاتها، فالذائقة الانسانية اليوم تبحث عن ما يلائم حالاتها الشعورية والفكرية، اكثر من عنايتها بالاتصال مع الرموز العميقة في الثقافة الانسانية، ومنها رموز الموسيقى الرصينة التي تشكل النسيج الحي في عمل اوركسترا فيلادلفيا السيمفوني، انها ذائقة مأزومة كما عصرها، مأزومة باسئلة جارحة وحادة من نوع تأمين عناصر الوجود الانساني ومتطلبات العيش، فضلا عن اختبار قيم الوجود الانساني من الحرية الى الاستقرار مرورا بالتحصيل العلمي وتحقيق الخبرات العلمية، واسئلة ترقى الى الازمات كهذه، تدفع بالمتلقي الى اختيار نتاج روحي وثقافي قريب من ايقاع حياته، يشبهها ويحاكيها، وهو بالتأكيد لفرط اتصاله بالواقع اليومي لن يكون من نوع عميق ومعني باسئلة الوجود الانساني كما في الثقافة الموسيقية الرصينة.
افلاس اوركسترا فيلادلفيا السيمفوني محنة للثقافة الرصينة في العالم اليوم، ليست بعيدة عن محنة اكبر مركز ثقافي في العالم، هو "مركز كنيدي" في العاصمة الاميركية واشنطن، حين صرّح مديره اواخر العام الماضي بان مركزه لن يصبح بامكانها تقديم المزيد من الاعمال مع استمرار ازمته المالية.
ولو قارنا بين قيمة المديونية التي كانت سببا في اغلاق اوركسترا فيلادلفيا الشهيرة (نحو 15 مليون دولار) وبين ارباح عملاق النفط الاميركي (اكسون موبيل) في العام الماضي فقط (نحو 40 مليار دولار) لاكتشفنا وجها آخر من وجوه الازمة، فقيم الربح المتصاعدة في عصرنا تشكل في صعودها "تسونامي" مرعبا لا يبقي ولايذر من اثار الثقافة الانسانية وتفاصيلاته الروحية، فتلك القيم فضلا عن تعارضها الاساسي مع قيم الحرية الفردية الانسانية التي تعتني بها الثقافة والافكار والفنون، انما هي ترسخ ازمات يومية حادة وصعوبات انسانية تدفع بالجمهور الى الالتفات الى اي مادة ثقافية تشبه ازماتها، وهي بالتأكيد ستكون من نسيج الفنون والاداب السائدة مثل اسطوانات الغناء والموسيقى الاستهلاكية.
ان نسبة صغيرة من ارباح الشركات الكبرى في العالم بامكانها انعاش الثقافة الانسانية في كافة ارجاء المعمورة، ولو راجعنا جهد احد عبقري عصرنا واحد رموزه الانسانية النظيفة مثل ابي تقنيات المعرفة المعاصرة بيل غيتس، وما فعله في بلد مثل الهند طوال نحو عقد كامل، حين تبرع لمرات بعشرة مليارات دولار في مجالات تحسين الصحة والمعرفة والتعليم والمشاريع الثقافية، لوجدنا كيف اثمرت امواله تلك في انتاج جيل جديد من العلماء الشبان وبناء بيئات نظيفة خالية من العاهات والالام.
ومع تراجع المثال الذي يقدمه غيتس حيال امثلة لقيم الربح التجاري المخيفة في عصرنا، فاننا لن نستغرب افلاس مؤسسات ثقافية كبرى لطالما ارتبطت بالذائقة الرفيعة وبالثقافة الانسانية المحرضة على قيم الجمال والحق والعدل.