لا شك في أن موضوع التراث في العمارة واسع ومعقد جدا، لذا سنركز على أهم المحاور التي تتناول مجال تدوينه من قبل العرب والمسلمين، ونحدد الأمور التي تخص الموروث العمراني مع رفض توجهات العمارة العالمية الداعية إلى إهماله.
قبل كل شئ ، نطرح سؤالنا الجوهري : ما هو التراث المعماري؟ وما هو مجاله؟
يعتقد الكثيرون خطأً أن التراث المعماري يشمل كل الأبنية والنصب والأحجار التي مازالت قائمة اليوم، بغض النظر عن الوظيفة التي بنيت من أجلها أو أصول تواجدها، فالعمارة ليست هي الحضارة، بل هي الشاهد المادي على الحضارة . فلا عمارة بدون ازدهار حضاري . وما نشاهده اليوم من آثار وبقايا، أو ما قرأنا عنه، قد يكون منشآت بدائية أقيمت لحماية الإنسان من أبناء جنسه، أو من الحيوانات المتوحشة، أو الظروف المناخية . هذه الأبنية لم تقم على نظم معمارية، بل كانت تعتمد على طاقة الإنسان ومواد البناء المتوفرة في الموقع (خيمة، أحجار، كهوف .... ) العمارة لم تظهر حتى الألف الرابع قبل الميلاد، وتحديداً في البلاد والمدن المتكاملة حضريا ( مثل أور و لكش ) ولكن هذا لا يعني شطب النشاط الإنشائي للإنسان لآلاف السنين قبل السومريين عند متابعة تطور الحياة الإنسانية الجماعية الأولى، لكنه ليس دليل حضارة . وهنالك آثار معمارية قد بطل استعمالها اليوم، فوظائفها قد تجاوزها الزمن، مثل المعابد والقلاع والخانات والنصب . لذا يمكن تحديد التراث المعماري بكونه الأبنية القديمة التي مازالت مستعملة اليوم، أو تلك التي يمكن الاستفادة منها في العمارة اليوم، كلياً أو جزئياً .
التراث المعماري ليس رؤية رجعية ظلامية، كما يدعي البعض، وهو يخلو من صفة قومية فلا يصح الحديث عن تراث معماري عربي وآخر كردي أو تركماني، وكذلك يخلو من صفة دينية أو طائفية، فلا يوجد تراث معماري إسلامي وآخر مسيحي، ومن صفة قطرية فلا يصح القول: تراث عراقي وآخر مصري . وإن حدثت استثناءات فهي ليست حاسمة . فضمن منطقة تراثية واحدة نجد أحياناً شعوباً وقبائل مختلفة المشارب والطبقات، بل أن ما يثير الاعتزاز في الأحياء والمدن القديمة هو صعوبة التمييز بين طائفة أو قومية أو عشيرة وأخرى، فالكل سواء والجار يحترم جاره . ومن الطريف ذكره في هذه الأحياء أن صاحب الدار لا يسمح لنفسه في رفع بناء أو جدار مسكنه دون الحصول على موافقة الجار أولاً، لأن ذلك قد يعني حجب الشمس أو الهواء عن الجار .
إن محاولة تحديد التراث المعماري وأصوله مازالت غير وافية، فالأمر الذي يساهم في تعقيد دارسة جذوره. هو غياب أسماء المعماريين وأي نص توضيحي أو نقدي لمنتجي العمارة العمارة العربية والعمارة الإسلامية تحديداً، أما أسماء الخلفاء والوزراء الذين أمروا ببناء هذه المنشآت أو مولوها فسجلت أسماؤهم على واجهاتها ومداخلها . وإن ذكرت المصادر أسماء المعماريين فهي على الأغلب مجهولة للقارئ . وتشير الحادثة المعروفة إلى أنه قبل الإسلام قتل النعمان بن النذر مصمم وباني قصره الأسطى سنمار، فذهب مقتله مثلاً . كما ذكرت المصادر أسماء مصممي ومخططي مدينة بغداد المدورة بقيادة المعمار الحجاج بن أرطأة . والأستنثاءات قليلة، فأبن خلدون (1332 – 1406) كتب القليل عن العمارة، وما كتبه عموماً لا يفي بمتطلبات البحث العلمي، فقد تجاهل، مثلاً، العناصر الجمالية أو التشكيلية للأبنية . المثال الآخر المتميز هو المعمار العثماني الشهير سنان ( 1490 -1588 ) مصمم أشهر مساجد اسطنبول الحالية إضافة للعديد من الحمامات والقناطر، لكنه لم يكتب هو شيئاً، بل ألف أحدهم كتاباً واحداً عن أعماله أثناء حياته هو (تذكر البنيان) وبعد وفاته نشر عنه كتابان هما (تذكرة الأبنية) و ( تحفة المعماريين ) .
أما عن التراث المعماري في أوربا، فيعود حسب أقدم المصادر المعروفة اليوم إلى العهد الاغريقي حيث دونت المبادئ الأولى الفنية والفلسفية للعمارة، مثل مفاهيم النسب والأنظمة المعمارية والتماثل . ومع هذا يعتبر المعمار الروماني فيتروفيوس الذي عاش في القرن ( الأول ق.م ) أول من ألف الكتب والنصوص المعمارية التي اعتمدت في أوربا حتى بعد عصر النهضة. وفي آرائه مفاهيم كثيرة عن التكوين الفني والرسم وممارسة المهنة المعمارية، كما ومن مبادئه الستة المشهورة نظرية الشكل واستعمال وشروط البناء في الموقع والجانب الاقتصادي في استعمال المواد البنائية . وأكد على أهمية التعليم ودراسة مبادئ التخطيط الحضري . كما تحدث عن القيم الفنية مثلى التطابق والتجانس . ورغم ارتباط العمارة في أوربا بالكنيسة في القرون الوسطى خصوصاً، إلا أن المعماريين استطاعوا أن يبدعوا ويحافظوا على موقعهم المتميز في منتصف القرن الخامس عشر حيث ظهر ( ألبرتي ) : كأول من كتب في عصر النهضة في نظرية العمارة ووضع نظرياته وتصوراته حول المبنى الأمثل وبعده بمائة عام ظهر ( بلاديو 1508 – 1580 ) متأثراً بأسلافه من عصر النهضة فكتب عن علم الجمال . وهكذا استمر التطور في الكتابة والتفاعل والنقد المعماري في أوروبا حتى وصل إلى ذروته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بنشوء العمارة الحديثة التي شاهدنا مراحلها المتقدمة منذ ذلك الحين وحتى اليوم .
أحد مؤلفات الكاتب حول (فيتروفيوس) أول مُنظر للعمارة
لم تظهر في الشرق دراسات مشابهة إلا في القرن العشرين، وقد سجل العديد من الباحثين هذه الظاهرة، لكن أيا منهم لم يحاول تفسيرها. ولكننا نعتقد أنها تعود إلى المعضلة التاريخية الدائمة ما بين التراث والحداثة، فنلاحظ مثلاً أن العمارة الإسلامية تفتقر إلى الخلفية المعمارية، فلم تشر التنقيبات الأثرية حتى الآن عن وجود أي عمارة ملموسة ذات قيمة في مكة أو يثرب قبل ظهور الإسلام. لذا كما يبدو، اعتمد المسلمون عند الفتوحات على معماريين وفنانين من حضارات مجاورة، فارسية أو بيزنطية، ولم تذكر أسماؤهم تجنباً لحساسية محتملة لكونهم من أديان أخرى، أو لأنهم أجانب على الأقل. إن ما يؤكد هذا الاستنتاج غياب المؤلفات المعمارية في أرض عرفت أول الحضارات الإنسانية، أرض أول أبجدية معروفة حتى الآن/ دونت بها أول القصص الأدبية وأول القوانين والشرائع بل وسجلت فيها وبالتفصيل حياة وأخبار ملوكها.
(الكعبة المشرفة) أولى المباني المهمة عند ظهور الاسلام
أما ما سجل المسلمون الأوائل بهذا الخصوص فلم يتجاوز جملا سريعة تعكس بدائية معمارية لا تنسجم مع الواقع الحضاري، مثلا، تذكر المصادر التاريخية أن تحديد أول المدن الإسلامية مثل البصرة والكوفة (14 و 16 للهجرة) قد تم من خلال رمي السهام في الجهات الأربع، وأن أبا جعفر المنصور قد اختار موقع بغداد المدورة (762م) بعد مقارنته مع مواقع أخرى من حيث الزمن الذي يستغرقه تعفن اللحم في كل منها مع العلم أن مخطط المدينة يعتبر من الناحية المعمارية والحضرية من أهم وأكمل المخططات للمدن الجديدة. فأوروبا لم تعرف مخططا مشابها له إلا في أواخر القرن التاسع عشر حين قدم هيوارد (1898) مقترحه للمدينة الحدائقية. إن مصممي بغداد المدورة أجانب بالتأكيد، بقيادة معماريين عرب، حيث يلاحظ على المخطط تأثيرات مبادئ تخطيط المدن الرومانية المتعمدة على الشارعين المتعامدين .
الاحتمال الثاني المفسر لضعف أو عدم تسجيل ما يخص العمارة والفن عموما في الحضارة الإسلامية يعود إلى إشكالية العلاقة ما بين الإسلام والفن، إذ يرى البعض أن الإسلام يحرم الفن بشكل عام، وهو موضوع واسع لا مجال لبحثه الآن، لكن الذي يهمنا هنا هو التأويلات لنصوص قرآنية أو أحاديث نبوية تدعم مبدأ التحريم، ورغم وجود تيار رافض لهذه التفسيرات، لكن التهميش مس الفنانين والمعماريين معا.
لكل ذلك يواجه الباحث الكثير من الصعوبات والارباكات اليوم فيضطر للاجتهاد أحياناً في الأصول والمبادئ الفنية لعموم فن العمارة، وهو ما أدى إلى ضبابية وضعف البت في العديد من خصوصيات النتاج المعماري، وساهم في استمرار الجدل حتى اليوم حول مفهومي العمارة الإسلامية أو العمارة في العالم الإسلامي والفرق كبير بين المفهومين لذا لا نستغرب اليوم من تعدد الحجج والاجتهادات لمن يهاجم التراث المعماري وهو جاهل له، ومن يدافع عنه وهو لم يفهمه.
جزء من سور بغداد
لقد ساهمت التنقيبات الأثرية في تأكيد ثراء تراثنا المعماري الذي يعود لما قبلي الألف الثالث قبل الميلاد. فأن أقدم أثر مشابه للتراث المعماري الذي نشاهده اليوم هو المسكن السومري في (أور) ونجد مبادئ تخطيط هذا المسكن منتشرة من أفغانستان والهند شرقاً حتى أمريكا اللاتينية غربا ومن مدن العثمانيين شمالاً (اسطنبول وسراييفو) حتى مناطق الصحراء الكبرى جنوباً. هناك تشابه وتطابق في مبادئ المخططات على مستوى الحي أو المسكن الواحد. ومع هذا فهناك خصوصية لِكُلِّ منطقة تؤكد التكيف الموقعي في كل مدينة. إنها الرمزية التي تحدد (هوية) كل مدينة حيث يمكن التعرف على المدينة من رموزها، فعمارة بغداد التراثية تتميز بمساكنها ذات الملاقف (البادكير) المفتوحة على الجهة الشمالية الغربية (الغربي) لتلقف النسيم، في حين يكون الملقف كبيراً وذا فتحات متعددة الاتجاهات في عمارة مدن الخليج العربي، وذلك بسبب تغير اتجاه الرياح يومياً (نسيم البر والبحر) والحاجة الماسة إلى كميات كبيرة من الهواء في مناخ حار ورطب. كما تتميز مساكن القاهرة بالمشربية في الطابق العلوي، وعمارة (غرادية) في الجزائر تتميز بالمئذنة المربعة الشامخة في مركز المنطقة السكنية (القصر) .
قلعة اربيل
أمام هذه التنوعات، يطرح التساؤل: لماذا إذاً هذا الإصرار على هذا النمط المتكّيف لأصل معماري واحد؟ وكيف استمر هذا النمط طوال مئات، بل آلاف السنين مع أن أفضل وأشهر نمط معماري معروف لم يستمر لأكثر من ألف عام؟ لاحظ أن الاستمرارية رافقها تغير للظروف الاجتماعية – الاقتصادية مع توالي حضارات ودول سيطرت على المدن نفسها. والواقع فإن العامل الوحيد، الذي لم يتغير وساهم في بقاء هذا النمط، هو المناخ الذي حدد شكل وطبيعة النسيج العمراني، وبالتالي حدد مبادئ مخطط المسكن الشرقي.