يرى الآخرون
قراءة في مجموعة "زهرة الأنبياء"
ممدوح عزام
لا شك عندي أن أفضل ما تقدمه الأعمال الفنية الرائعة هو أنها قادرة على منح القارئ المتعة من اللحظات الأولى التي يراها فيها أو يقرؤها أو يسمعها، أي من لحظة تلقيها، ولا شك عندي أن عمل "سالمة صالح" الذي أعطته عنوانا موحيا هو "زهرة الأنبياء" من الأعمال الأدبية العربية التي تمتلك هذه الميزة الإبداعية الجميلة.
فمن السطر الأول لكتابها الذي اتخذ شكل القصة القصيرة (مع أننا يمكن أن ننظر إليه كرواية) يشد القارئ إليه هذا السر الفني العظيم فيغدو أسير الكلمات السحرية التي تقوده فيما بعد إلى ثلاث وثلاثين قصة لا يترك الكتاب حتى ينتهي منها، تكتب سالمة صالح: "أعرف أنني سأعود يوما، أبحث عن تلول النرجس تحت ساعة البريد، عن طريق ينحدر عبر حقول القمح إلى محطة القطار، عن ..." قصة ما من طريق يسلكه المرء مرتين ص5.
هذا هو مطلع القصة الأولى. وسوف يفضي بنا عبر شبكة من تداعيات الذاكرة (والكتاب مبني على يقظتها في لحظة الكتابة وقد أخذ عنوانا فرعيا هو "يقظة الذاكرة") إذن سوف يفضي بنا إلى عالم رحب مشرق مضاء بالكلمات التي تأتي لكي تخلده على صفحات الورق بعدما انتهى وجوده الواقعي تماما. فما تبحث عنه الكاتبة لم يعد له وجود سواء كان غابة الحور، أم الماء المنساب تحت العشب الفضي، ليحل محله جدار أصم من التوتياء كتبت عليه إعلانات بحروف ملونة كبيرة.
ورغم أن رحلة العودة إلى الماضي حافلة غالبا بالخيبات والانكسار وضياع الأشياء المحبوبة، فإن هذا بالضبط ما تشتغل عليه الكاتبة لتترك بعد ذلك انطباعا مغايرا ومختلفا لما اعتدنا عليه. والسر في ذلك هو أنها تغلبت بطريقة ناجحة على أهم عائق إبداعي، في هذه الحالة، ألا وهو الحزن. ففي حين يتوقع القارئ أن يخلف موت الأشياء الحبيبة فراغا مخيفا وكآبة وكمدا تخلق سالمة صالح لديه توازنا نفسيا قويا حين تجعله يتعاطف مع تلك الأشياء، ويعايشها كأنها ما تزال حية تنبض دون أن تقع، وتوقعه معها، في مطب التفجع والبكاء على ما لن يعود. فما من طريق يسلكه المرء مرتين كما كتبت في خاتمة قصتها الأولى التي أخذت العنوان ذاته.
وابتداء من لحظة التوازن التي أجادت الكاتبة في خلقها تلج بنا بعدها بكل يسر في فردوس من الكتابة متتبعة سير الذاكرة نفسها في تنقلها السريع، وخطواتها غير المرتبة من جهة، وفي استحضار الماضي بكل ما نستطيع من جهة أخرى.
وانبعاث الذاكرة أو يقظتها يحملنا بالطبع إلى الطفولة (ويبدو لي أن سالمة صالح تتفحص تلك المقولة التي تؤكد أن الكاتب يتكون في سنوات الطفولة واليفاع) والإحالة إلى الطفولة تستتبع رؤية الأشياء والعالم والبشر بعين الدهشة. وأول الشهوات، كما قال ديكارت، هو الدهشة وهي تنجح في نقل عدوى دهشتها إلى القارئ، على الرغم من أنها تلعب لعبة قص خطرة، إذ تجعلنا دائما في حالة معرفة بأن الراوية التي تقص صارت الآن شخصا بالغا كبيرا وقد عركتها الحياة وعلمتها التجارب، لكنها اختارت أن تقص ذلك الماضي بعناية فائقة هي عناية الكاتب المتمرس الذي يعرف بأن تجارب الحياة المنقولة إلى الأدب، ستتواجد كما قال (اريك بنتلي) في غير نسبها وأبعادها الحياتية.
لكن طابع التذكر نفسه، وانتقاء اللحظات والأشياء والتفاصيل الغنية التي تزخر بها القصص لا مناص من أن يذكرنا بأن حالة من "التقمص" قد تلبست الكاتبة بحيث استطاعت خلق ما يمكن أن نسميه آلة زمن عادت بنا إلى الوراء، إلى مرابع الصبا، لكي تمسك بيدنا فتاة يانعة في نواحي الموصل من أرض العراق، وتعرفنا إلى ناسها ورباها وتفاصيل الحياة فيها.
وهي ليست تفاصيل منفردة، بل أن أحد أسرار جمال هذه المجموعة القصصية (أو هذا العمل الروائي) هو أن كل ما ترويه ينبض كالقلب في أعماق كل من عاش منا تلك الطفولة اليانعة. حتى أنني لم أملك نفسي مرات كثيرة من أن أشعر بالأسف لأنني لم أكن كاتب تلك القصص. فكتابتها أمر يخصنا جميعا. كتابة جماعة بلا مراء، لا يملك القارئ إلا أن يشعر بالشوق والحنين إلى تلك اللحظات الرائعة من أيام الصبا. فمن منا لم يتسلق شجرة توت، أو دب تحتها، أو لم تلك الثمرات الغضة الحلوة، أو مضى لزيارة الجدة، أو ذهب للفرجة على أبواب المدينة..؟ الخ كل ذلك مما يشكل مادة القص الذي تبدع الكاتبة في استعادته.
لكن الشوق هذه المرة لا يدمر صاحبه، على الرغم من الموجبات الكثيرة التي يمكن أن تدفع الكاتبة في هذه النصوص (وهي مهاجرة عراقية تعيش خارج وطنها منذ زمن بعيد، ولا أمل لها قريبا بالعودة إلى هناك) أو تدفع القارئ المتعاطف إلى الوقوع في الشراك السهلة التي يمكن أن تنصبها لحظات التذكر. لكن عهد الرومانسية انقضى، فلم تسعَ الكاتبة إلى أن تجعل من صعوبة عودتها إلى الوطن مأساة، وبالعكس فهي تفتح كتابها بجملة شديدة المباشرة والواقعية قائلة: "أعرف أنني سأعود يوما" دون أن تقع أيضا في فخ التبشير المجاني، إذ جعلت من هذه الجملة الشديدة النصاعة مفتاحا إلى عوالم الذاكرة التي ستستيقظ بكل بهائها، لا كنوع من الاستبدال اللفظي لوطن بعيد وإنما كإعادة خلق لوجهه الحقيقي الذي يكاد يضيع: (لم أعد أرى الصبية وطاساتهم المليئة بالماء بعد ذلك ولا خيوطهم الراعشة وانتظارهم القلق. لقد كبرت وغاب كل ذلك عن الذهن لكني أدرك أني ما أن ألقى في تلك الضوضاء، وما أن أرمى على شاطئ صخري يأتلق بالحصى حتى يتراجع الزمن إلى الوراء وأعود إلى السن التي أحببت فيها كل هذه الأشياء.) قصة أسماك ص 36 . لكن الكاتبة في هذه القصة بالذات تخرج للمرة الوحيدة عن منطق سردها، لتطلق على إحدى لحظات الماضي (وهي صيد السمك) حكما أخلاقيا مستمدا من قيم الكبار وعقلانيتهم. ولم أجد مسوغا لذلك. إذ لا معنى له في شكل كتابتها وفي مضمون عملها، فهي لم تعن في المجموعة كلها بما وراء تلك الأشياء التي يقوم بها الناس، وإنما كان عملها منصبا على اللحظات التي عرفت أو أحبت فيها تلك الأشياء كما قالت، مثلما كان منصبا على الأشياء بذاتها، وهي التي حملت في داخلها جمالا إنسانيا دافئا ومعان روحية عميقة، بصرف النظر عن تقسيمنا الأخلاقي لها.
ولحسن الحظ فإن الكاتبة لا تكرر ذلك في قصصها الأخرى، مفسحة المجال واسعا للخيال، وقوة التذكر ليعيدا الحياة والنبض إلى ما ضاع من بين أيدينا. مرة لأننا لم نعد أطفالا، ومرة أخرى لأننا نفقد الوطن حيث هي أشياؤنا الجميلة.
في قصة (الثمار) تعرض لنا الكاتبة بطولة تلك الأشياء العادية، والكتاب كله على اي حال تمجيد للعادي، وجمال ما هو يومي قد نسهو عنه في خضم الحياة التي نخوضها والمشاغل التي ننغمس بها. وذلك ما تقدمه في قصة (يراعات) فحلم الكاتبة بالإمساك بتلك الحشرات الأثيرة التي تومض في ليالي الحصاد ناجم عن إخفاقها الطويل في سن الطفولة. وفي هذه القصة تضرب سالمة صالح كذلك توقعات القارئ تماما. لقد كان الإخفاق نصيبها دائما حين حاولت التقاط اليراعة أو سراج الليل. لكن هذا الإخفاق بالضبط هو موضوع القصة وغايتها لا بوصفه هزيمة أو انكسارا وإنما بوصفه حلما. إنها تعجز عن الوصول إلى اليراعة، وتعجز بعد ذلك عن الوصول إلى قمة الجبل (قصة الجبل) لكن جمال القصص كامن هنا: عدم تحقق الحلم!
وسوف يستمر هذا وهي لا تني تكرر سردها لأحلام الطفولة وخيباتها الكثيرة. والسر الجميل لديها هو أنها لا تتباكى كما أوضحنا بل تسعى لتصوير ذلك الماضي المندثر بأكثر الصور جمالا ورقة وعذوبة. فيصير القص نفسه هو اللعبة، بحيث تقودنا الكاتبة دائما إلى حلقتها الفارغة من وجود الحلم وعدم تحققه، قصة (الكنز) و (الثلج الأخير).
وقد يكون العنوان نفسه مدخلا لإحياء الذاكرة من جديد، فيقدم الكلام عن (الحجارة) في القصة التي حملت العنوان نفسه فرصة للكاتبة لكي توقظ أكثر من ذكرى متعلقة بها، سواء كان حكاية الأعمام الذين أرادوا بيع البيت أم الكلام عن أشياء الوالد، أم ذكر الحيوانات أم المدرسة. وكل ما في هذه الذكريات متعلق بالحجارة بطريقة ما. ولعل بعض هذه الذكريات يصلح أن يكون قصة مستقلة مثل الكلام عن المدرسة وكتابة موضوعات التعبير ص 45 وما بعد.
وبعض الذكريات يخرج عن نطاق عنوان القصة، وتترك الكاتبة المجال لخيالها أو ذاكرتها كي تتحرك في فضاء الماضي وفضاء النص معا، بكل حرية، فالكلام عن المدرسة يأتي متناثرا، ومتباعدا في أكثر من قصة (مسالك أخرى)، (ابن الأثير)، (الحجارة). والقصص مكتوبة على كل حال لكي تعمل على الماضي وحده، وإذا ما امتد شريط الذكريات ليصل إلى لحظة الكتابة فإن الكاتبة سرعان ما تقول إن ذلك فائض عن الحاجة، فما من طريق يسلكه المرء مرتين، وهذا ما يحدث عندما ترى معلمتها القديمة بعد مرور سنوات على تركها المدرسة، فتحييها وتعلق (إنها لا تعرف فيّ الطفلة التي كنتها، بعد حين أشعر أن تحيتي فائضة) ص 74.
قصص سالمة صالح تستعصي على الايجاز أو العرض فهي لا تقدم حكاية بأي معنى، وفي بعض القصص تشتد الذكريات، فتقدم الكاتبة في بضعة أسطر أكثر من ذكرى. وعلى الرغم من اختفاء الحدث أو الشخصية فإن الكاتبة تخلق حوارا داخليا بين القارئ والنص عبر سرد تفاصيل صغيرة مدهشة داخل السياق. ففي (الطاحونة) تصف جزءا مما تراه هكذا: (كانت الأحزمة الدوارة التي يمكن رؤيتها تحدث ايقاعا رتيبا ما أن يصغي إليه المرء حتى يتحول إلى كلمة تتتابع دون كلل وتكتسب في الذهن معنى (جبل) أو (عيد) أو أية كلمة يمكن أن يفكر المرء فيها). ص 64 ووصف حزام الطاحونة وضع نموذجي في نمظ كتابة القاصة، فهي تحرص على أن تجعل للأشياء تأثيرا إنسانيا ما. وأحيانا تبدع قصة متكاملة داخل النص نفسه. فلنقرأ من قصة الطاحونة نفسها: (في الطاحونة كان يمكن أن يرى بين حين وآخر طفل ينفجر باكيا. لقد انتظر طويلا فلم يفلح في التسابق مع الكبار، النسوة والطحانين. ربما فحصت إمرأة قمحه فرأته خليطا من قمح وشعير، إن دوره لن يأتي أبدا، ويراه الطحان فيرق له، يسأله عن اسمه، عن مكان بيته، ويطحن له قمحه، يكف الطفل عن البكاء، ويمسح وجهه بظهر كفه، فتتسع البقعة التي غسلها الدمع من وجنتيه. سيحصل على عشرة فلوس من أمه لقاء هذا العمل. عشرة فلوس تعني ثلاث زجاجات من "النامليت" وستمحو تلك الحلاوة المحرقة آثار التعب. غير أن عليه قبل ذلك أن يغسل وجهه) ص 65
والسؤال الذي يشغلنا الآن هو، إذا كانت الكاتبة ضربت الشكل التقليدي للقصة القصيرة، فلم تقدم حدثا، ولا شخصية، ولا حوارا وضربت شكل الرواية النموذجي فلم تعطنا نصا روائيا متكاملا، فكيف استطاعت أن تحل مشكلتي الايصال والتلقي الهامتين جدا؟
أظن أن براعة الكاتبة اعتمدت بشكل كلي على الكتابة ذاتها، فقدمت جملا طويلة مشحونة بالعواطف، والمفردات ذات الجرس الخاص المتلائم مع المناخ النفسي. لكن الوصف المفصل لعناصر الماضي المستعاد هو الأكثر بروزا في عمل الكاتبة، وهو وصف يستند إلى تشابك العلاقات بين الأشياء والبشر كما ذكرنا من قبل أو إلى ما يمكن أن نسميه أنسنة الأشياء أو دفعها لتكون هي نفسها نوع من مولد خلاق لذلك الماضي المحبب الذي تجول فيه الفتاة اليانعة التي كانتها الكاتبة ذات يوم، ولكن يبقى الوصف قائما بذاته، بوصفه إنجازا إبداعيا مدهشا. لنقرأ: "حقول القمح التي كنا نختبئ فيها فتبلغ سنابلها رؤوسنا، قد اختفت مخلفة مساحات شاسعة من أرض تكسبها جذامة القمح لونها الذهبي، وتتناثر فيها أكوام قش. تنبعث هنا وهناك روائح زهيرات برية جفت واختلطت بالقمح، لقد انتهى موسم النزهات منذ أسابيع..." ص 12
ونقرأ: "الشبابيك المتقابلة في جهتي الايوان ضيقة ذات أقواس، ولم تكن للغرفة التي كنا نعيش فيها رفوف تزدحم بالخزف الصيني، وصحون وكاسات كما عند الجيران، وإنما كانت لها جدران بيض وباب خشبي ثقيل إذا جاء الشتاء علق خلفه باب آخر نصفه الأسفل من خشب مدهون بلون فستقي ونصفه الآخر من زجاج" ص 40 أو: "بعد قليل سيفيق الجميع وتختلط الأصوات ببعضها، أصوات أليفة لأطفال يلعبون، نداء أمهات يدعون الأبناء لفعل هذا والكف عن ذاك، دقات ساعة الحائط تتتابع... أصوات باعة متجولين يعلنون عن بضائعهم الصغيرة... لكننا ننتبه ذات يوم إلى صوت نداء غريب في مكان ما من الحي..." ص 107 قصة أصوات.
ويمكن بالتأكيد اختيار مئات الأمثلة من النصوص الأخرى للدلالة على الحيوية التي يتمتع بها الوصف في قصص المجموعة، ومن الطبيعي على كل حال أن يشكل العمود الفقري في قصص تجعل من يقظة الذاكرة مجالها الحيوي الوحيد.
كتاب سالمة صالح نوع من القصص التي لا تنتهي، إنها تشبه النواعير، ما تفتأ تدور وتدور لتصب لنا كل مرة قدرا من الماء الزلال. لن يكون أبدا الماء نفسه الذي صبته منذ قليل، رغم أنه مثله ماء طيب قراح.
الموقف الأدبي العدد 299/300 نيسان 1996

