رؤية من الخارج :
في شهر أبريل المنصرم وتحديداً في دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة شاركت أنا ومجموعة من المبدعين العرب في ورشة عمل معنونة بـ ( الأدب التفاعلي ) على هامش جائزة الشارقة للإبداع العربي وبإشراف الأستاذ الدكتور مدحت الديار ، عييت أنا والمجموعة المشاركة وكلنا من الفائزين بحقول تلك الجائزة في تلك الدورة ، عيينا جميعا في الحصول على أنموذج تطبيقي للدراسة ، والذي زاد من حيرتي أن سبعة من العراقيين كانوا ضمن قائمة الفائزين أي أنهم سيكتبون عن المحور نفسه ، وقد باغتني أحد المشاركين ممن أعرفه أنه اختار رواية الكاتب الرقمي محمد سناجلة ( ظلال الواحد ) فقطع علي الطريق ؛ لأننا لا نملك في حقل الأدب التفاعلي نماذج غير هذه الرواية ، وإذا أردنا أن نأخذ مثالاً غيره فإننا سنأخذه من نتاجات الغربيين ولاسيما الأمريكيين .
فاضطرني هذا الأمر أن اعدل عن الكتابة التطبيقية التحليلية إلى الكتابة النظرية فكانت ورقتي بعنوان ( النص الشبكي : نحو نظرية نقدية للأدب التفاعلي العربي ) ، واليوم تمنيت أن الشاعر الرقمي الأول مشتاق عباس معن قد أنتج نصّه التفاعلي قبل هذا التاريخ ليكون مثالاً آخر يضاف إلى رواية سناجلة .
فماذا يطرح هذا الضيق النتاجي في أفق الساحة الثقافية العربية من أسئلة ؟
إنه أمر مخيف لا محالة !!
فهو يوحي بتقليدية فجة ستأكل أفق توقعات المتلقين جميعا ، ممن تعوّد على تلقي مرسلات التكنولوجيا والشبكة العنكبوتية الزرقاء ، لذلك تجد ردّةَ رفضٍ كبيرة من المتلقين .
فالأدب التفاعلي جنس أدبي جديد طرحته الآلة الرقمية الشبكية ( الإنترنت ) مدعومة بكل تعددية التناول للجهاز الماكني الدائم ( الحاسوب ) ، يحاول هذا الأدب أن يفسح المجال أمام المتلقي لاختيار قراءة النص التي يرديها بداية للعمل الإبداعي ، وهو أمر لا يتحقق من خلال النص الكلاسيكي الورقي فالبداية محددة ، والرؤية واحدة ، إلاّ إذا كان المتلقي متلقياً أنموذجيا يعدد علاميات النص ، وهو أمر لا يتيسر لكل المتلقين ، في حين النص التفاعلي ، أو كما أحب أن أسميه بـ ( الشبكي ) يتيح هذه الفرصة لجميع المتلقين ؛ لأن آلية التفرّع والتشعب موجودة في نوافذه المتداخلة المترابطة .
لذلك يتحتّم علينا أن نقرأ النص الجديد بحماسية كبيرة لأنه النصّ الأول من نوعه في خانة ( الشعر التفاعلي أو الرقمي ) بالعربية في العالم كله ، تخيّل أننا في عصر بداية التكوّن الحضاري ، ونملك أول نص شعري ، فماذا يجب أن نفعل حياله وحيال كاتبه ، تخيّل هذا الأمر وأنت تقرأ نص ( تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق ) للشاعر المبدع مشتاق عباس معن ، فهو أيضاً أول من كتب فينا قصيدة تفاعلية / رقمية / شبكية .
أليس الأمر يستحق حماسة منقطعة النظير ، فما عيينا عن إيجاده يوم استعدادنا لورشة الشارقة أوجده المبدع مشتاق في زمن تسيّد الغرب على كل مدخلات ومخرجات الإبداع والمعرفة والثقافة .
رؤية من الداخل :
وصلني نصّ / مجموعة الشاعر الرقمي الأول مشتاق عباس معن بقرص مدمج ، فخشيت أنه نصّ ورقي مخزون على القرص ، وهو أمر توهمه كثير من الأدباء ، بحيث يجعلون كتابهم الورقي على الأقراص أو على الإنترنت متوهمين أنهم دخلوا في أفق الأدب التفاعلي ، لكنهم بالواقع ما زالوا ورقيين وغير رقميين ؛ لأن الرقمية تحتاج إلى صياغة تنسجم والإمكانات التكنولوجية بحيث يستثمر كل آلياتها لتوصيل إبداعه .
لكنني فوجئت أنني أقرأ نصّاً تفاعلياً حقيقياً ، نعم هناك بعض الملاحظات ، لكنها لا تقلل من أهمية العمل إن نظرنا إليه نظرة إجمالية .
النصّ مكوّن من شبكة متفرعة من النوافذ تتفرّع إلى جملة نوافذ من خلال الانتقال بالضغط على مفاتيح النقل داخل الشبكة الإلكترونية ، استثمر الشاعر فيها جماليات النصّ التفاعلي المتنوعة صوتياً وصورياً وكتابياً .
فكل نافذة متفرعة - مترابطة تكون مكوّنة من ثلاثية الصياغة الرقمية :
- جرافيك .
- ومؤثر صوتي .
- وشيفرة كتابية .
يضم النص ست قصائد رقمية تتفرع من زرّين رئيسين في الواجهة الرئيسة ، وجمع الشاعر فيها بين الأشكال الشعرية المختلفة :
- العمودي .
- التفعيلي .
- النثري .
وقد امتازت نصوصه بمجازية عالية تتأسس على انزياحات يستجيب إليها أفق توقعات المتلقي العربي ، فكأنه أراد أن يعيّش المتلقي المعتاد على تلقي النصوص الورقية بجو متوافق مع الجو الواقعي خارج الشبكة بشكل سهل ممتنع ، ليسحبه شيئاً فشيئا نحو العالم الافتراضي داخل الشاشة الزرقاء .
فاستثمار الأشكال المألوفة في المنتج الواقعي يسهل أمر الاستجابة للنص الرقمي ، إذ لا يشكل صدمة مباغتة تنفّر المتقي منها .
فالعمودي والتفعيلي والنثري ، قوالب واقعية لا تصدم بشكلها المتلقي ، لكن المضمون هو الأهم في صياغات المتألق الرقمي شعريا مشتاق عباس معن .
والمفارقة الجميلة جدا في هذا القرص أن الشاعر استطاع أن يوحّد بين الأشكال في عالم جديد ؛ إشارة إلى أن الشكل ليس ضروريا في الإبداع ، بقدر المضمون والرؤيا التي يؤسس لها النص .
فجاور العمودي النثري ، وجاور النثر التفعيلي ، وكذا الحال بالتفعيلي والعمودي فهما متجاوران أيضاً .
رؤية للآخرين :
ليستذكر القارئ معاناتنا نحن المجتمعين في ورشة الإبداع بالشارقة فعدتنا تجاوزت العشرين وليس لدينا نص عربي لنجعله حلقة تحليلنا غير رواية سناجلة ، وإلا سنضطر لتحليل نماذج غربية ، واليوم يخرج علينا نص جديد للشاعر المبدع مشتاق عباس معن لنحصل على مساحة تحليلية أوسع ... نتمنى من المثقفين أن تكون ردة فعلهم بمستوى الإنجاز الذي حققه هذا الشاعر الذي طال انتظاره ... فجاء بالمنتظر بعد حين وإن طال الانتظار .