جريس دبيات يصلّي حتى ((تظلين أحلى))

2011-08-09

ح//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/3f64f973-10dd-4018-bd49-f399b9ba426b.jpeg ين وصلني ديوان "تظلين أحلى" للشاعر جريس دبيات لم يثر رغبتي بتصفحه، فالاسم لم "يرن" في أذني، ولا أتذكر أني قرأت له شيئاً قبل ذلك. وقلت لنفسي: ديوان آخر.... وأنا، رغم أني كتبت عن دواوين شعرية عدة، إلا أن موقفي هو أن زمن الشعر قد ولى، وأننا في زمن النثر، وكما قلت في "مداعبات" أخرى، كتابتي أساساً تنطلق من ذوقي الشخصي، وأحياناً بهدف كسر الطابو الثقيل "الرابخ" كالدجاجة على "بيضات" أدبنا، غير ان دجاجتنا للأسف عاقر، وهي حتى ليست بديك كما يظن البعض، وربما يكون "الطابو" الذي يمارس بلا تفويض، على أدبنا وحياتنا الثقافية، هو المقدمة للكثير من الغث في الإنتاج، الذي يسمى "أدبي" بالعافية، وخاصة في الإنتاج الشعري الذي يسهل جداً، في عصر سيطرة الفوضى على الشعر، إنتاج كتابة تشبه الشعر شكلاً، أو تنتسب للشعر عنوة، وتفتقد لأي حس شعري، وغني عن القول أنها أحياناً تفتقد للإنشاء البسيط.
أشعر أحياناً بالمبالغة في مواقفي، ولكني أجد دائماً الأسباب التي تجعلني أواصل هذه المبالغة، فكثيراً ما يتحول الناقد إلى هارب مطلوب للعدالة، لذا أثرت أن لا أتناول إلا ما يثير إعجابي، وأجدها مناسبة لأقول، أننا بحاجة ماسة لإعادة بناء "أسوار برلين" الأدبية.
حين حان الوقت لأتصفح ديوان جريس دبيات، "تظلين أحلى" كنت بحالة فتور تراودني مع كل عمل شعري جديد يقع بين يدي. غير أن الغلاف الأخير للديوان أيقظني من فتوري، فقرأت وأعدت القراءة مرات، مطروباً:
أريدك حباً وسراً وعيداً
يضم القريب ويدفي البعيد!
وأدعو إلى العرس أهلي الذين
أعدوا لعرسي شوق السنين
وتأتين ماء وتأتين ظلاً
وأهزوجة كم رواها الحنين
هذا ليس شعراً فقط، أنه رئة الشعر. رئة نقية من ترسبات الدخان والغبار، رئة فتية مليئة بالهواء المشبع بالأوكسجين، فأيقظني من قيلولتي الشعرية نشيطاً متيقظاً محتاراً لماذا لا أذكر هذا الاسم ؟ ربما يكون الذنب ذنبي، القراءة بحالة قيلولة بسبب الملل من بعض الغث الذي ينشر، فيضيع الجيد بمتاهات النشر، ويذهب الصالح بالطالح.
صحافتنا عودتنا في مجالات معينة، ومنها الشعر، أن نقرأ بعين نصف مغمضة، ومع ذلك ألاحظ في الفترة الأخيرة،بعض الأسماء الجيدة، وأملي بيقظة ثقافية. ولكن يبدو أن المشكلة أكبر من الأمنيات.
كنت مقتنعاً حتى اليوم، بأن التطور في شعرنا، هو تطور في الأسماء، ولكن مجموعة دواوين أخيرة قرأتها، بدأت تحول رؤيتي، ومن هنا لا أشير في كتابتي إلى ما لا يعجبني، بل أكتفي بإعطاء كتف لما أظنه على الصراط الشعري المستقيم. حتى لا يبقى الظن اني احمل السلم بالعرض.
قد أكون أطلت في مداخلتي، وضمنتها خواطر منوعة قد لا تعني البعض، ولكني ما كنت لأكتب هذه المداخلة لو لم تشدني الرئة الشعرية النقية التي تتنفس منها قصائد جريس دبيات وتملأ صدرنا بالهواء النظيف.
حقاً أن ديواناً جيدا يستطيع أن يضع صاحبه في مصاف الشعراء، ومئات القصائد وعشرات الدواوين ستبقى كتابة وهمية، لا شعر فيها إلا الشكل ولا شاعر وراءها إلا التسمية.
أنا لا أكشف هنا أمراً جديداً، وأعلم أن الكثيرين سيتمترسون وراء ذمي، أو وراء محدودية فهمي.
بروفيسور جورج قنازع، كتب مقدمة حماسية حارة للديوان، وفي الواقع جريس دبيات يستحقها بجدارة، فهذا هو ديوانه الثاني كما ألمح بروفيسور قنازع بعد ديوانه الأول "مع إطلالة الفجر". وكإطلالة الفجر أيضاً تنطلق صلوات جريس لربة الشعر أو ربة الحب، وهما في نظري سيان، حتى "تظلين أحلى" أو "تصيرين أحلى" مع الديوان القادم وبعد استعمال القطران الذي لا بد منه..
قصائد الديوان تمتد بين ما أتفق على تسميته شعراً وطنياً، وبين الغزل والوجدانيات.
يفتتح جريس ديوانه بقصيدة "حنظله" بتساؤل مرير:
"ما الذي ترجو بروج العاج من طفل
يسمى حنظله؟".
وبعد أن يرثي لحاله هذا الطفل الفلسطيني الهوية، حتى بعد أجيال كثيرة في المنفى.. هذا الطفل الذي صار رمزا للنضال الوطني الفلسطيني، مأساته تشبه بأوجه كثيرة منها مأساة سيزيف الإغريقية الذي حكمت عليه الإلهة أن يرفع صخرة كبير لقمة الجبل وأن تسقط منه بعد أن يكاد يبلغ قمة الجبل، ليعود يرفعها من جديد إلى ما لا نهاية. ولكن حنظله يصر على أن يكسر حكم الإلهة:
"كل من ولغوا في دمنا المسفوح
صاروا أبرياء
كل من باعوا بفلسطين ثرانا
أصبحوا الآن علينا أوصياء".
ويخاطب "الإلهة" بغضب:
"خاطئ من ظنكم..
أحفاد أبطال الفتوح"
وحنظله الولد الفلسطيني، الفائر بصلابة الرجولة قبل أوانه، لا ينثني:
"قد ولدنا يوم أن عزت
على الأرض الولادة.
وقضينا بعد أن عزت
على العرب ميادين الشهادة
ورفعنا صوتنا الرنان في لج الصمود
وبقيتم تنشدون الشعر للأسماك
عن لحم اليهود"
والفلسطيني الذي يكسر حكم الالهة ويوصل صخرته لقمة الجبل، ليدحرجها بإرادته في الجهة والوقت المناسبين يقول:
"أحفظوا الصوت فقد نامت على أحلامها
أم الشهيد
ودعت أولادها
شيعت أكبادها
ثم عادت - بعد طول العمر- تشتاق لمولود جديد"
هكذا هو الفلسطيني المعاصر: يتجدد من الموت، والنتيجة التي يصل إليها جريس:
"فدعوا الأمر ليعني حنظله
فهو أدرى منكم بالمسألة
وهو أوعى بمساحات الدهاء المقبلة
واستريحوا وأريحوا
نحن ولينا علينا حنظله"
وهذه الخاتمة ذكرتني بصرخة إبراهيم طوقان لملوك العرب، أن يستريحوا حتى لا تضيع بقية الأرض. والفرق هنا أننا لا ننتظرهم ليستريحوا أو يريحوا، بل نتولى أمرنا ونريحهم عنوة!؟
في القصيدة الثانية ينتقل جريس من الغضب الحنظلي، من الثورة الحنظلية، من المخيم، وثورة الحجارة، إلى صلاة حالمة لحبيبته، فيقف أمامنا بلا رتوش، عاشقاً ولهاناً، حالماً كما يحلم كل عاشق (قصيدة "تظلين أحلى") وربما يكون فعل جيدا بهذه النقلة من الغضب الحنظلي إلى الصلاة الحالمة، إلى الحب الذي لا حياة للإنسان بدونه. وقد يكون حنظلة، تلك الشخصية الفذة للولد الفلسطيني بوقفته المفكرة شابكا يديه وراء ظهره، التي استطاع فناننا الفلسطيني الراحل ناجي العلي أن يحولها الى رمز وسلاح معنوي رهيب، استحق عليه الاعدام بلا محاكمة، هو جوهر للفلسطيني في كل مكان.
وبكلمات أخرى يستطيع الفلسطيني أن يؤرخ مسيرته الحياتية بما قبل حنظلة. وبما بعد حنظلة، وأظن أن جريس دبيات هو من أوائل من لمسوا، شعريا، هذه الخاصة، أن ديوان "تظلين أحلى" يتميز بقصائده الغزلية والوجدانية بالأساس، وحتى قصائد الديوان الوطنية هي أقرب للغة الغزل، ولكنه الغزل الفلسطيني ما بعد حنظلة. في قصيدته "أضحك عندما يبكي الجليل؟".
لعينك أن تؤرقها الطلول
فلا خل يراك ولا عذول"
وافتتاحية هذه القصيدة مستوحاة من شعرنا الجاهلي، حيث تبدأ كل القصائد بالبكاء على أطلال الحبيبة.
وحقاً هذا هو حال جليلنا والكثير من قرانا وملاعب صبانا. ويواصل:
"ولكن دعك من جفرا ودعها
يغازلها سواك ويستميل
تموت بحبها والعشق جرم
عواقبه التفرق والرحيل
وغيرك ينام على جناحها
ويغتصب الجمال ويستطيل".
جفرا هي الأم الشرعية، وربما ما كنا نفوز بحنظلتنا لو لم تكن لنا جفرا.:
"علينا أن نعد ليوم جفرا
اذا لم تتبع الوعد الحلول
فلا نفس تقتصر ان دعتنا
لنصرتها، ولا جهد يعيل
ولا صمت على ما ضاع منا
ولا بيع يجوز ولا بديل"
ويختتم قصيدته بروح حنظلية:
"دعانا البيت، فلنذهب اليه
نزيل الضيم عنه أو نزول"
في الواقع فضلت القفز عن ستظلين أحلى" لشعوري ان اخراج أي مقطع منها للدلالة على جو القصيدة، لا يكفي، ان جريس يحبك قصيدته مبتعدا عن "الشبط واللبط" ملتزماً بعذوبة تدفق المعاني غير المصطنع وسهولتها الظاهرة، وانا بما أني "دقة قديمة" لا أستطيع إتمام قراءة قصيدة "ثقيلة" الوزن تشعر مع قراءتها ان كلماتها اغتصبت عنوة من قواميس اللغة العربية، بلا تدبير ولا تأويل. معانيها ترفل بثياب مستأجرة، شديدة الاتساع، حتى لو بدلت كلمة أو شطرة بشطرة، أو مقطعا بمقطع، أو قرأتها عكسية، لن تشعر ولن تفهم ما الفرق لأنه لم يتغير شيء ،على الأقل، في المعنى غير الموجود، وذلك رغم جهود "الماشطات" في بعض صحفنا، الذين لا أحسدهم على صنعتهم!!
مع التقدم بقراءة ديوان جريس دبيات، ازداد إحساسي بجمالية لغتنا وقدراتها التعبيرية إذا أحسن استعمالها، والأحرى أن نقول أذا أحببناها. هذه الملاحظة قد تدفع البعض إلى معايرتي بأني أقع بأخطاء لغوية، خاصة بالقواعد، وأقول أنني أعترف بالجرم، ولكني لا أقع بأخطاء بالحس اللغوي ولا بأخطاء الضمير ولا بأخطاء الأخلاق... وقال لي البعض أن عدم معرفتي بقواعد اللغة والإعراب لا يؤهلني للكتابة الأدبية وخاصة كتابة النقد، مع أني لست قلقا من تسمية كتابتي نقدا او نصوصا ثقافية او مراجعات ثقافية.هل سيتغير المضمون؟! ولكني انتظر من الثرثارين، ان يكتبوا نقدا او ما يستحق تسمية الأدب، بدل النق!!
جريس دبيات زادني قناعة بصحة موقفي، فهو رغم مقدرته اللغوية وتبحره بالتراث وعالم اللغة العربية،التي أغناها بدراسته الأكاديمية، إلا أن القارئ يشعر أنه لا يقرأ قصائد لغوية نحوية إنما روحاً تنطلق بخفة وسهولة لتعبئ الفراغ بدفء الكلمة وعمقها، وبتدفق الأحاسيس الصادقة غير المفتعلة، بلا تمثيل، وبلا ادعاء. حقاً نحن أمام انتاج مميز يستحق أن يسمى شعراً.
"أترى يحلوا الرجوع؟
بعد أن فر الربيع
أم ترى يا نسر تبقى
والمشاوير دموع،
تعلك الحلم القديما
تلعق الجراح الأليما
والحكايات تيع؟"
من قصيدة "ما زال النسر يبحث عن عشه"
وسؤالي هنا لجريس: هل هذه القصيدة هي جواب لقصيدة "سنرجع يوما إلى حينا"؟
"سنرجع يوما إلى حينها" فيها إصرار على الرجوع، فلماذا نتساءل " أترى يحلو الرجوع؟" نحن نتقدم إلى الأمام ولا نتقدم إلى الخلف، أم هو الوزن فرض هذا النص؟
قاتل الله الأوزان!!
قصائد جريس تتميز أيضاً بالخفة شكلياً وبالليونة، مما قد يوهم البعض انها صياغة سهلة وبسيطة. حتى قصائده كلاسيكية الشكل تتميز بالبساطة، ولكن بالعمق.
في قصيدة "أخاف على الجفن" يقول:
"الى جفنك الغض من مضجعي
حريق يؤول الى أضلعي
فأطفي اللهيب، فمن وهجة
أخاف على الجفن يصلي معي"
وهذا يذكرني بأغنية عبد الوهاب "جفنه علم الغزل" ويقول:
تريدينني كل يوم أموت
وفوق حطامي أن تركعي؟
انه الحب يا جريس. ولكن إياك أن تفعلها وتحرمها،وتحرمنا معها من شعرك، وأرجو أن تكتفي بما تقوله في نهاية قصيدتك:
تجيزين قتلي فهيا ابعثي
سهام العيون إلى موجعي
فداء لجفنك قلب هفا
ولكن أميتي ولا ترجعي"
هذا نقبله لأنه بدونه لا إبداع أدبي، وبالتالي لا مشاكس مثلي يكسب من المهاجمين أكثر مما يكسب من المؤيدين.
إن صوت جريس الشعري يشدني لأسترسل، فكل قصيدة لها نكهتها الخاصة. وانا لم استعرض أفضل ما لديه، ففي قصيدة "شفتاك"... يعترف بلا مقدمات:
من ثغرك لملت كلامي
ورشفت رحيق الإلهام
أدام الله ثغرها، ويعجبني تماماً أن يقف المبدع معترفا حتى بدون كاهن، فالديوان أو الرواية أو أي عمل أدبي هو كرسي للاعتراف "بالجنح" والنوايا...
"ضمي شفتيك على شفتي
ظمأى تستقي من ظامي
وأعيدي آهاتي الحرى
موسيقى تروي أيامي"
زدنا من هذا يا جريس ولا تبخل علينا.
أما قصيدتك الأخيرة يا جريس "جدة أنت؟" فقد وقعت في نفسي موقعاً خاصاً، حركتني من الأعماق. شعرت أنها تخاطبني مع اختلاف الحال، فأنا حتى اليوم لم أستوعب كوني جدا، ولكن ما العمل أمام حقائق الحياة، والتي بدونها لا قيمة لحياتنا ولنضالنا ولحنظلتنا ولكل ما نحلم به.
• جريس دبيات - شاعر فلسطيني من قانا الجليل - كفركنا( قرب الناصرة) استاذ سابق للغة العربية ، شاعر مقل في انتاجه، لم ينتبه اليه نقدنا المحلي للأسف الشديد. وهذا ما الزمني بالكتابة عن دواوينه الشعرية.. واعطائه حقه ومكانته الشعرية، وتعريف القارئ العربي على ابداعه.
nabiloudeh@gmail.com

 

نبيل عودة

 
- ولد في مدينة الناصرة (فلسطين 48) عام 1947.
درس الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو .
كتب ونشر القصص القصيرة منذ عام 1962.
عمل نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الأهالي 
شارك سالم جبران باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين أول 2010
استلم رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية .
يحرر الآن صحيفة يومية "عرب بوست".
من منشوراته : 1- نهاية الزمن العاقر (قصص عن انتفاضة الحجارة) 1988 2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ( بانوراما قصصية فلسطينية ) 1990 3-حازم يعود هذا المساء - حكاية سيزيف الفلسطيني (رواية) 1994 4 – المستحيل ( رواية ) 1995 5- الملح الفاسد ( مسرحية )2001 6 – بين نقد الفكر وفكر النقد ( نقد ادبي وفكري ) 2001 7 – امرأة بالطرف الآخر ( رواية ) 2001 8- الانطلاقة ( نقد ادبي ومراجعات ثقافية )2002 9 – الشيطان الذي في نفسي ( يشمل ثلاث مجموعات قصصية ) 2002 10- نبيل عودة يروي قصص الديوك (دار انهار) كتاب الكتروني في الانترنت 11- انتفاضة – مجموعة قصص – (اتحاد كتاب الانترنت المغاربية)  

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved