يرى الآخرون
جوهر الكتابة
هناك في النهاية مقطع أخير أريد أن أنقله كاملا لطرافته وأهمية ما يرشح به من دلالات خطيرة تمس جوهر عملية الكتابة. تقول الكاتبة متذكرة سنوات الدراسة إنها لم تفلح أبدا في وصف يوم ممطر. كان الأمر يبدأ هكذا على الدوام: "خرجت في الصباح، كانت السماء ملبدة بالغيوم والمطر ينهمر غزيرا، وكانت الشوارع تغطيها الأوحال. رأيت الناس يحملون المظلات ويمضون مسرعين".
لقد قلت كل ما أستطيع قوله، ولكن لا بد من كتابة صفحتين أو ثلاث. وتبدو لي إضافة أي جملة أخرى أمرا مستحيلا. ثم أن ما كتبته برمته لم يكن سوى محض خيال، فأنا لا أذكر أنني رأيت ناسا يحملون مظلات... وصورة الأوحال أيضا لم تكن رغم أنها جديرة بالتصديق سوى كذبة، فشارعنا الضيق قد رصف بالاسفلت منذ زمن بعيد... أما شوراع المدينة فقد كانت تبدو بعد المطر أكثر نظافة...".
كل ما كانت هذه الصبية تسعى إليه من خلال هذا التمرين الفاشل هو أن تكتب مثلما يكتب آلاف من كتابنا وشعرائنا! أي أن ترسم حالة خيالية مستنسخة من صورة ذهنية لا علاقة لها بالحياة، ظنا منها (وظنا منهم أيضا) بأن الكتابة لا يمكن أن تتحقق إلا داخل نمطية محددة. وباستعادة صور وحالات نموذجية، ومعايير ذهنية متداولة - أو مترسبة - إن هي خلت منها خرجت عن أعراف الكتابة.
المهم، أن تلك الطفلة لم تكن قادرة على المضي في كذبتها أبعد مما توصلت إليه في هاتين الجملتين، بينما ينجح الكثيرون في ملء العديد من المجلدات التي تضج بحمحمة خيول وقرقعة سيوف، ووقع حوافر في فياف وأحراش وأدغال لم تعد موجودة إلا في ذاكرة الكتاب والشعراء.
ومن لم يكتب هكذا ولو مرة واحدة، فليرم تلك الصبية بحجر.
*
فصول مكثفة لم يكن يعنيها كثيرا الإفاضة في السرد والاستطرادات. كل فصل، وكل جملة تعي ما تريد الوصول إليه، فتذهب إليه مباشرة ولا تتأخر عنده أكثر من اللزوم. تنتقل الكاتبة من فصل إلى آخر بين الحقول، والجبل والطرقات والبيوت والأشياء مثلما كانت تنط بينها بخفة وهي طفلة، أو مثلما يعود المرء لزيارة أماكن طفولته، لا ليقيم هناك، بل ليرصد لحظات ناتئة من ذاكرة طفولته، يشحذ وهجها من جديد ثم يمر.
كتابة بالحنين، لكنه ليس ذلك الحنين الباكي المتفجع الذي يجعل من الحياة ركاما وخرائب مهجورة، ومن الكتابة مناحة قاتمة. إنه حنين يعمر القفر ويغرس الزهور حتى في البساتين المهجورة ليعيد إليها بهاءها.
حنين دافئ مرح يجعل الحياة غبطة متواصلة قابلة للتجدد على الدوام، ويجعلنا نؤمن بأن الغد سيكون مشرقا بالتأكيد.
هذه الكتابة المرحة التي تبدو بهيئة لهو طفولي مبتهج بذاته كلهو لا غير، إنما هي بالنهاية كتابة حازمة، جادة بمرح، تعي ما تريد. إنها تنقض عالما وتؤسس عالما آخر، عالم الزهور والغبطة، "صباح الوجود" يقول الشابي الذي ينهض نافضا يديه من عالم الجدية المفتعلة الجافة، القاتمة، ذلك الذي تهيجت به إلى حين جوقة الايديولوجيات والزعيق الأخرس لأبواق الالتزام الذي التزم بكل شيء ما عدا الحياة والكتابة.
هذه الكتابة تعيد الاعتبار إلى الحلم وتؤسس فلسفة البهجة ضد فلسفة التجهم والاكفهرار.
مجلة المدى العدد 17 سنة 1997