جياكوميتي، اسطورة القرن العشرين

2012-04-02

خلال سنين حياة جياكوميتي، حتى رحيله//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/b1c2d254-d56d-4235-bb96-eb111dec2969.jpeg عام 1966 كنا نستطيع ان نلتقيه في الشوارع الباريسية، تميزه قامتُهٌ الطويلة النحيلة، ورأسُهُ المنحني، لقد عاش مقاهي وبارات مونتبانما، على الاخص ليلاً، وفي كل مكان، واينما ذهب، كان يرسم على اغطية الطاولات الورقية، حيث يتركها ليلق بها عمال المقاهي والبارات في سلة المهملات، جاهلين ان ما يودعونه سلة المهملات انما هو انتاج فنان من القلة المتميزين بالعمل وفلسفة الحياة .
لقد عانى جياكوميتي في بداية حياته من اهمالٍ مأساوي لا يوصف، قبل ان يُعرف وتشاع شهرتَه، حيث اعتبر من اكبر اساطير القرن العشرين ، ولا يقل عن الفنان بيكاسو .
عرف جياكوميتي، وعلى الاخص بأشكالِهِ البرونزية المتطاولة، وشخصياتِهِ الملتوية، وبروفيلاتِهِ النحيلة الهزيلة، وانجز ايضاً العديد من اعمال البورتريت وعلى الاخص في المرحلة الاخيرة من حياته .

* * * *

لقد عرفناه فناناً من بين الندرة من الفنانين الحديثين الذي عُرِفَ بالتجديد بفن البورتريت، في عصرٍ عانى فيه فن البورتريت من اهمال كبير من قبل الجميع، وبالإضافة الى اعمال البرونز، فله العديد من التخطيطات والرسوم بالفحم، وكذلك اللوحات .

ولد//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/be4ba2ac-4e77-4809-91d1-ac0c1aa94c27.jpeg البيرتو جياكوميتي في العاشر من اكتوبر للعام 19001 في مدينة ستامبا السويسرية، وكان ابناً لرسام، وفي وقتٍ مبكرٍ اكتشف نداءاً باطنياً يدعوه للفن، وفي عامِهِ الواحد والعشرين ، بين الحربين العالميتين، استقر به المقام في باريس، العاصمة الفرنسية التي كانت تغلي بالافكار والموجات الجديدة، بيكاسو، سترافنسكي، بيكت، جويس، كل العباقرة كان لهم موعد في باريس، واستطاع جياكومتي ان يلفت  حينئذ انتباه السورياليين نحوه، وكان السورياليون مجموعة من الفنانين الثوريين المجتمعين حول الشاعر اندريه بريتون، .
كانت السريالية تعتمد في جزء كبير منها على العقل الباطن، وكانت تماثيل جياكوميتي تخون مشاعره امام الحب والحياة الزوجية، كانت له اعمال تجريدية تناولت غالباً مواضيع المراة او كلا الجنسين، لكن باختصار كان يجتاز اعماله نوعاً من الصمت حيث نجد في اكثر الاحيان ان المرأة في اعماله تصغر وتأخذ مواقع شهوانية، وبتعبير اكثر بساطة ان المرأة كما يطرحها في اعماله، لا تتعدى ان تكون جسد، بل اكثر من ذلك انها في اعماله تنزل الى ابسط تعبيراتها الجسدية .

* * * *

في بداية الثلاثينيات ذاعت شهرة جياكوميتي، لكنه مع هذا لم يكن مقتنعاً بأعمالِهِ، حيث قرر ان يلجأ الى النموذج الحي ( الموديل ) في اعماله النحتية، لكن بين صفوف السرياليين كان الموديل يعني الاستهجان ، لذا كان اتجاه جياكوميتي هذا محكوم عليه بالرفض والجفاء، وبين يوم وليلة اصبح منبوذاً في باريس التي كانت تعبدَهُ، ولقد ادار الكثير من المقربين له ضهورَهم وجفوه، في هذه المرحلة بدأ عبوره الحقيقي في صحراء قاحلة، حيث لم يكن خلالها يُسمعْ عنه ابداً، لكنه مع هذا قرر أن يمضي في ترجمة ما تراه عيناه، وبقي عشرين عاماً مستبسلاً في هذا الاتجاه، غير أن مشروعَهُ لم يكن غير اخفاق يدعو للرثاء، في هذه المرحلة اللانهائية من الشك المتواصل كانت منحوتاته لم تتوقف عن ان تصغر، الى حد ان بعضها لم يكن يتعدى البوص//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/39ff5c28-2dd9-4a07-a6e0-fe2d28e2751d.jpeg ة او البوصتين .

بعد تلك الفترة يشرح جياكوميتي اهمية الاخفاق بالنسبة له مترجماً ذلك بقوله ان الانسان يكتمل بالاخفاق وليس بالنجاح . وجياكوميتي اكتمل بطريقةٍ فائقة العظمة، وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، حين انبثق لديه طراز النضج في شخصيات عمله النحتي، وهذا يُتَرْجَمْ في حصادٍ من الرؤوس، الايدي، السيقان، الانوف، وجمهرة من الشخصيات الهزيلة الجسم، قدمها من اعلى هامة الرأس حتى اخمص القدمين، وفي كثير من الاحيان وهم سائرون، وبهذه الاجسام المتطاولة المعبرة عن الحالة الانسانية كان يريد ان يعبر عمّا يحسُهُ وما يراه، لكنه أبداً لم يتوصل الى ما يريد، من بين الاشخاص الذين جعلهم نماذج لاعمالِهِ كان اخوه دييكو، الذي ظل المرافق المخلص، قرينه وضله والذي بقيت اقامتُهُ في باريس،  الى ما بعد الخامسة والتسعين، كا//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/20f492d7-d7d4-4d0a-bc04-8e923763764e.jpeg ن ساعده الايمن، هو الذي يصهر له مادة البرونز وهو الذي يضع البتينة على منحوتاته البرونزية، وهو الذي ينظّم معارضَه، كان خلال تلك السنين يرافقُهُ لدرجة نسيان مصيره الفني الشخصي هو الذي كان ينحت الموائد والمصابيح والكثير من الحيوانات، تلك الاعمال التي اصبحت فيما بعد ذات شهرة وصيت .
اما الملهم الآخر لأعمال جياكوميتي فهو زوجتُه آنيت التي كانت موضوع للعديد من دراساتِهِ للتمثال النصفي واللوحات .
لقد كانت علاقة جياكوميتي مع المرأة علاقة بالغة التعقيد، والمرأة الوحيدة التي كان يكن لها شديد الحب هي امه، لقد بقي فترة طويلة من حياته مضرباً عن الزواج قبل ان يتزوج من آنيت، كان يلذُّ له مصاحبة العاهرات وكانت شهرته تجتذب الكثير من المعجبات من بينهن الممثلة الفرنسية المشهورة مارلين دتريش، التي رغبت التعرف عليه بعد ان رأت عملَهُ الذي يمثل كلب، لكن علاقتها به لم تتطور وتذهب بعيداً لانه كان في نفس الوقت على علاقة بشابة غامضة اسمها كارولين، تبلغ الثلاثين من عمرها، والتي كثيراً ما ظهرت في اعماله البرونزية ولوحاته، و وجود هذه العشيقة لم يعطِِ كذلك الفرصة  لتطوير علاقته مع زوجتِهِ، وكانت الاثنتان تمقتان بعضهما اشد المقت وعندما توفي جياكومتي لم يترك اي شئ لهن في وصيته .

 

* * * *

كان البيرتو جياكوميتي على حذر من افرازات الشهرة وتأثيراتها السلبية، لذا فانه لم ينعم بمادياتها، فحين كان بيكاسو يعيش عيشتَه المميزة في الكوت دازور ، وبراك، ويقود سيارته الروز رايز، وصديقه بالثوس يسكن قصراً فخماً، كان جياكوميتي رافضاً لكل وسائل الراحة البرجوازية .. انه وحتى قبل شهور من وفاته كان يسكن مشغلَهُ المتواضع، في شارعٍ مظلمٍ رطب، يتدفأ على موقدٍ قديم، ومرافقه الصحية في باحة خارجية، انه لم يقدم لن//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/0fb20334-dd27-4274-826a-e5bdef054f57.jpeg فسه يوماً شيئاً من الحياة الناعمة التي تستطيع ان توفرها له شهرته وماله ..
لم يعرف السفر ولم يمتلك سيارة طوال حياته، كان يتنقل على دراجته القديمة، انه يؤمن بان عيشه البسيط يجعله مالكاً للحرية الروحية، لقد كان دائم البحث عن النقاء الروحي الذي يلهمه الابداع، وكان يكرر دائماً : انه موجود في الحياة ليفعل ما فعل، في كل يوم من حياته، بكل الاحوال وكل الظروف لم يفارقه الالهام يوماً، وكانت لديه طاقة للعمل داخل مشغله كل يوم، دون توقف، وقلة من الفنانين من يمتلك مثابرة جياكوميتي ودأبه رغم الصعوبات .

* * * *  

لقد بقي جياكوميتي على تواضعه وبساطة عيشه رغم رفعة المكانة، ورغم العبقرية التي حظى بها، وبقي على شفافية وحب لكل ما هو نابض بالحياة ، وكان يلخص احاسيسَه وحبه هذا بقوله : انني لو رأيت بيتاً تلتهمُهُ النيران، فانني ساقتحم نيرانَهُ لأنقذ قطة قد تتعرض للحريق بدل ان انقذ لوحة للفنان رامبرنت، انه بذلك يعبر عن ما يكنه من احترام عميق للحياة وعدم اهتمامه بمادياتها، وهذا ما يبرر حب الناس العميق لأعمالَه لأن الإبداع الذي تكلله فلسفة كهذه لا بد أن يهب المتعة والتفاعل .

عالية كريم

رئيسة تحرير "معكم"

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved