لماذا أنت فقيرٌ يا أبي ؟ لا يمكنك أن تشتري لي الألعاب التي أحبها ؟ !
كان ذلك الصبي الهادئ ياسين جالساً قرب أبيه يتساءل بينه وبين نفسه، ويسرح في خياله، أغمض عينيه، وتخيل أنه صنع دراجة خشبية، ركبها، وجال بها في الأزقة الفقيرة، فأسرت كل من رآها .
فكرة صناعة دراجة أخذت من تفكيره مساحات كبيرة، لكنه لم يتمكن من صنعها، وبرع عوضاً عن ذلك في صناعة الطائرات الورقية ذات الذيول الملونة، التي كانت تعلو السماء بهدوء وانسيابية متزنة، وصارت طائراته منافسة جيدة لمهتمين آخرين بصناعة الطائرات رغم فارق السن .
لطائراته مشكلة وحيدة، فهي بعد أن تعلو كثيراً في السماء ينقطع خيطها، وتأخذها الرياح بعيداً، لم تكن المشكلة في هيكل الطائرة المصنوع من عيدان القصب المرن، ولا في ورق الجرائد المستخدم، بل كانت رداءة الخيط الذي يشدها به .
الجميل أن طائراته لاقت شعبية بين الأولاد، وفتحت له باباً للمقايضة بألعاب أخرى كان يحلم بها حتى جمع ألعاباً كثيرة، وحتى لا تخلق تلك الطائرات مشاكل بين مقتنيها لتشابهها الكبير، صار يكتب اسماء الأولاد بخط أجمل من خطوط أقرانه، ويلونه بطبشورات ملونة يجمعها من المدرسة، ولكي يثبت اللون على الورق كان يغمس الطبشور بزيت الطهي، بهذه الطريقة صار يترجم فكرة الألوان الزيتية .
هذه الألوان التي استخدمها على دفتر الرسم المدرسي فأصبح زيتياً هو الآخر، ولكن رغم فقر الألوان المستخدمة، كانت رسوماته منافساً مميزاً وقوياً لزملائه الطلاب في الصف .
حبه الكبير للدراجة الهوائية لم ينته، صار يجمع كل ما يحصل عليه من بيع الطائرات الورقية، ويذهب به إلى الحاج رشيد، صاحب محل كراء الدراجات، هذا الرجل كان كوميدياً في تعامله قبل الكراء، وصارماً جداً بعده، يتناقل عنه الأولاد قصصاً كثيرة مخيفة تنسب إليه، ويساعدهم على تصديق تلك الحكايات شكله الضخم، بأنفه الكبير، وصوته الجهوري، ورأسه الكبير الأصلع الذي تركت الشمس عليه تحسساً يشبه الحروق، له شعر كثيف ملأ وجهه الأسمر المائل للبني، قصص كثيرة يتداولها الأولاد، الكثير منها يقصها الحاج رشيد بنفسه للأولاد المجتمعين حوله بانتظار عودة الدراجات المستأجرة .
تلك الحكايات كانت بمثابة إنذار لكل من يتأخر عن موعد إرجاع الدراجة، حيث كان الأولاد ينسون الوقت، أو يتناسونه عند اللعب بهذه الدراجات القديمة التي تمشي فقط بقدرة الحاج رشيد خبيرعمليات الترقيع، فالدراجة الواحدة لا تنتمي لشركة مصنعة واحدة، إذ استطاع أن يؤلف من بقايا أجزاء الدراجات العاطلة دراجات أخرى تنتمي لكل الشركات .
ينتظر العقاب كل من يتأخر عن إرجاع الدراجة، عقوبة المرة الأولى هي عضة في الأذن، ينفذها الحاج رشيد بلا رحمه بأسنانه الهمجية، وأكاد أجزم أنه ترك أثراً بأسنانه على آذان جميع الأولاد الذين تعاملوا معه، كان أحياناً يكتفي بالعض، وأخرى يتبعها بحرمان بلا أجل .
لا أماكن للترفيه في هذه المدينة الفقيرة، المكتظة بالناس والأطفال من جميع الأعمار .
اختلق الأولاد دون أي اتفاق مسبق مواسم لألعابهم، فمرة تجدهم يهتمون بكرة القدم، ومرة لعبة جر الحبل، وألعاب أخرى كثيرة، حتى جاء موسم الطائرات الورقية وانتعش سوق ياسين من جديد، سريعاً جاءته رغبة لكراء دراجة، والاستمتاع باللعب بها، لا يوجد غير الحاج رشيد للحصول عليها، لذلك ذهب إليه، وانتظر دوره، أوقعه حظه السيء بأسوأ دراجة لدى الحاج رشيد، ركبها وخرج وهي تحدث أصواتاً غريبة من كل مكان، وتمشي بصعوبة بالغة، بينما تنتفخ عجلاتها بكدمات جعلتها تقفز كلما دارت ولامست تلك النتوءآت الأرض .
كان ياسين يبذل جهداً كبيراً حتى يتقدم، ويمر وقته الذي سمح له به الحاج رشيد مروراً سريعاً، بدأ يلهث، ولسانه لا يدخل فمه من شدة التعب، والحر، والعطش .
تعذب بها كثيراً، وفوق ذلك كانت تنتظره عقوبة العض لا محالة بعد أن تأخر عن موعد إعادتها، يا لحظه السيء، ماذا عساه يفعل ؟ وهو لم يستمتع بعد، عليه أن يفعل شيئاً، حسناً.... ماذا لو ذهب بالدراجة إلى البيت ؟
الحاج رشيد لا يعرف اسمه، ولا عنوانه، وهو كذلك على الأغلب لا يتذكر كل دراجة، ومن الذي استأجرها..
أقنع نفسه بالفكرة، وقرر عدم إرجاع الدراجة، والذهاب بها إلى البيت، لتدخل هذه القصة موسوعة قصص رشيد بطريقة أخرى مغايرة، تغلب بها الولد عليه فيها هذه المرة، فقد أنقذ أذنه من عضة مجنونة سينالها حتماً بسبب تأخيره .
أدخلها البيت بهدوء، لكن صوت أمه العالي فاجأه من حيث لا يرتقب :
من أين اتيت بهذه الدراجة ؟ احذر أن تكون للحاج رشيد، لا نريد مشاكل مع هذا الرجل .
- لا.. لا تخافي يا أمي، إنها لصديقي .
بدأ ياسين يفكر بأن عليه أن يغير ملامحها، لونها، ويتمنى أن يستطيع إصلاحها أيضاً.. ولكن الأهم الآن تغيير ملامح الدراجة، قال في نفسه :
- سأحاول إيجاد ما تيسر من أصباغ في البيت .
بعد البحث، والتنقيب لم يجد ياسين إلّا صبغة سوداء على شكل مسحوق، أحضرتها أمه لتصبغ بها عباءتها التي غيرت الشمس لونها من الأسود إلى الرمادي .
و لم يدر في عقله أن صبغة القماش لا تصلح لصبغ الحديد، حل الصبغة بالماء كما رأى أمه تفعل في مرات سابقة، وبدأ بالصباغة، كل شيء أخذ حصته من ذلك اللون الأسود، الأرض.. الحائط.. حتى وجهه، وملابسه، إلّا الدراجة لم يعلق عليها من الصبغة إلّا القليل، وبرغم تكراره لتلوينها إلّا أن محاولاته باءت بالفشل، مما اضطره أخيراً إلى تركها على حالها، وإخفاءها لأسبوعين لم يرها أحد خلالها .
سمع ياسين بعدها أن الحاج رشيد يبحث عن الدراجة، وأنه أعلن عن جائزة لمن يجدها، حيث سيعطيه أفضل دراجاته مجاناً ليوم كامل .
فكر في نفسه : لم لا أخبر اخي الياس بأمرها ؟ وأطلب منه أن يرجعها، ونتقاسم الجائزة معاً، إنها حقاً فكرة رائعة، ثم أخذ ينادي أخيه :
الياس.. الياس ... تعال معي سأخبرك بسر، هل سمعت أن الحاج رشيد أعلن عن جائزة سخية لمن يجد دراجته المفقودة ؟
- نعم.. سمعت.. كم أتمنى أن اجدها، لأنال تلك الجائزة ....
- تعال معي إذن .
اصطحب ياسين أخاه إلى السطح، حيث كان يخفي الدراجة، وعندما وصلا صنع ياسين موسيقى تصويرية بفمه :
- تن تن تنننن ... وأكمل قائلاً :
- إنها هنا، هيا اذهب بها للحاج رشيد، وسنتقاسم الجائزة بيننا .
لكن الياس رفض العرض قائلاً :
- الجائزة لي وحدي.. وإذا أردت أن نتقاسمها، ستتركني أقود الدراجة، وتجلس خلفي... قد أعطيك القيادة عندما أتعب .
- حسناً اتفقنا.. هيا لنذهب، ونطلب منه الدراجة الحمراء الصغيرة، فهي سريعة، وفيها مقعد خلفي .
- ساعدني لننزلها من السطح .
في بداية المحاولة، سقطت الدراجة من أعلى السطح، ولحسن الحظ لم يحدث فيها أي عطل ...
- اذهب سريعاً يا الياس.. سأنتظرك هنا، ولا تنسَ الدراجة الحمراء ...
انطلق الياس بالدراجة، لكنه كان بطيئاً لصعوبة قيادتها، كانت الأفكار تجول في رأسه : هل سيحصل على الجائزة حقاً ؟ أم أنها خدعة، وسينتقم منه الحاج رشيد، كان يتخيل نفسه مرة يركب الدراجة الحمراء، وأخرى يتخيل نفسه بأذن حمراء، بعد قليل سيطرت فكرة العقاب عليه، فاستسلم لها تماماً، وقبل أن يصل إلى الركن القريب من محل الحاج رشيد، ترجل من الدراجة، ورماها جانباً، وهرول هارباً إلى غير رجعة .
ملاحظة :
أنا لا أطرح نفسي ككاتب، فأنا فنان رسام أولا وآخراً، والكتابة محاولات متواضعة ربما أطورها، أو تنتهي، وهي استجابة لفكرة، وتشجيع الصديق الدكتور عبد السلام دخان، ودعمت الفكرة زوجتي الكاتبة لبنى ياسين التي قدمت النصح، والتصحيح كل الشكر لهما ولكم .