مساء التاسع من آب ( أغسطس ) 2008 ، كنت في برلين ، أدخلُ مع الشاعرة الإسكتلندية جوان ماكنْلِي مقهىً يرتاده ذوو الحاسوب المحتضَن ( اللابتوب ) .
كانت الساعة حوالي السابعة .
صيفٌ ألمانيٌّ .
في الرصيف التابع للمقهى زبائنُ يدخّنون سجائرهم .
أنا أنظر عبر الزجاج إلى الرصيف وأهله .
جاءت جوان ماكنلي بكأســي جُعةٍ كبيرتين .
ما زلتُ أنظر إلى الشارع عبر الزجاج . مددتُ يدي إلى كأس الـجُعة ، فارتدّتْ .
كنت أحسُّ بإحباطٍ وإنهاكٍ ، وبين لحظةٍ أخرى تعتريني رجفةٌ خفيفةٌ .
لم أكن في المكان .
كان شــيءٌ ما يأخذني بعيداً عن المكان ، عن جليستي ، عن كأس البيرة الألمانية ، عن كل شــيء .
قلتُ لجوان : أنا أرتجف برداً !
لم نكن في مهبٍّ للريح . لكنّ برداً قادماً من سيبيريا ما كان يدخل إلى المقهى ، لـيُرعدَني وحدي .
اقترحتْ عليّ أن نصعد إلى الطابق الأوّل ، اتّقاءَ بردٍ خاصٍّ بي .
حملتْ كأسَي البيرة .
وهناك بين ذوي اللابتوب المنهمكين جلسنا . ثانيةً لم أمدّ يدي إلى الكأس .
حالةُ القنوطِ ظلّت ملازمةً .
لم يكن القنوط وحده .
كنت ضائعاً ، أتيهُ بين فلواتٍ بلقعٍ ، في قرٍّ مؤذٍ . في عالَمٍ من أذىً صافٍ دائمٍ كالقانون الطبيعيّ .
تلك الليلةَ ، لم أقوَ على العودة إلى شقّة ابنتي شــيراز في ضواحي العاصمة الألمانية ، فأويتُ إلى شقّة جوان لأنامَ كمداً !
*
عدتُ في الضحى العالي إلى ابنتي .
قالت لي إن اسماعيل خليل ( المسرحي ) اتصلَ بي منتصف الليل .
- هل قال شيئاً ؟
- كان يريد أن يخبرك ، برحيل محمود درويش !
*
إذاً ...
في حوالي السابعة من مساء التاسع من آب ( أغسطس ) كان محمود درويش ، يرحل عنا ، في مستشفاه الأميركيّ .
هل كنتُ أحاولُ الاتصال به ، وأنا في المقهى ؟
هل مرقتُ في خطفةٍ أمام عينيه الغائمتَين ؟
لقد كنا في باريس ، في السابع من حزيران هذا .
جاء إلى أمسيتي بمسرح الأوديون . لكنه قال لفاروق مردم ألاّ يخبرني بأنه هناك .
التقينا بعد انتهاء الأمسية .
قال لي : أنا راحلٌ غداً .
هل حملت كلماتُه هذه ، الأقصى ممّا يمكن أن تحمل ؟
هل كنا نقول : وداعاً ؟
*
قالت لي منى أنيس : كان محمود يودّعك !
لندن 27.08.2008
مساءٌ في آب 1982 بيروت
الصيف المنكسرُ ، يستمرّ حتى في المساء .
بيروت محاصَرة ، والإسرائيليون على الأبواب .
الظلام يُطْبِق على المدينة كما يطْبِق الدخان الثقيل . شارع الحمرا يبدو مهجوراً للوهلة الأولى . إلاّ أنه محتشـدٌ بالأشباح ، أشباحِنا ، وأشباحِ رؤانا ، محتشدٌ بأنفاسنا المختنقة . لا ماء في المدينة . لا كهرباء . نحن ، السائرين
هائمين في الظلام ، وحدَنا ، نخدشُ حقيقةَ أن المدينة ميتةٌ وقد غادرَها أهلُها ، إلى الشمال : طرابلس والضّنّيّة ،
أو جنوباً حتى المناطق التي احتلّها الإسرائيليون .
الغرباء في المدينة هم السائرون في الظلام ...
نسير في العتمة .
مصابيحنا اليدوية ذوات البطاريات الصغيرة ستضيء لنا السلالم آنَ نعود إلى غرفنا التي تظل تهتزّ حتى في الليل من انفجارات النهار .
مصباحٌ يدويّ يتّقد فجأةً .
أأنت هنا ؟
محمود درويش في ليل الحمرا !
*
وجهانا في دائرة الضوء الضيّقة كانا متّســعَينِ .
لندن 29.08.2008
أواسط السبعينيات ببغداد
ربما كان ذلك في النصف الأول من السبعينيات .
كنا ، على ما أتذكّر في منزل ناهدة الرمّاح .
محمود درويش كان في بغداد المتفتحة ( على آفاق كاذبة ؟ ) آنذاك .
زار " طريق الشعب " ، واحتفى بلقاء شيوعيين وشعراء كان عرفهم في أكثر من مكان ومناسبة .
تلك الليلة امتدت السهرة أكثر من المعتاد .
أغانٍ وموسيقى وأنهارٌ من الرحيق المصفّى .
وكان عليّ ن أن أوصل محمود درويش إلى فندقه بسيارتي الرينو 16 التي كادت تنفجر بعديد ركّابها .
محمود درويش كان إلى جانبي .
ننحدر من جسر الجمهورية .
فجأةً يغيب كل شــيء أمامي .
ألتفت لحظةً إلى محمود درويش لأسأله : أهذا شارعٌ أم حائطٌ ؟
يقول : هل أوصاك أحدٌ بقتلي ؟
السيارة تندفع في شارعٍ بغداديّ ، بلا مارة ولا سيارات ...
شارعٍ بغداديّ في الفجر المبكر .
محمود درويش سيظل يسألني كلما التقيتُه ، متذكراً رعب تلك الليلة :
أشارعٌ أم حائطٌ ؟
لندن 29.08.2008
قمرُ بغدادَ الليمونيّ
لستُ أعرف سبباً لـ " نرفزة " كتّابٍ عراقيين معيّنين ، من وصفِ محمود درويش قمرَ بغداد بالليموني .
قمرُ بغداد ليمونيّ ، حقاً ، لكن يبدو أن العراقيين لا ينظرون إلى السماء جيداً .
ألم يقُل الجواهريّ العظيم :
لم يعرفوا لونَ السماءِ لفرْطِ ما انحنت الـرقابُ
ولفرْطِ ما دِيسَتْ رؤوسُهمو كما دِيسَ الترابُ
ما علينا ...
أكان ذلك في أواخر الثمانينيات؟
1989 مثلاً ؟
آنذاك كنت مقيماً ، على قلقٍ ، بباريس .
محمود درويش كان يسكن بالتروكاديرو ، عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية .
كنا نلتقي .
أحياناً أدعوه إلى الخروج معي .
أقول له : دعني آخذك يا محمود إلى باريس الأخرى . إلى مقاهي الجزائريين ، وحانات المغاربة ، ومطاعم الأفارقة . دعني آخذك إلى الضواحي ...
يقول لي : أنا أحسدك . أنت تتجول كما تشاء . تتعرف على باريس بطريقتك . أمّا أنا فسوف يتبعُني خمسةٌ من الحماية !
*
في أحد الأيام تلقّيتُ مكالمةً هاتفيةً من محمود .
قال : يجب أن أراك اليوم .
قلت : ليكُنْ !
كان اللقاء في مطعمٍ غير بعيدٍ عن مسكنه . طلبتُ بطّاً ، فجاءني طبقٌ به لحمُ بطّ شبه نيّء ، في رقائقَ تكاد تشِفّ !
*
من كان معنا ؟
لا أتذكر جيداً ، لكني أظن فوّاز طرابلسي الجليسَ الثالث .
*
قال محمود : عدتُ اليوم من النرويج . من قريةٍ قصيّةٍ بالنرويج . أريد رأيك في أمرٍ مُـلِحٍّ .
قلت : أمرك !
قال : يا سعدي ، اسمعْني ...
تلقّيتُ دعوةً لحضور المربدِ ، ولجائزةٍ تُسَلَّمُ إليّ إنْ وقّعتُ مسبقاً على قبولها . رفضتُ الأمرَينِ كليهما . ورغبةً مني
في تجنُّب الأخذ والردّ ، سافرتُ إلى النرويج ، وأقمتُ في قريةٍ قصيّة . لكني في منتصف الليل تلقّيتُ مكالمةً
هاتفيةً من أبو عمّار ، نصُّها : هل تريد أن تخرب بيتنا يا محمود ؟ يجب أن تذهب إلى بغداد !
قلت : هكذا ؟
قال محمود : نعم ...
الآن أريد رأيك !
إنْ قلتَ لي : لاتذهبْ ، فلن أذهب !
*
ما كنتُ بحاجةٍ إلى أن أُنعمَ النظرَ .
قلت له : أنت في هذا الموقف ، لستَ محمود درويش . أنت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية . ممثلٌ رسميٌّ لشعبك وقضيّته . أنت تضحّي من أجل قضية شعبك . ليس بمقدوري ، ولا من حقي أن أقول لك لاتذهبْ .
لكني سأظل أتذكّر ، بكل اعتزاز ، أنك استشرتَني ، مبدياً استعدادك للأخذ بما أرى !
*
قمر بغداد الليمونيّ !
30.08.2008