قراءة في رواية وادي الدموع للروائي المغربي محمد مكي

2020-01-30

الرواية نمط أدبي تعكس الواقع، وبما ان الروائي في المغرب الكبير والعالم الشرقي تتكاثر فيه الهموم وتندلق على طول الساحة من قهر وضيق في الرزق والسكن واستبداد الأنظمة والأعراف البالية معشعشة من الماضي السحيق، ولا تزال تجد طريقها إلى عصرنا. وهو ما تقترحه علينا رواية "وادي الدموع" للكاتب المبدع محمد مكي والصادرة طبعتها عن مطبعة وراقة بلال فاس .

إن عنوان الرواية مفتاحا اجرائيا، يُدخل القارئ الى عالم الحكاية وكشف أسرارها وتكوين فكرة عن ماهيتها، وعن الحدث الذي تدور حوله الرواية. " وازدي الدموع" عمل سردي يصف تجارب انسانية حميمة، تتسم بالقلق وتصف العلاقات الدقيقة المتداخلة للانسان، باستخدام الخيال النوعي والخيال الشعبي. تطرّق الكاتب محمد مكي إلى مواضيع مهمة في المجتمع المغربي المليء بتناقضات اجتماعية بسرد أدبي  جميل وبوح وتفاصيل واضحة عن واقع ذاتي، موضوعي واجتماعي، وعن خبرة وتجربة حياتية معاشة. تُبرز الرواية  هموم ومعاناة المعلمين والأساتذة في المغرب والقهر الذي يتعرضون له بكل أشكاله : قهر اجتماعي واقتصادي وسياسي . يسترسل الروائي محمد مكي في أحداث متنامية متصاعدة ونماذج دالة بطريقة إبداعية تشدّ المتلقي بقوة، أثراها سرد الرواية القائم على الإستطراد . حيث يُخرجنا من حديث إلى آخر بمناسبة بينهما، ثم يرجع ليتمم الحكاية. من بداية الصفحة الرواية تشد القارئ فارضة نفسها بقوة الواقع ومرارة الحياة الصعبة التي يعيشها المعلم في حياته المهنية في قرى نائية بعيدة عن التمدن وعن الحياة الحضرية، حيث قساوة الظروف الطبيعية وغياب أساسيات الحياة اليومية . وحيث يتحول المعلّم من أستاذ يدرس التلامذة إلى ممرض وخطيب في المسجد ليساعد السكان ويسد الحاجة . واقع يعيشه القارئ على طول جسد الرواية وامتداد صفحاتها. يقرأها بنهم وبدون كلل . " سنوات من العمل الجاد والدؤوب قضاها المعلم "الطيب" بطل الرواية في الفيافي وأقاصي الجبال من قرية إلى قرية ومن بادية إلى أخرى . يقول:  " ..... عرِفَته صخورها الصمّاء، وكلّمته فيها قممه الشاهقة ، اعتلى صهوات جيادها، وامتطى زهور آتانها وجرّب شتى وسائل النقل لقضاء حاجاته ومآربه المعيشية والوظيفية .."

" سأله يوما زميله عبد العاطي قائلا: اريد ان أعرف سر حب الناس لك من دوني . حينما تسافر وتتركني لوحدي لا أحد يسال عني ولا أحد يتذكرني حتى بكسرة خبز .

" الناس هنا يا صديقي مرآة لامعة . تنعكس عليها طريقة تعاملنا معهم .....الناس ينتظرون منا النزول إلى مستواهم، نعاملهم بلطف نتفهم ونتقبل جهلهم دون خدش أو تهكم . " الكاتب محمد مكي يختار الزاوية التي ينظر منها إلى كيف يرى الواقع وكيف يعبر عن وجهة نظره، متأثرا بما يراه، يُحسّه داخل المجتمع والطبقة التي ينتمي إليها حيث أن الواقع الإجتماعي هو الذي يحدد حياة الكاتب، طريقة تفكيره وإحساسه . " وما هي إلّا لحظات حتى سمع  صوت صديقه يستغيث، ويصيح ويتألم من وقع لذعة عقرب أصفر، صغير الحجم، سريع الحركة،  يطلق عليه السكان "تفيغرا" 

" .... كانت يداه ترتعشان، وهو يبصر زميله يتنفس بعمق، أخذ المشرط وعمد إلى مكان اللدغة، جرحها بخفة وبدأ يمتص الدم بفمه، ويبصق على الأرض، مكررا العملية مرات. حزم زميله على ظهره وانطلق به نحو الفيلاج ." شخصية شديدة في الحب للناس، في الوفاء، شديد الثورة على الأوضاع المتردية، شديد الرغبة في التحول، وهذا دائما نهج الفن إلإنساني العظيم .  

" هاهما على مشارف الضاحية يقتربان ببطء نحو مستوصف متهالك، بحجرة واحدة، يعود تاريخ تاسيسه إلى فترة الستينيات من القرن الماضي . عرف نشاطا منقطع النظير آنذاك، حيث كانت تداوم فيه ممرضة أجنبية، وهبت نفسها لإنقاذ المرضى، على أهبة واستعداد لتقديم خدماتها لكل قادم من القرى والأرياف المحيطة البعيدة بالقرية. " مَسُّور" هكذا كانوا ينادونها مرتادو المستشفى .. فرنسية في الستين من العمر، اندمجت في حياة هؤلاء البدو، أحبتهم وأحبوها ، ولو وقفوا على دمها لما بخلت به على واحد منهم . حينما ماتت عمّ الحزن كبيرهم وصغيرهم وأكثر من ذلك غسلوها وصلوا عليها صلاة الجنازة ودفنوها في مقابرهم بالرعم من اختلافها معهم في الملة والعقيدة ."

" ...... بعد نصف ساعة هاهو الممرض سعيد يحضر متجها غاضبا : ماذا هناك؟ الا تتركون الواحد يرشف كاس شاي بحريته !؟

ماذا تقول يا رجل .. نحن استاذان، وهذا زميلي يشرف على الموت ."

 مفارقة الموقف في سياق النص، تُكوّن للقارئ صورة في الذهن ثم في الحياة والواقع. رواية وادي الدموع، لوحة أدبية مكتوبة بأسلوب سلس، تغور عميقا في منافي القهر، والأمية والجهل والإستلاب لمناطق جغرافية لا تزال حتى الآن محرومة من أبسط الحقوق الإنسانية . إنهاررواية الكشف من خلال تطويع المكان لغاية الراوي الفكرية  والنفسية . إن رواية وادي الدموع لوحة أدبية مكتوبة بأسلوب سلس. تغور عميقا في منافي القهر والأمية والجهل والإستلاب في مناطق جغرافية لا تزال حتى الآن نائية محرومة من أبسط الحقوق الإنسانية . رواية عن الحب والآمال والنظال وعن طاعة الوالدين وعن التضحية، عن السحر والجن وعن العنصرية. رواية وادي الدموع من أخلص الروايات وأكثرها وفاء عن معاناة الأستاذ والمعلم في الوطن دون زعيق أو قرع طبول.  إنها تصور الواقع المرير كما هو، وتبلغنا رسالة من أقرب سبيل. رواية خفيفة الوقع ثقيلة في آن تجذبنا اليها جذب حلو فنمضي نتابع أحداثها، فإذا نحن أمام نهاية حزينة مليئة بالمفارقات . وفي غمرة ألمنا نود لو كانت النهاية أقل قسوة وايلاما، ولكننا نعلم أن القدر لا يستأذن عواطفنا . إن النهاية الفاجعة التي تنتهي بها " وادي الدموع" تحوي المعنى الأعمق والأكثر احتجاجا على واقع محزن ينبغي أن ينتهي .

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved