تبدو سيرته، مقاربة لسيرة العراق كدولة معاصرة واعدة . ولادته ليست بعيدة عن ولادة من ظل يغني له أجمل الأناشيد، وموته ليس بعيدا عن تحول المسار الواعد نحو التعثر وصولا إلى التقهقر . مثلما تبدو هويته الوطنية من التلقائية والانسجام حد إنه كان تمثيلا حقيقيا لفكرة وطن متعدد الأصول والأعراق والأديان ضمن أفق وطن مشترك .
1
هو، أكرم رؤوف إسماعيل بابان، ولد لأسرة بابان الكردية الشهيرة في مدينة العمارة 1908(1)، حين كان والده يقضي جانبا من مستلزمات خدمته كضابط في الجيش العثماني كان على معرفة بالموسيقى وفنونها، وهو ما جعل محبة الأنغام أمرا طبيعيا في الولد الصغير، حد أنها تملكته تماما حين أوقف له الأب معلمة فرنسية كانت تسهر على تطوير تلك المحبة وجعلها قدرة في العزف وكتابة الأنغام عبر النوطة الموسيقية .
بدأ في أواخر عشرينيات القرن الماضي، سيرته معلّما للنشيد والموسيقى، في النجف، ثم الحلة، وتحديدا في "مدرسة الحلة الشرقية، التي تميزت بنشاطها في مجالي الموسيقى والرسم إذ كان هناك مجموعة من المعلمين الذين عملوا في هذه المدرسة، وصاروا فيما بعد أعلاماً في مجالات الفنون المختلفة ومنهم الفنان الموسيقي أكرم رؤوف الذي شكل فرقة إنشاد وفرقة موسيقية نحاسية اشتهرت على صعيد منطقة الفرات الأوسط".(2)
غير إن الورشة الحقيقة لجهد السيد بابان موسيقيا وتربويا، تمثلت بعمله أستاذا للنشاط الفني في دار المعلمين في الأعظمية، و"كان له الفضل في تعليم ورعاية الكثير من الطلبة الموهوبين اللذين شغلوا حضورا مهما في الساحة الغنائية والفنية في العراق ".
2
ولم يقتصر عمله الموسيقي على التدريس وتعليم الموسيقى لتلاميذه ممن سيصبحون معلمين بدورهم، بل امتد على نطاق ثقافي واسع، فقدم برنامجا إذاعيا خاصة في دار الإذاعة العراقية تقدم فيه الأناشيد والأغاني الوطنية بشكل ثابت ومستمر، وكانت جميعها من تلحينه وتقدم بإشرافه، وكانت أناشيده تلهب حماس طلبة المدارس والشباب ومنها "بلاد العرب أوطاني" و"الفتوة" (3) التي كانت مؤثرة في أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى ستينيات القرن الماضي حين تراجع الوطن ليتقدم الزعيم الجمهوري الحاكم، وتصبح الأناشيد والأغنيات حكرا عليه بوصفه "قائدا تاريخيا مفدى" .
هذا التحول من الغناء للوطن ورفعة إنسانه وهو ما برع فيه بابان إلى جانب سعيد شابو وجميل بشير، إلى غناء يتملق القادة والزعماء والضباط الحاكمين، صار بمثابة مدخل لثقافة ستعصف بروح العقل وفكره الثقافي في العراق، ثقافة تمجيد الفرد، وعبادة الشخصية، التي يصغر معها الوطن كلما بالغت الأغنيات والأناشيد في مديحها وتملقها .
يوم كانت الموسيقى معرفة ودرسا أنيقا في المدارس العراقية
3
كتب عنه بالعرفان أستاذ الموسيقى الأوروبية في كلية التربية الموسيقية بجامعة بغداد، د طارق حسون فريد، مستعيدا أثر بابان في جيل من أمثاله عبر دار المعلمين الابتدائية، كما كتب عنه الموسيقار سلمان شكر منوها إلى أولى المبادئ الموسيقية التي تلقاها وكانت على يد الأستاذ أكرم رؤوف الذي عرف كيف ينسجم مع البيئات الإجتماعية والثقافية المختلفة التي عاش بينها، فـ"عرف هذا الفنان كيف يندمج مع المجتمعات التي عاش بينها في كل من مدن النجف وكربلاء والحلة والديوانية وبعقوبة معلما للموسيقى"(4).
4
جاء رحيل بابان بأعظمية بغداد 1971، ليكون إشارة إلى مسار عنيف وصاخب بل تدميري، ستمضي إليه بلاده، حتى وصلت اليوم إلى مستويات متراجعة كثيرا في المجال الذي أفنى حياته من أجله: تربية الأجيال موسيقيا وتهذيبها وطنيا وروحيا .
هوامش
1هديب حياوي عبد الكريم غزالة، مدرسة الحلة الشرقية(مقال منشور في عدد من المواقع الألكترونية).
(2) و(3) و(4)، حسام الدين الأنصاري، (كتاب) تأريخ الفرقة السمفونية الوطنية العراقية في خمسين عاما (1962-2012).
*الصورة من أرشيف الدكتور سمير حبانه، وفي شرحها: أخذت في الديوانية عام 1962 للزعيم الركن إسماعيل العارف ( وزير المعارف )، وعلى يمينه الأستاذ عبد الحسين حبانه (مدير المعارف ) وعلى يساره مدرس المادة ثم الأستاذ عبد الجبار الخزاعي (مدير الثانوية). مع ملاحظة ما تحتويه السبورة من علم ومعرفة.