قال احمد اليعقوبي..
( لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة امرها وكثرة علمائها واعلامها وتميز خواصها وعوامها وعظم اقطارها وسعة وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها وجمالها واسواقها وسكنها وازقتها ومساجدها وحماماتها وطرزها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وافيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها.. وكانت على ايام الرشيد كما تذكر المراجع..
اذ الدنيا قارة المضاجع
وارة المراضع
خصيبة المراقع
موردة المشارع
وبغداد الحبيبة تغنى بها الشعراء والادباء والمغنون على طول امتداد عمرها المديد منذ بناها الخليفة ابو جعفر المنصور)
هذا صحيح، ولكن هذا الكلام قديم .
هاشم
لا يخفى على أحد بأن الجهود التي بذلت في بداية القرن الماضي وعلى مدى عقود عدة، أعقبت إنتهاء التبعية للسلطة العثمانية، من أجل تحديث مجتمعنا، وبما تضمنته تلك الجهود، من تحديث نظم التعليم والتفكير والإدارة وإستبدال القيم الحديثة للمدينة بقيم الريف أو الصحراء المحافظة، أصبحت بعد الستينات من القرن الماضي في تراجع ملحوظ، جعل عاصمتنا بغداد، تبدو كأنها تمدنت شكلا، بينما على مستوى المضمون، أصبحت أسيرة لقيم متخلفة بكل ما يعنيه ذلك، مما أحدث الكثير من مظاهرالتناقض التي نراها الآن حولنا، في كل نواحي حياتنا .. بالرغم مما نرى اليوم في مدننا العراقية، وعلى رأسها العاصمة بغداد، الجماهير العريضة تستخدم أحدث السيارات، وأحدث تكنولوجيا الإتصال سواء تمثلت بالهواتفالمحمولة بالتطبيقات الإليكترونية الجديدة أو في الحواسب الشخصبة المحمولة المتنوعة، بينما على مستوى التفكير والسلوك والقيم الشخصية لا نرى إنعكاسا لقيم الحداثة والتمدن، مما يؤثر سلبا وبشكل واضح على المجتمع .
وأقصد هنا بكلمة الريف أو الصحراء بأنه منظومة من العادات والقيم والأعراف التي تسبق الدولة المدنية، والتي تقوم على المؤسسات والقوانين والمبادئ الوطنية، وهي منظومة تأسست على ظروف طبيعة الحياة اليومية في الريف كمجتمعات زراعية أو الصحراء وروابطها القبلية، ومن بين مفردات هذه المنظومة سيادة الفكر الأحادي الإطلاقي الذي لا يؤمن بالتعدد أو التعايش بفعل البيئة أحادية اللون التي نما وترعرع فيها إبن الريف أو القبيلة في الصحراء، وغياب المنهج العلمي في التفكير والإرتكان الى الأفكار التواكلية التي تعود لذهنية الأنسان الذي ينتظر حصاد الثمار على إعتبار أن نشاط الزراعة لا يحتاج إلا الى قدر قليل من الجهد ووراثة النظم الأدارية كنظم عشائرية يتولاها أعيان العائلات بعيدا عن الكفاءة وتكافؤ الفرص، وتغليب للمصلحة الشخصية على المصلحة العامة وفق الأعراف المبنية على أساس من تقديس وتقديم رابطة الدم على غيرها من روابط .
وهذه في واقع الأمر تتناقض كثيرا مع القيم المدنية المرتبطة بالتحديث التي عرفتها المجتمعات الصناعية القائمة على تقسيم العمل وعلى الإنتاج، ومراعاة أهمية الوقت، والإعتراف بحق الآخر، وغيرها من قيم مثيلة، ويبدو أنه مع تزايد الهجرات من الأرياف والصحاري الى بغداد خلال العقود الأربعة الماضية، مع إصرار المهاجرين على الأنتقال بموروثهم الثقافي المحافظ وعدم قبول القيم الديمقراطية أولى ضحايا الترييف إذ لا يمكن ترسيخها دون مدينة. فهي عقد إجتماعي مع المكان، وتحققها منظومة سياسية وإجتماعية وشروط بيئية محيطة تجعل تنظيم الحياة السياسية والعامة عقدا تلتزم به الأطراف جميعا، وتجد فيه مصالحها، ومن دونه تضيع هذه المصالح، وتتعثر عمليات تحقيق الحاجات الأساسية، وهذا لا يتم إلا في مدينة حقيقية، يتجمع فيها الناس وينظمون أنفسهم على أساس مصالحهم وإحتياجاتهم .
وإذا رصدنا هذه التحولات فإننا نجد بذورها الأولى تعود للفترة التي تولت بها الحكم في العراق حكومة وطنية لأول مرة، بعد التخلص من المرحلة الملكية من خلال إقرار قوانين إصلاح الأراضي الزراعية وتمليك الأراضي للفلاحين، وبناء المدارس والتوسع الأفقي بالتعليم، كما حدث في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، إذ بدأ عدد كبير من الشباب في التعلم والإستفادة من مزايا النظم الجديدة، ما أدى الى إرتفاع حظوظ العديد من الفئات الريفية، لكن الأمر تحول بالتدريج الى واقع مختلف تماما وربما الى النقيض ، مما كان يرجى من ذلك الإصلاح .. وأما اليوم بعد التغيير الذي حدث من خلال الإحتلال الذي قام به تحالف غربي لبلدنا العراق، فيمكن تأمل أحوال الجامعات العراقية ومراكز التعليم، لنرى كيف أن قيم الريف، والمد الديني المتطرف قد أصاباها هي أيضا وأصبح جليا كيف يفتقد الكثير من القائمين على عملية التعليم الجامعي للقيم العلمية والمهارات والإمكانات، وأحلت مكانها تلك القيم الوافدة من الأرياف والروابط القبلية لتسود وتطبع التعليم بطابعها، فأصبح الإلتحاق بالكادر التدريسي للجامعات والتفوق فيها مرتبطين بالحزبية الضيقة أو بدفع الرشاوي، إمعانا بالفساد الأداري والمالي المستشري حتى في قطاع التعليم، أو بالقرابة العائلية والأسرية والقبلية .
في تحليلنا لهذه الظاهرة، نجد أن ترييف بغداد وبقية المدن الكبرى في العراق، يعني إزاحة القوى المدينية الى غير رجعة، من قبل الريفيين ( والذين قدموا تحت أغطية دينية إثنية أو قومية متعصبة ) والذين لم يطرحوا مسألة المشاركة بين الريف والمدينة بديلا عن هذه الحرب الشعواء . في عهد النظام السابق، لم تكن القوى المدينية هي التي أعلنت حربها على القوى الريفية، بل العكس هو الصحيح، فبينما كانت هذه القوى تعتمد على صوت المتحزب طواعية أو إجبارا ( المديني والريفي ) لتحكم، كان الريفي الذي إرتدى البزة العسكرية يؤمن بإخضاع الآخر ويضيق صدره من المجادلة حتى أصبح العرف السائد في المجتمع :( نفذ ثم ناقش أو إعترض )
لقد إعتمد الريفي صدام حسين في الترييف ( وفق أيديولوجية وخطط وضعتها منظمات سرية ) على عسكرة المجتمع، بإلغاء أو تزييف مؤسسات المجتمع المدني عوضا عن ذوابانه فيها، هذه المؤسسات التي تضج بالحركة والنقاشات وتعلو فيها الأصوات التي تناقش بصوت عال ٍأمور البلد ومستقبلها، ليجعل المجتمع سكونيا هادئا هدوء القرية ( واليوم نشهد صورة أخرى تظهر تحت براقع الديمقراطية، بوجود الكثرة الكاثرة من منظمات االمجتمع المدني، والفضائيات، والأعداد الهائلة من الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية، دون أي تأثير لهاعلى مسار العملية السياسية السائرة بطريقها المتعثر بالكثير من المعوقات التي ولدها مخاض المحاصصات والصيغ الملتبسة لفقرات ومواد الدستور والذي خرج من تحت عباءة بريمر، وما أراده المحتلون للبقاء على الفوضى ) . والغريب بالموضوع أن قيادات التنظيمات السياسية المتربعة على الهيئات القيادية لإدارة البلد تمارس نفس رواسب المجتمعات الريفية التي إنحدرت منها، فالريفي لا يحب الأختلاف بالصوت ولا بالشكل فقد تعود أن يرى جمهرة معينة من الناس ككتلة متشابهة لا إختلاف فيها بالألوان هناك العديد من المتغيرات الأجتماعية التي يمكن ملاحظتها في العاصمة اليوم، والتي أصبحت سمة شائعة إثر زيادة نسبة ترييفها وتتعلق بظاهرة الأختلافات الطائفية، أو إرتفاع نبرة القوى السلفية ( من كل المذاهب ) التي تود أن تفرض رؤية واحدة على سلوك الأفراد وإدعاء إمتلاكها لهذا التصور بوصفه مرجعية إخلاقية مستمدة من الريف أو مرجعية دينية مستمدة من الدين والذي بات تأويل تعاليمه يجرى وفق تصورات مختلفة . وأدت هذه الظاهرة لشيوع حالة من الإستقطاب الشديد بين أتباع الطوائف المختلفة أو الأديان المختلفة من سكان العاصمة وشيوع نبرات التخوين المتبادل أو إقصاء كل طرف للأخر، بل وحتى للتكفير المتبادل، بدعوى إمتلاك كل طرف للحقيقة التي لا يمتلكها غيره، حيث إن العاصمة حين تريفت فقدت أحد أبرز وأهم ملامح خصوصيتها وهي قدرتها على إحتضان الأختلافات العقائدية والطائفية والثقافية .
خلال السنوات العشرة الأخيرة، حيث تولت قوى دينية ذات عقليات عشائرية، إستلمت الحكم والسلطة، إنكشفت المظاهر الريفية التي تتغلغل في ذهنيات تلك الجماعات مجسدة في غياب أهمية وجوهرية فكرة المؤسسات في ثقافة الحكم، وخاصة فكرة القانون والإعتراف بالآخر وحماية حقه كاملا في المشاركة، وغياب أي معرفة بوسائل الأدارة وفقا للمناهج العلمية الحديثة، إضافة الى شيوع العديد من الأفكار التي عبر بها هذا الفصيل عن أفكار الكثير من المنتمين إليه من رجعية وغياب لمفاهيم العمل السياسي التعددية الحزبية، إضافة إلى إمتلاك نظرة دونية عازلة تجاه المرأة كما يشيع في المجتمعات الريفية المنغلقة بشكل عام .
وهناك العديد من مظاهر هذا الترييف، التي إتخذت أشكالا عديدة سواء في العمارة الحديثة أو العمارة المدنية القديمة، وعدم الإهتمام بالجمال والقيم الفنية، مما أثر سلبا على المظهر العام للعاصمة، التي أصبحت مظاهر القبح وعدم النظافة سمتين رئيسيتين فيها .
وبالتالي فإننا اليوم نرى أن التحدي الكبير الذي يواجهنا، عندما نسعى لتحديث مجتمعنا، وتحقيق التنمية يتمثل في توجيه الجهد الأكبر لوقف زحف الهجرات الريفية للمدن وبالأخص العاصمة بغداد، من خلال الإرتقاء بخطط تنمية القرى والمجتمعات الريفية وتحسين سبل الحياة بها، وكذلك التفكير بالتخطيط لإنشاء لمجمعات سكنية مخططة في المناطق المعتدى عليها والمسكونة عشوائيا وبالجهود الذاتية لساكنيها، بعد أن أصبحت أمرا واقعا، لأن العقد المنصرم ولد علاقات وروابط إجتماعية وأهدافا وأحلاما مشتركة بين أفراد هذه التجمعات وخاصة للجيل الذي ولد في الفترة الأخيرة، وتوفير فرص عمل جيدة لسكانها، وفرص تعليم جيدة لأبنائهم ورفع مستوى الوعي العام لهم، وخلق توازن حقيقي بين المدينة والريف من خلال توحيد فرص التعليم والمناهج والصحة والوظائف والسكن لتصبح العاصمة مرة أخرى قاطرة للمدن العراقية الأخرى وللريف وفائدة لتطويرهما .
إن الراصد لمدينة بغداد لا يحتاج إلى جهد كبير، ليكتشف سوء التخطيط العمراني، ولذلك فإننا سنحتاج الى الكثير من الجهود لتطوير مظهرها الخارجي عمرانيا، بحيث يتلائم مع الحداثة، إضافة الى أنها كشأن كثير من مدن العالم اليوم تواجه العديد من التحديات المتمثلة في مواجهة أضرار التغيرات المناخية وزيادة نسبة التلوث، وكيفية مراعاة القوانين البيئية الجديدة، لكن ظاهرات الفساد الإداري والمالي والتعنت الطائفي والزحف الريفي، ستظل كلها تقف كحجر عثرة أمام أي جهود من هذا النوع ، وستؤدى الى تشتيت الجهود في وقف مظاهر الريف من جهة وإعادة التخطيط وإيجاد الحلول اللازمة لمواجهة الكثافة السكانية العالية والتمدد الأفقي اللذين تعاني منهما العاصمة اليوم .
إن مواجهة هذه المظاهر السلبية في العاصمة بغداد، أصبحت جديرة بإلإهتمام من مختلف الأطراف، وبالنقاش والبحث عن سبيل العلاج المناسب لها، لأنها إذا إستفحلت أكثر مما هي عليه الآن، فقد تؤدي الى المزيد من فشل أي إدارة محلية تقوم بإدارة ملفات التنمية، إضافة إلى أن هذه الظواهر إذا تفاقمت فقد تتحول الى قنبلة جاهزة للتفجير . وقد يؤدي إنفجارها حتما إلى الكثير من الدمار والفوضى اللذين لم يعد وطننا مستعدا لتحمل المزيد منها في الوقت الراهن على الأقل .
د.هاشم عبود الموسوي