مودغلياني 1911 ، بورتريت أنّا أخماتوفا في باريس
تقول أنّا أخماتوفا ( 1889 - 1966 ) إن الشاعرَ شخصٌ لا يُمْكـنُكَ أن تعطـيه شيئاً، كما لا يمكنك أن تأخذ مــنه
شـيئاً !
أي أن الشاعرَ مكتفٍ بذاتِه ، قائمٌ بذاته ، ولِذاتِهِ .
إنه كالبحر.
يقول أهلُ اليمنِ : البحرُ يعطي ويأخذُ .
قالَها لي صيّادُ سمَكٍ على شاطيءٍ مهجورٍ في عدن ، غير بعيد عن الجولد مور ، حين كدتُ أغرقُ في موجٍ متدافعٍ من البحر المفتوح . كان الدم يغمر جسدي من القواقعِ المسنّنة التي جرّحتْني كالخناجرِ ، في محاولاتي الإمساك بالجُرْفِ ؛ فنثرَ الرملَ على جراحي ، وهو يقول :
البحرُ يعطي ويأخذُ !
أذاً ، كاد البحرُ يأخذني ...
البحرُ يعطي ويأخذُ ؛
لكنك لا تستطيع أن تعطيَ البحرِ شيئاً ،
أو أن تأخذ البحرَ ملْكاً خالصاً لك .
*
أنّا أخماتوفا قالت هذا في مقابلةٍ أخيرةٍ لها ، بعد ستة عقودٍ من ممارسة الشِعر ، فنّاً رفيعاً .
أزعُمُ أن الشاعرة الكبيرة ، كانت تشير إلى العلاقة بين الشاعر والمجتمع .
وأمضي في زعمي فأقول إن المجتمع يريدُ أن يعطيَ الشاعرَ عطاياه الرخيصةَ : رضا السلطة . المال . الوجاهة ...,
لكنه ( أي المجتمع ) يريد أن يسلبَ الشاعرَ ، جوهرَه ، يريد أن يسلبَ حرّيتَه ، وفرادتَه ، وصوتَه المستقلّ . يريدُ أن يسلبَ
الصنجَ العالي .
وباختصار شديدٍ : يريدُ أن ينتفي الشاعرُ ويختفي ، كي يظل المجتمع سعيداً بدونيّتِه ، وجهلِه ، وقذارتِه ، ووجهائه التافهين،
وحكّامِه الأنجاس ، وسياسيّيـه الجهَلة .
*
أنّا أخماتوفا ، كانت حتى آخر يومٍ من حياتِها الغنيّةِ ، تحت هذه الوطأة الشرّيرة ، من مجتمعٍ قيلَ إنه حلمُ البشر الأسمى !
لكن الشاعرة الرائعة ظلّتْ صامدةً عقوداً ستّةً .
لكأنها ترددُ مع المتنبي القتيل :
محتقَرٌ في همّتي
كشعرةٍ في مفرِقي !
* * *
قصيدة لأنّا أخماتوفا
في ذكرى م .ب
ترجمة : سعدي يوسف
أمنحُك هذه ، بدلاً من الزهور على قبرك ،
بدلاً من إيقادِ البخورِ ؛
لقد عشتَ على الكفافِ
واحتفظتَ حتى النهايةِ بتلك الكبرياء .
شربتَ النبيذَ ، وأطلقتَ الدعابةَ كما لم يطْلِقْها أحدٌ
واختنقتَ بين تلك الجدرانِ الضاغطةِ ،
وأنت ، نفسُك ، أدخلتَ تلك الضيفَةَ الرهيبَةَ
وبقِيتَ وحيداً معها .
أنت لم تَعُدْ ، ولا شيءَ يُسمَعُ ، في أيّ مكانٍ
عن حياتك النبيلةِ الأسيّةِ ،
صوتي ، وحده ، مثل نايٍ
يعلو في جنازتك الصامتةِ .
آهٍ ...
مَن تُراه يصدِّقُ ، أني ، نصف المجنونة ، أنا المنتحبة على الأيام الخوالي ،
أنا المتأجِّجة على اللهبِ الخفيفِ ،
أنا التي فقدتُ كلَّ شيءٍ ، ونسِيتُ كلَّ أحدٍ -
سوفَ أتذكّرُ الشخصَ
المـفْعَمَ قوّةً وإرادةً وتطلُّعاً لامعاً
الذي حدّثَني ، حتى أمسِ ، كما بدا لي ،
متكتِّماً على ارتجافةِ الألمِ المميتِ .
آذار 1940
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كُتِبَ النصُّ بلندن في التاسع عشر من تمّوز ( يوليو ) 2015