كشَعرةٍ في مفْرِقي ...

2016-02-15
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8b0ba7bd-8466-49c8-b0d2-f1a154791061.jpeg
مودغلياني 1911 ، بورتريت أنّا أخماتوفا في باريس
 
تقول أنّا أخماتوفا ( 1889 - 1966 ) إن الشاعرَ شخصٌ لا يُمْكـنُكَ أن تعطـيه شيئاً، كما لا يمكنك أن تأخذ مــنه
 شـيئاً !
أي أن الشاعرَ مكتفٍ بذاتِه ، قائمٌ بذاته ، ولِذاتِهِ .
إنه كالبحر.
يقول أهلُ اليمنِ : البحرُ يعطي ويأخذُ .
قالَها لي صيّادُ سمَكٍ على شاطيءٍ مهجورٍ في عدن ، غير بعيد عن الجولد مور ، حين كدتُ أغرقُ في موجٍ متدافعٍ من البحر المفتوح . كان الدم يغمر جسدي من القواقعِ المسنّنة  التي جرّحتْني كالخناجرِ ، في محاولاتي الإمساك بالجُرْفِ ؛ فنثرَ الرملَ على جراحي ، وهو يقول :
البحرُ يعطي ويأخذُ !
أذاً ، كاد البحرُ يأخذني ...
البحرُ يعطي ويأخذُ ؛
لكنك لا تستطيع أن تعطيَ البحرِ شيئاً ،
 أو أن تأخذ البحرَ  ملْكاً خالصاً لك .
*
أنّا أخماتوفا قالت هذا في مقابلةٍ أخيرةٍ لها ، بعد ستة عقودٍ من ممارسة الشِعر ، فنّاً رفيعاً .
أزعُمُ أن الشاعرة الكبيرة ، كانت تشير إلى العلاقة بين الشاعر والمجتمع .
وأمضي في زعمي فأقول إن المجتمع يريدُ أن يعطيَ الشاعرَ عطاياه الرخيصةَ : رضا السلطة . المال . الوجاهة ...,
لكنه ( أي المجتمع ) يريد أن يسلبَ الشاعرَ ، جوهرَه ، يريد أن يسلبَ حرّيتَه ، وفرادتَه ، وصوتَه المستقلّ . يريدُ أن يسلبَ
الصنجَ العالي .
وباختصار شديدٍ : يريدُ أن ينتفي الشاعرُ ويختفي ، كي يظل المجتمع سعيداً بدونيّتِه ، وجهلِه ، وقذارتِه ، ووجهائه التافهين،
وحكّامِه الأنجاس  ، وسياسيّيـه الجهَلة .
*
أنّا أخماتوفا  ، كانت حتى آخر يومٍ من حياتِها الغنيّةِ ،  تحت هذه الوطأة الشرّيرة ، من مجتمعٍ قيلَ إنه حلمُ البشر الأسمى !
لكن الشاعرة الرائعة ظلّتْ صامدةً عقوداً ستّةً .
لكأنها ترددُ مع المتنبي القتيل :
محتقَرٌ في همّتي  
كشعرةٍ في مفرِقي !
* * *
قصيدة لأنّا أخماتوفا
في ذكرى م .ب
ترجمة : سعدي يوسف


أمنحُك هذه ، بدلاً من الزهور على قبرك ،
بدلاً من إيقادِ البخورِ ؛
لقد عشتَ على الكفافِ
واحتفظتَ حتى النهايةِ بتلك الكبرياء .
شربتَ النبيذَ ، وأطلقتَ الدعابةَ كما لم يطْلِقْها أحدٌ
واختنقتَ بين تلك الجدرانِ الضاغطةِ ،
وأنت ، نفسُك ، أدخلتَ تلك الضيفَةَ الرهيبَةَ
وبقِيتَ وحيداً معها .
أنت لم تَعُدْ ، ولا شيءَ يُسمَعُ ، في أيّ مكانٍ
عن حياتك النبيلةِ الأسيّةِ ،
صوتي ، وحده ، مثل نايٍ
يعلو  في جنازتك الصامتةِ .
آهٍ ...
مَن تُراه يصدِّقُ ، أني ، نصف المجنونة ، أنا المنتحبة على الأيام الخوالي ،
أنا المتأجِّجة على اللهبِ الخفيفِ ،
 أنا التي فقدتُ كلَّ شيءٍ ، ونسِيتُ كلَّ أحدٍ -
سوفَ أتذكّرُ الشخصَ
المـفْعَمَ قوّةً وإرادةً وتطلُّعاً لامعاً
الذي حدّثَني ، حتى أمسِ ، كما بدا لي ،
متكتِّماً على ارتجافةِ الألمِ المميتِ .

آذار 1940
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كُتِبَ النصُّ بلندن في التاسع عشر من تمّوز ( يوليو ) 2015

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved