أيّامَ زمانٍ، كانت للإسكندرية وجوهٌ عدّةٌ .
كان بإمكان المرء أن يجيءّ المرفأَ العظيمَ من أيّ وجهٍ شاءَ .
وكانت للناسِ مَقاصفُهم، بين مقهى وحانةٍ ومطعمٍ .
الشاطيءُ مفتوحٌ للجميع، والبحرُ طليقٌ .
أتذكّرُ موئلاً لي، في تلك الأيام الذهبِ، مطعماً - حانةً . في زاوية تلي المدخلَ كانت سيدةٌ يونانيّةٌ متقدمةٌ في السنِّ، تجلس إزاءَ طاولة .
تقول السيدة إنها كانت صديقةً لقسطنطين كافافي، وإنه أهداها نسخةً بخطِّ يده من قصيدته الشهيرة في العالم كله : " المدينة، التي يقول فيها - إنْ خرَّبْتَ حياتَكَ في هذه الزاوية من العالَمِ فهي خرابٌ أنّى حللتَ !
تمضي السيدة في القول : أنا استنسختُ " المدينة "، وها هي ذي أمامك !
اشتريتُ منها نسخةً . القصيدة بالإغريقيّة .
قلت للسيدة : أريد أن أرى منزلَ كافافي ...
( كان ذلك قبل أن تحوِّلَ القنصليةُ اليونانية بالإسكندرية، هذا المنزلَ، إلى متحفٍ لكافافي .
وصفتْ لي سبيلي، فمضيتُ .
هناك رقم 8 شارع لبسوس ( شرْم الشيخ ) حاليّاً .
ربما كان لبسوس اسماً لجزيرة من جزر البحر الهلّيني ...
هناك عمارةٌ قديمةٌ .
سلّمتُ على البوّاب . وأفهمتُه أني أريد أن أرى منزلَ كافافي .
بدا الضِيْقُ على وجه الرجل، وقال :
أنت أيضاً تريد أن ترى تلك الشقّةَ ؟ لقد تعبْتُ ! أتعلمُ أن شابّاً أوربيّاً زار الشقة قبل ثلاثة أيّام وخلعَ مقبضَ الباب، ومضى به . الآن يتعيّن عليّ أن أصلحَ الباب ...
قلتُ له : سأدفع لك ما يعوِّضُ ما ارتكبَه ذلك الشابّ . أريد أن أرى الشقّةَ !
أجاب متنهداً : يا سبحان الله ... هيّا .
ارتقينا سُلّماً عتيقاً، وبلغْنا الشقّة . دفع البوّابُ البابَ ، فانفتح َ .
بغتةً تجد تفاصيل الغرفة التي تحوّلتْ قصائدَ خالدةً .
هاهي ذي خزانة الملابس . وتلك هي المرآة، والسرير العتيق، والشّرفة الضيّقة المطلّة على شارع لبسوس .
المزهريةُ هنا أيضاً، وحاملُ الشموع . لكن الشقة كانت وجهاً لإهمالٍ ليس له مثيل . لم أقُلْ للبوّابِ شيئاً . كان إحساسٌ فادحٌ يستولي عليّ، حتى لقد شعرْتُ بدُوارٍ خفيف . غادرتُ المكان لأعودَ إلى الحانةِ الإغريقية، حيث السيدة العجوز، صديقةُ كافافي . سأشتري نسخة أخرى من " المدينة " ...
*
منزل كافافي
8 شارع لبسوس :
هل كانت اسكندريّتُكَ، البحرَ ؟ أم أنها الإستدارةُ، حيث يضيقُ الزُّقاقُ، وينتثرُ النورُ مثلَ حـــلازينَ مسلوقةٍ ؟ ربما كانت اسكندريتُكَ، البابَ، هذا الذي لا أراهْ . ربما كانت التمتماتِ التي ارتبكتْ في الشفاهِ، ولم تنطلِقْ ... ربما كانت المزهريّةَ أو شرفةَ القصرِ حيثُ الإله ْ كان يخذلُ أنطونيو ...
8 شارع لبسوس :
من أين جاءَ أغارقةُ الليلِ ؟ من أين جاءَ النبيذُ ؟ ومن أين هذا الغناءُ الذي يترنّحُ ؟ هذا البوزوكي المهشَّمُ ؟ هذا الهواءُ الذي هو هيهات هيهات هيهات، هذا الهواء الذي هو في هُوّةِ الآهِ آهْ .
8 شارع لبسوس :
أعتمت الشرفةُ ...
الغرفةُ انسحبتْ عبرَ مرآةِ دولابِها
والقميصُ يطيرُ إلى البحرِ
والبحرُ غابْ ...
..............
..............
فإنْ كنتَ أنطونيو، فانتظِرْ
قد يناديك عبرَ هشيمِ المرايا، إلهْ ...
----------
القصيدة كُتِبَتْ في تونس العاصمة بتاريخ 12.02.1990