تنتابني حالات من القلق المُعاند، ويُصيبني ارتعاش متقطّع في يدي، كلما سيطر عليّ هاجس الكتابة.. ولا تنتهي هذه الحالة إلا حين أضع أمامي الورق، وتُمسك يدي المرتعشة بالقلم.. فتهدأ لوقتها، ويبدأ شعورٌ آخر ينتابني هو إحساس الولادة.
سألت امرأة ذات مرّة عن كيف تشعر حين تلد كلّ مرة، وكانت امرأة ولوداً، قالت: هو إحساس لا يوصف، ربما هو شيءٌ من الألم والفرح، الحزن حدّ الصراخ، والفرح حدّ العويل، هو بين النشوة بقرب التمتّع برؤية الوليد، وهاجس أن تفقده في لحظةٍ ما، أن تتركه هامداً لا حياة فيه، أو يتركك وقد انفرجت أسارير من حولك.
ينتابني شعورٌ أُكابد كي أتخلّص منه، لأنّه يُصوّر لي الوليد القادم مسخاً أو هو أشبه بالهجين الذي تستنسخه المختبرات.. فيزداد دفق الدماء سريعاً، وتعلو دقات قلبي الضعيف، أكاد أُمزّق ما أخطّ، وأقذف بالقلم إلى الجدار المقابل، لكنني في النهاية أكتب ما يشغلني دون اعتبار لما يتملّكني من هواجس.
وأحياناً أطرح على نفسي السؤال، وأنا لستُ ممتهناً للكتابة الأدبية، هل هناك ثمة قوانين ناظمة لآلية الكتابة؟. وهذا السؤال بحد ذاته يطرح عليّ توتراً لازماً ما بين ماذا عليّ أن أكتب وكيف أكتب؟
يعتقد جان جاك روسو، بأنه بعد اقتناعه بالمخطط الذي وضعه، يعود للتفاصيل التي رسمها، ومن تنسيق تلك التفاصيل تولد الرواية.
ولكنّ الفرد دوموسيه في "المأساة" يرى في القواعد، عوائق مختلفة لزيادة الصعوبة "ولتعذيب" المؤلف وإجباره على عرض براعته، ويقول روسو: من غير المحتمل أن تكون عقول من طراز سوفوكليس وأوربيدس قد ارتضت به، ليصل إلى نتيجة حاسمة ترى بأن القواعد، ليست سوى حصيلة حسابات أجريت للوصول إلى الهدف الذي يحدده الفن لنفسه.
ويروي طاغور في ذكرياته أنه ذات مرة في قصيدة عنوانها "الهند آمناً" تعسّر عليه في أحد الأبيات أن يجد قافية مناسبة، فاستخدم "مرغماً" كلمة أخرى حملت "عناد" ضرورة القافية أمام كل براهين العقل.
ومع ذلك فإن طاغور نفسه، أقلع عن مراعاة قواعد علم العروض ووصف ذلك بالقول: "كنتُ أتصورني أرتكب إثماً بهذه الجرأة، لكن الآن لا أشعر بأي إثم.. إن الحرية تخرق القانون، ثم تُنشئ قانوناً تفرضه على نفسها. ذلك هو الاستقلال الحق".
وبوسع المرء أن يجول بين القواعد والطرائق في الكتابة لأعلام في الأدب والفكر في الفضاء الغربي والعربي، وبطبيعة الحال ليست سياحة مجانية في مؤلف موسوعي ضخم للفرنسي إيتياميل وسواه، ولكن القواعد أو اللاقواعد ربما كانت هاجس من يتصدى للكتابة الجديدة، ومن "يشذّبون حجرهم الماسي" قبل أن يبدؤوا الكتابة. ومقاربة أسطورتها الجميلة التي تمتص أحلامهم، ومن يجترحون من القلق شعرية صافية، مع الانتباه أن الكتابة في مستوى معين هي صناعة وتقنية، فهل تذهب أيها الكاتب، أيها المبدع إلى "رأس النبع" وهل تستغرقك الطريقة التي ينتظرها خطاب النقد، أم ستظلّ تُردّد مع جورج برناردشو، أن القانون الذهبي أن لا قانون هناك؟!.
هذا السؤال أعود فأطرحه على القراء والكُتّاب ، لنفتح ملفاً جديداً بعنوان: (كيف نكتب؟ ولماذا نكتب؟).