قبل تعريف الهندسة النفسية، لابد من الإشارة الى الظروف السياسية والإجتماعية التي مرت بها دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العقود الأخيرة فقد أحدثت تلك الظروف شرخا عميقا في التوجهات الإجتماعية والثقافية والتعليمية التي كانت سائدة لدى شعوب هذه المنطقة ردحا من الزمن مما جعل الفرد مجبرا ودون وعي أو إرادة، أن يعيد النظر في قدراته وثوابته وسلوكياته وتصرفاته وتوجهاته والتي سبق وأن إكتسبها عن طريق تفاعله مع بيئته التي ألفها وتأثر بها في بناء عادات وتقاليد وقيم ومباديء ضبطت وحددت مسارات الشخص في تعامله مع الآخرين سواء كانت على المستوى العائلي أو المستوى الأجتماعي في حياته اليومية .
ومن الطبيعي فإن الغرب يحاول أن يستفيد من كل الطروحات العلمية لتدعيم سياساته في التقدم الإقتصادي والسياسي حتى وإن أدت إلى إستغلال وتخلف الشعوب ألأخرى، وبعد أن رصد الغرب أن هناك مسارا قد بدأ في بلداننا والذي قد يغير التوجهات والقناعات لدى شعوبنا وبشكل بطيء وأنه جاء متوافقا مع تغير الماديات المتسارع في مجتمعاتنا والمرافق لإحداث الساعة ..
لقد ذكرنا ان الغرب يسعى للإستفادة من العلوم الجديدة لتقويم مواقفه مما يجري على مستوى العالم من أحداث والعلم الذي ارتكز عليه مخططو سياسة بلدان الغرب هو علم الهندسة النفسية، وهو العلم الذي يمد المخططين بأدوات ومهارات يستطيعون من خلالها التعرف على شخصية الإنسان وطريقة تفكيره وسلوكه وأدائه وقيمه والعوائق التي تعترض طريق أبداعه وهو العلم الذي يمد الممخططين بأدوات وطرائق تمكنهم من إحداث التغيير المطلوب في سلوك الإنسان وتفكيره وشعوره وقدراته فتعينه على بلوغ أهدافه .
(NLP )Neural Linguistic Programming ) الهندسة النفسية هو المصطلح العربي المقترح لما يطلق عليه والبرمجة هي طريقة تشكيل صورة العالم الخارجي في ذهن الإنسان واللغة هي وسيلة التعامل مع الآخرين أما الجهاز ألعصبي فهو الجهاز الذي يتحكم في وظائف الجسم وأدائه وفعالياته كالسلوك والتفكير والشعور.
ويرجع تأريخ علم الهندسة النفسية إلى منتصف السبعينات من القرن الماضي عندما رسم العالمان الأمريكيان الدكتور جون غرندر (عالم اللغويات ) وريتشارد باندلر (عالم الرياضيات) اصل البرمجة للذهن (Noam Chomsky) وقد بنى هذان العالمان أعمالهما على أبحاث قام بها آخرون منهم تشومسكي Milton Erickson والمفكر ألأنكليزي غريغوري باتيسون والخبير النفسي الدكتور ملتون أريكسون .Fritz Perls و العالم الألماني Virginia Satirوالدكتورة فرجينيا ساتير The Structure of وحينما نشر غرندر وساندلر إكتشافهما عام 1975 في كتاب من جزئين بعنوان خطا العالم خطوات كبيرة في الثمانينات وانتشرت مراكزه وتوسعت معاهدالتدريب عليه Magic في الولايات المتحدة الأمريكية كما أفتتحت مراكز له في بريطانيا وبعض البلدان الأوربية الأخرى ولا نجد أليوم بلدا من بلدان العالم الصناعي الا وفيه عدد من المراكز والمؤسسات لهذه ألتقنية ألجديدة .
أما الموضوعات التي يتناولها علم الهندسة النفسية فهي عديدة ومن بينها مسألة محتوى الأدراك لدى الإنسان وحدود المدركات كالمكان والزمان والواقع ( كما يفهمه الشخص) والغايات والأهداف المستقرة في أعماق النفس إضافة للتواصل والتفاهم مع الآخرين وإنسجام الإنسان مع نفسه والآخرين. ومن موضوعات هذا العلم كذلك الحالة الذهنية وكيفية رصدها والتعرف عليها وكيف يمكن تغييرها، ودور الحواس في تشكيل الحالة الذهنية، وأنماط التفكير في مجتمع ما، ودور الحواس في عمليات التذكر والإبداع ، وكيفية فهم ( إيمان ) الإنسان وقيمه وانتمائه وارتباط ذلك بقدرات الإنسان وسلوكه وكيفية تغيير المعتقدات الإيجابية إلى سلبية والعكس بالعكس، إضافة إلى الكيفية التي تم من خلالها إستخدام اللغة للوصول إلى العقل الباطن ( أو اللاشعور ) وكيف يمكن تغيير المعاني والمفاهيم .
ولا نضيف شيئا جديدا إذا ما أجزمنا بأن التشجيع من قبل الدول الغربية على الهجرة الواسعة والجماعية لمواطنين من بلداننا في فترة بالغة الحراجة لم يكن ( وكما يدعون ) بأنه متأت من دوافع إنسانية صرفة ومن خلال صورة طفل وجد غارقا على أحد سواحل البحار فمنذ عقود وبلداننا تعاني من فواجع إنسانية راح ضحيتها الآلاف، بل الملايين، ولم يذرف أي سياسي عربي دمعة واحدة على المشاهد الكارثية والتي شارك الغرب بشكل فعلي بالتخطيط لها وإفتعالها حتى أصبح الأمر علنا، مما لا يجهله أي شخص سوي .
لا أبتعد كثيرا عن جادة الصواب عندما أقول بأن الغرب درس الحالات التي يرغب من خلالها إعادة الهندسة النفسية لتحقيق غايات بعيدة عن أذهاننا حاليا ولكنها تحقق له أهدافا مرسومة عن طريق السيطرة على المشاعر والتحكم بطريقة التفكير وتوجيهها بالكيفية التي يريدها وممارسة التغييرالسريع لأي شيئ وللحالة ألتي يتوخاها للتأثير بالآخرين وسرعة إقناعهم .
وبسبب السياسات التنموية الخاطئة وإهمال التنمية البشرية من قبل دولنا، فقد استعملت المنظمات السرية المرونة في التعرف على الوسائل والسبل والقابليات التي إحتاجت إليها وشبابها لبلوغ ما كانت تبتغيه، وهذه ألوسائل والسبل والقابليات يدعوها علم الهندسة النفسية بـ ( الموارد ) والتي تعني إيجاد خبرات جديدة لدى الأفراد، أي الإستعداد لتغيير العادات والميول والمعتقدات . فكان ولابد من أن تكون لتلك المنظمات السرية ألمتحكمة بسياسات الدولة المرونة الكافية في وسائلها لتصبح قادرة على تغيير التفكير والسلوك والمشاعر في العقل الجمعي .
والتغيير في إتجاهات تفكير شباب هذه المجتمعات يتوافق مع تغيير العوامل التي كونت هذه القناعات الجديدة مثل إنخفاض المستوى الثقافي والتعليمي للفرد مما يجعله يعيد النظر في قدراته وسلوكه وتصرفاته التي سبق وأن أكتسبها من خلال تفاعله مع البيئة التي تأثر بها لبناء عادات وتقاليد وقيم ومباديء كانت قد أصبحت هي المحدد لمساراته في تعامله مع الأفراد الآخرين ومع مجتمعه .
وأخيرا نريد أن نؤكد بأن كل تغيير في القناعات والتوجهات توجد تجاهه رغبة فيه أو مقاومة ضده وقد تكون هذه المقاومة ظاهرة أو خفية والمطلوب منا جميعا معرفتها وإستمالتها وترويضها وعدم إهمالها كي لا يتعاظم ويزداد شرها خصوصا إذاما كان ذلك يتعلق بالقيم الثقافية والدينية والإجتماعية ومما يخيفنا اليوم هو توجسنا من خسارة أعداد هائلة من ألشريحة الفاعلة وألذين من ألمؤمل أن نعتمد عليهم مستقبلا في عملية النهوض بالمجتمع عندما تتوفر النيات الحسنة لدى النظم الحاكمة في بلداننا.
د. هاشم الموسوي
hashimmousawi@gmail.com
10/17/2015