كيف لك ان تقترب وتفهم، ومن ثم ان تعبّر عن مشاعر شخصية للذات العراقية في ثمانينات القرن العشرين التي حملت تهديما منظما للبنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عبر حرب السنوات الثمان؟ مثل هذا التساؤل راود، على الأرجح، كاظم الساهر، مغنياً وصاحب صياغات لحنية بارزة وهو يخرج شأنه شأن جيله الى وقائع حياتية، تكاد تقلل من الشأن الذاتي والشخصي أمام ضرورة تقديم "الموضوعي" و"الجماعي" فبلده كانت تخوض حرباً، والتعبير فنياً عن مشاعر الذات وفي شتى أنواع الفنون والآداب لا الموسيقى والغناء حسب، كان يجد الكثير من الصعوبات، فالوسط الغنائي والموسيقى كان قد "تأميمه" ليصبح مؤطرا بـ"المشاعر الجماعية الحماسية" التي وسمتها السلطة الثقافية حينها بـ"التعبوية" و"أغنيات المعركة"، وغيرها من التسميات التي رافقت ظهور نمط غنائي كان ينمو ويصبح تياراً كبيراً مع إستمرار الحرب وضغوط معاركها الكبيرة.
حينها كانت تضيق فسحة التعبير عن الذات الانسانية في إنشغالاتها البسيطة: علاقاتها بالمحسوسات اليومية وطريقة تعبيرها عن المشاعر وتحديداً "عواطف الحب"، وأصبحت أغنية ما تتحدث عن هواجش محبين وإنشغالاتهم أشبه بنكتة وسط أجواء تتحدث عن الهجمات المعادية والهجمات المضادة، عن القذائف والطائرات، عن المدفعية وأكداس العتاد، عن المواضع الدفاعية والربايا، الى غير ذلك من المصطلحات التي درج على سماعها العراقيون كل يوم وعبر وسائل الاعلام.
صحيح انه لا يمكن لاي حدث، حتى المرعب منها، أن يعطّل في الإنسان قدرته على تعاطي مشاعر المحبة، فالتاريخ الانساني يتحدث عن قصص حب، ظهرت ونمت فيما الحروب والنكبات تكاد تفتك بالناس، والأغنيات وسيلة راقية للتعبير عن الوجدان العميق، والأغنيات التي تستطيع إنجاز مهمة التعبير الوجداني، هي فقط الأغنيات التي تصدق المشاعر وتعتني بمهمتها على أتم وجه، فتحضر فيها الصياغات الشعرية الأنيقة والبناء اللحني الرصين والصوت الذي يجتهد في نقل المشاعر الذاتية أو التي تعلن عن حالة مشتركة بين فئات كثيرة من الناس.
من هنا بدأ في العراق جيل كامل يتفتح وعيه على قوانين الحرب ونتاجاتها الاجتماعية والفكرية وظواهرها التي كانت تضيق فيها الحياة، الحياة بايقاعها السلمي الهادئ المنطقي التطور. وافتقرت ذهنية ذلك الجيل "العاطفية" الى من يرافقها عبر الأغنيات والموسيقى، و لم يجد من يبحث عن بعض هدوء ضالته عبر أغنيات المعركة وحماسياتها المتكررة.
بعد منتصف الثمانينات، كانت مجموعة من المواهب الموسيقية والغنائية تنهي دراستها في معاهد وكليات الفنون والموسيقى، وبدأت تطالع الجمهور العراقي بلمحات جميلة في الأداء الغنائي. لمحات بدت خارج الايقاع التقليدي السائد للاغنية العراقية وعادت معها بعض العافية لأغنية عاطفية واضحة الملامح مكتملة الشروط الفنية تقريباً، واقترب منها مستمعون شبان…
تلك اللمحات أنتجتها ما تشبه "الورشة الموسيقية" التي وقف خلفها بدأب وجهد حقيقيين المطرب والملحن فاروق هلال، وكشفت عن مواهب جديدة كانت واحدة منها تشير الى كاظم الساهر: أبن مشاهد الحرب ونتائجها السوداوية، أبن تلك الفترة الحرجة الذي فاضت أحلامه واتسعت أكثر مما يحتمله إطار "التهذيب" الجماعي، فكان يبحث عن منفذ يتسع لافكاره وإحلامه وما عنده من فيض موسيقى حتى وجده لاحقاً.
بدأ الساهر بتسجيل أول أغنياته: صياغة لحنية ومهارة في الأداء الملون الطامح بميزة مختلفة، وتراكمت المحاولة إثر الأخرى، وباتت شفاه كثيرة ترده مقاطع من "يا شجرة الزيتون" و"عابر سبيل". والأغنية الأخيرة ولادة ناضجة ومكتملة في الصياغات الفنية، مع إنها من أيام الساهر الأولى، ومراجعتها نقديا تكشف عن كونها أغنية وقتها العميقة بامتياز، وهي تعبير عن اللحظة التي أنتجتها دونما إغفال القدرة على التعبير العميق موسيقياً وصوتياً وبما يجعلها مؤثرة في كل وقت، إنها تعبير عن هواجس الشاب العراقي، حيث القلق والتوتر يسودان الأيام المشتعلة حرباً وغيابات متكررة للإحبة والأصدقاء، والمطرب بصوته المشغول شجناً وندماً روحياً يصور شابا عراقيا يرثي وقته المبدد، فهو وحيد لحظة عودته من الجبهات الى بيته ومدينته، وهو شديد الوحدة حين يغادر لمحاته الحياتية الشخصية ليذهب الى إفق البارود اللامنتهي، بل هو يكتشف، أنه مجرد "عابر سبيل" في لحظة المكاشفة العميقة مع الذات.
وفي سنوات ما بعد حرب الخليج الثانية 1991 الأكثر بشاعة ودموية ودمارا لجهة الضربة القاصمة التي وجهتها لركائز الدولة العراقية وتشتيت البناء الاجتماعي عبر إنهيار شبه تام ولدته سنوات مابعد الحرب للطبقة الوسطى التي راحت تبحث عن ملاذ خارج البلاد، راحت "الغربة" و"الغياب" و"الفراق" كمفردات ومعان هي الأكثر حضوراً في أغنيات كاظم الساهر، وراحت الأشواق الى الوطن تتحول تمنيات بـ"السلامة" و"العافية" كأنها تحنو عى نفوس تكتوي بلظى الجوع، وصباحات البلاد ترسمها أجساد الاطفال الضامرة والمحنية والمعذبة.
الحب وان بدا إيقاعاً بهيجاً في اغنيات كاظم الساهر، تجذّر في رثاء غير مباشر لوقت الحصار والجوع، في "ندب" لطالما أجادته الشخصية العراقية وتوزع عميقاً في تراثها الروحي، لكنه هنا يوحي بمقاومة وعناد لهما علاقة بالأمل في صياغة صباحات أخرى، ان اغنيات للساهر مثل "رحّال" و"استعجلت الرحيل" تجمع بين معنيين وحالتين تشكلان وصفاً للعراقي أيام حصار بلاده وهجرات ابنائها، بل رسائله المتبادلة، بين "وطن" يتعذب على جمر و "غربة" تتسع وتأخذ أجيالاً الى أصقاعها.