إسطوانة "حبيبتي والمطر": حدث غنائي تلونه صياغات موسيقية بارعة
يبدو طبيعيا أن يتحول إصدار إسطوانة جديدة للمطرب كاظم الساهر الى "حدث" غنائي لافت، لما أستطاع الساهر ان يحققه من حضور عبر مسيرة غنائية – تلحينية، جعلته يقف في مقدمة منتجي الأغنية العربية المعاصرة .
سمعنا الكثير عن إسطوانة الساهر الجديدة، مرحلة الإستعداد، الإختيار، طبيعة الأغنيات، حتى ظهرت "حبيبتي والمطر" بتسع أغنيات، للشاعر الراحل نزار قباني حصة مميزة فيها ( خمس أغنيات بينها التي حملت الأسطوانة عنوانها ) .
ورغم الثناء والتقدير العاليين التي يتحدث بهما الساهر عن نزار قباني ومكانته الخاصة في تجربته الغنائية، إلا ان الحقيقة الفنية "الموسيقية" المجردة، تقول في ان الساهر تجاوز قيمة النص الغنائي – وإن كان من شعر نزار قباني – حين أبدع في صياغات موسيقية قد تصبح مثار خلافات ذوقية لكنها تشير الى موهبة لا تجارى وجرأة وتمكن .
الساهر وكاتب السطور
فموسيقى الساهر وأالحانه في هذا الشريط تسجل (نضجا) و (براعة) لجهة إعتبار الاغنية عملا موسيقيا وصوتيا قبل ان تكون (كلاما) وصورا شعرية تحملها المفردات الغنائية، بل انه يضيف على هذا الملمح : حضوره الصوتي مغنيا تعبيريا نادرا، يعرف أين يبدو مجروحا، وأين يبدو رقيقا؟ وأين يبدو عنيفا وغاضبا.
أولى الأغنيات جاءت بعنوان "التحديات" متلونة الأنغام والانتقالات اللحنية، ويغلف التوزيع الموسيقي الذي غلبت عليه آلات الاوركسترا الضخمة قصيدة نزار قباني بغلالة لحنية لا أبهج ولا أجمل، ولأن الموضوع يتحدث عن (تحديات) عاشق جديد لامرأة يراجع معها (سجلها) مع عشاقها السابقين، لذا كان طبيعيا أن نسمع الأغنية بحضور مميز للمجموعة المنشدة رجالا ونساء، فأظهرت أصواتهم مستويات عديدة للمشاعر، وهي تتحاور في تجاذب تارة، وإنفصال تارة أخرى مع الساهر وهو يعبٍر بقوة ولكن دون تشنج عن (تحدياته). ومن نهاية قوية يقول فيها "أتحداك" الى بداية رقيقة يوفرها لحن أغنية "حبيبتي والمطر" الذي جاء عبر حوارية ندية بين آلات هوائية خفيفة وأخرى وترية كأنها تنشد نشيد الندامى والحزانى، ولأن الأغنية عن محبة فياضة، لذا كان اللحن متدفقا إيقاعيا متناغما كما المحبة ذاتها، وكانت الجملة الموسيقية التي ينكسر فيها اللحن ليتحول من لحن تعبيري معاصر الى تطريبي عربي: يا للي بتلويحتها الاندلسية ودلالتها الرقيقة، أشارة الى فيوضات المحبة حين تندى في النفوس، لا بل الى حدود الجذل وقد وصلتها الروح.
http://www.aliabdulameer.com/inp/Upload/2161010_alsahir%20habibiti%20wal%20mater.jpg
وإنتقالا من هذا التعبير "الفصيح" عن الشوق والمحبة الى آخر بالخليجية الدارجة حمل عنوان "مشتاق" في أغنية كتبها طلال الرشيدي ولحنها وأداها الساهر باقتدار لا يبدو بعيدا عن اقتداره في أداء اغنيات "خليجية "ولكن من طراز خاص، كما في تجربته مع نصوص وضعها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بينها "إغسلي بالبرد"، وإذا كانت هناك ملاحظة على "الجو المحلي" الخاص لأغنية "مشتاق" فهي تتعلق بالتوزيع الموسيقي الذي اغفل الآلات الموسيقية الخاصة باداء الالحان الخليجية لا بل انه استعان بآلة متنافرة تماما مع بيئة الأغنية في الخليج فكان صوت آلة (البزق) في غير محله.
واذا كانت هذه الآلة تشير الى ملمح جغرافي محدد (بلاد الشام ) تحديدا وتركيا فهي لا تبدو مناسبة لقالب تلحين القصائد الغنائية، حين إستخدمها الموزع الموسيقي في ترجمة لحن الساهر لأغنية" التحديات" مثلما لا يناسبه اللحن الإيقاعي الراقص، وهو ما جاءت عليه أغنية "أكرهها" رغم التلوينات الجميلة في صوت الساهر وهو ينقل المشاعر الغامضة والمتناقضة عند (حبيب يكره)، تلك التي يعرف جيدا الراحل نزار قباني صياغة مفرداتها.
وباستخدامه جماليات التوزيع الموسيقي والإنشاد الصوتي وفق إسلوب (الكورال)، حيث أكثر من صوت يتداخل ولكن دون إضطراب بل في تناسق تام، يقدم الساهر أغنية "قولي أحبك"، وفيها نجد آهات الفرقة المنشدة وتنويعاتها الصوتية لتصل حدا تعبيريا ليس أقل مما بلغته الموسيقى، وحتى الكلمات التي بدت منتشية بذاتيتها، وهو ما اعتاده قباني "قاهر جيوش النساء" كما كان يحلو له أن يصف نفسه.
وينتقل المستوى التعبيري عند الساهر الى حدود النضج ما إن يبدأ السامع بالوصول الى أغنية "ممنوعة أنت" ورغم (نمطية) النص القباني، إلا أن الساهر بلحن غلب عليه الإيقاع والايماءة الصوتية أكان ذلك بصوته أم بصوت الفرقة الانشادية و(آهاتها) الشيقة، أحال النص العادي لقباني الى عمل موسيقي رفيع المستوى أين منه سذاجة كالتي ينطوي عليها شعر قباني حين يقول: "ان تضعي شيئا من الإحمر فوق الشفة الملساء ..أطلب أقلاما فلا يعطونني أقلام .. أطلب أيامي التي ليس لها أيام"، غير أن هذا الركام اللغوي الفاتر الحس، ينتفض في روح الساهر وموسيقاه وصوته المجروح بنداءات شوق بدت عاجزة عنها سطور شعر ( قبانية ) باهتة.
واذا كانت قصائد قباني بدت على مسافة مع الساهر وموسيقاه فان قصيدة "تعبت من البحر" للشاعر مانع سعيد العتيبة تتضمن بنية درامية – تصويرية متصاعدة وفرت للجانب التعبيري في لحن الساهر عمقا واضحا، جعلها واحدة من أغنيات نادرة تماما تحتاج منا وقفة مميزة لوحدها ( يجدها القاريء بعد هذه الفقرة)، فهي أغنية مهارية صوتية في الغناء مثلما هي أغنية لحن لا يضاهى وروح تعبيرية في مشهد موسيقي اقرب الى الاتقان.
* جزء من دراسة طويلة