القفزة المفصلية في تاريخ التخطيط العمراني، بعد ثلاث ثورات كونية مهمة
والعمل والترفيه والعبادة وغيرها وبراحة فسيولوجية نفسية وتوافق إجتماعي مع إحتياجات عصره، ويمكن إعتبار المعماري بطبيعته المهنية أو الثقافية وبقدراته التي وهبها الخالق له، هو الذي يستطيع أن يشكل البيئة العمرانية بأكملها والتي يعيش الأنسان بوسطها طوال اليوم، بل طوال حياته .
والمتتبع لحلقات التاريخ البشري يجد، بأن الطفرة الحقيقية للأنشطة الإنسانية، فد حققت تطورا هائلا من ناحية الكم والكيف في آواخر القرن الثامن عشر، ومع بداية الثورة الصناعية، لذلك فقد تميّز القرن التاسع عشر بعدد من الملامح الهامة التي تركت بصماتها على كتابات المفكرين والعلماء والمعماريين وإسلوب تفكيرهم وموقفهم من الحياة ونظرتهم الى المستقبل . ولقد جاء القرن التاسع عشر في أعقاب ثلاث ثورات كبرى هي : الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، ثم ما عرف عموما بإسم " الثورة الصناعية" .
أما الثورة الأمريكية، فكانت نوعا من التمرد على الدولة الأم، كما يقول "أبراهام " *
من شعب كان هو نفسه إستعماريا، فقد إستعمر المهاجرون الأوربيون أمريكا وإضطهدوا سكانها الأصليين من الهنود الحمر . وفرضوا عليهم كل صنوف الإضطهاد والإستعمار والإبادة . وقد أدت هذه الثورة الى قيام أول حكم جمهوري في العصور الحديثة، يقوم على المساواة، ويهدف الى تحقيق السعادة البشرية ويعتبر هاذين المبدأين مثلا أعلى إستندت إليه نظرياته وفلسفاته السياسية والإجتماعية .. وهنا بدأ التفكير بسياسات جديدة وتخطيط عمراني جديد للمدن التي أقيمت في أرض بكر وبأساليب غير تقليدية لا كما كانت تنفذ في بلدان القارات الأخرى منذ قرون .
وأما الثورة الفرنسية في عام 1789، فقد إتسمت كما نعرف جميعا بالعنف ، ولكنها مع ذلك قامت لتحقيق ثلاثة مبادئ إنسانية هامة هي : الحرية والأخاء والمساواة، وأفلحت في أن تترك أثرها واضحا وعميقا على كل النظم الإجتماعية والسياسية في أوربا و أمريكا . بل أنها أصبحت مثالا لأي ثورة تهدف الى إحلال نظام إجتماعي وسياسي محل نظام آخر , والى هدم الإمتيازات التي تتمتع بها طبقة معينة على بقية طبقات وفئات المجتمع . . نعم لقد نادت هذه الثورة بالحرية والأخاء والمساواة، وظهور حقوق الأنسان ممثلة بالعقد الإجتماعي . وقد تغير هيكل المجتمع لتنشأ طبقات قوية كالعمال والموظفين الذين نشأت لهم حقوق الدراسة والتعليم والعلاج والثقافة والترفيه، مما أثر على أشكال المدن وتخطيطها العمراني ووظائف المباني والتي تأثرت بزيادة الطلب على الخدمات والترفيه .
وأما الثورة الصناعية فهي تختلف عن الثورتين الأخريين، من حيث أنها لم تكن تهدف الى التخلص من نظام سياسي معين على أيدي فئة معينة من الناس، وإنما هي ثورة فريدة من نوعها، لأنها أدت الى تغيرات جذرية في البناء الإقتصادي الأساسي والإجتماعي لأوربا ثم بقية العالم . وقد تكون هذه التغييرات حدثت بشكل يكاد يكون غير محسوس في أول الأمر . ولكنها تسارعت بعد ذلك وأصبحت أكثر إتساعا وشمولا، وصحبتها تطورات هائلة في مجالي العلوم والرياضيات، وما إرتبط بها من إختراع الآلات التي حلت محل الأيدي العاملة البشرية والعمل الإنساني، أدت الى زيادة الإنتاج . وكان هذا كله إيذانا بظهور عدد من الكتاب والمفكرين والعلماء، الذين أعطوا كثيرا من الإهتمام لدراسة تلك التغييرات التي نجمت عنه، وظهرت بذلك أسماء، مثل "آدم سميث" و"آدم فيرجسون" و "سان سيمون" ، بل أنه يمكن القول بأن علم الإجتماع نشأ بشكل أو بآخر كنوع من الإستجابة لبعض المراتب العملية الناجمة عن هذه الثورات الثلاث .
وقد رافق هذا التقدم ،ظهور المواد الإنشائية الجديدة، التي مكنت الإنسان من تقليل مساحات مقاطع الأعمدة المصنوعة من الصُلب الى أقل من 1/200 من مساحة مقطع الأعمدة الحجرية في المعابد الفرعونية أ الإغريقية أو الرومانية . إن إكتشاف الحديد كان معناه تغيير في نسب الأعمدة وإمتداد المسافات بين الأجزاء الحاملة لأحمال السقوف والتوسع بالمسافات الأفقية والرأسية والزيادة في إمكانية الحصول على فراغات داخلية كبيرة بدون أعمدة، وقد ظهرت تطبيقات عديدة لهذا التقدم في أبنية السينما والمسارح والمعارض ومرآب السيارات وحظائر الطائرات وغيرها من الفراغات الإنتفاعية المستجدة في القرنين التاسع عشر والعشرين . وهكذا تطورت المنظومة الإنشائية في هذا العصر، وقد صاحب تطورها تقدم متواصل في عناصر الإتصال الرأسية والأفقية والميكانيكية والتي ظهرت مع أنواع جديدة من السلالم والأرصفة المتحركة والمصاعد الكهربائية، مما غير وجه العمارة المعاصرة بالكامل .. فقد أصبحت هناك إمكانية للإمتداد الرأسي للمباني، مما جعل مدن القرن العشرين تعتبر مدن رأسية مكتظة بالمباني العالية، وبهذا يمكننا أن نستنتج أن الإنسان قد إندفع لتطوير الوسيلة لحاجات ملحة تمثل أهدافه الجديدة في الرقي والتقدم . فقد خدمت التكوينات الأنشائية المتطورة إحتياجات معمارية مثلت منظومة قيمية حددتها الحاجة الجديد .
لقد كان للتطور التقني الذي شهده العالم دوراً مهماً في تطور تقنيات التصميم الحضري في كيفية النظر الى المنظومة الحضرية في المدن ومعالجتها, حيث عملت الوسائل الحديثة والتقنيات المتطورة والصور الملتقطة من الاقمار الصناعية على ايجاد نظرة محيطية واسعة وتصور للبنية العمرانية وشرايين الحركة ومنظومة الفضاءآت الحضرية المتغلغلة فيها, وتفاصيل الكتل العمرانية الحضرية وغيرها, الامر الذي ساعد كثيراً في تنظيم تلك البيئة الحضرية ووضع افضل الحلول لتطويرها ورفع كفاءتها.