الـعـقَـبـة

2014-08-12
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/9b53e1d4-5673-498a-88ce-497808baee31.jpeg

( 1 )

هي أيْلةُ التاريخِ
وهي الآنَ ، إيلاتُ ، التي جاءتْ بها الكبَواتُ واللهجاتُ
وهي ، بنُطْقِنا ، وغماغمِ استقتالِنا :
العقَبةْ
تشِفُّ ، كذرّةِ البلَّورِ أحيانَ اضطرابِ النبضِ
أرضَ مَقاتلٍ لصحابةٍ ومجاهدينَ
وواحةً مسكينةً للسِّدْرِ
درباً نحوَ مؤتةَ والشآمِ
ونحوَ أن تنداحَ موجةُ ذلكَ الرملِ المؤجَّجِ
ذِروةً
أو وردةً من وقْدةِ الصحراءِ
تندفعانِ أعلى ثمَّ أعلى
في الهباءِ تُدَوِّمانِ لترفعا مدُناً
وألويةً
وعشراً من قِلاعٍ
حيثُ تستهدي كراديسٌ مدجّجةٌ
نجومَ النقْعِ والصلَواتِ
..................
..................
..................
سوفَ يئنُّ لورنسُ المهشَّمُ عندَ إحداها .
*
ليس في القلعةِ أحدٌ / ليس ثمّتَ حارسُ آثارٍ / البحرُ وحده
/ والصيّادون تركوا زوارقَهم إلى المقهى /
الشمسُ تغرُبُ في إيلات / والقلعةُ العثمانيّةُ تسهرُ مرتديةً أسمالَها
الفاخرةَ / لا قذائفَ من مدافعَ قديمةٍ /
لا آثارَ رصاصٍ / الأسوارُ الخفيضةُ تنهدمُ باستمرارٍ /  وقريباً سوف
يعلو السورُ المرمَّمُ صقيلَ الحَجر /
المئذنةُ  صُبَّتْ كاملةً بالإسمنت / والمهندسُ لم يحفظْ حتى لآجرّةٍ
واحدةٍ  حقّهاَ في هواءِ
التاريخِ والبحرِ /سوف تكون المنارةُ أنيقةً في كامراتِ السوّاحِ الذين
لا يأتون / الهلالُ الجديدُ
ليس من الإسمنت / إنه من نحاسٍ سريعِ الصدأِ برطوبةِ الشاطيء /
القلاعُ لا تولَد مرّتَين ...


لنهبطْ ، إذاً ، إلى القاعِ .
الفرسانُ المسيحيّون ، ثبّتوا خطوتَهم الأولى إلى ما لن يبلغوه إلى الأبد :
مكّةَ  وشِعابِها.
المغيْرون المسلمون ثبّتوا في هذه القلعةِ الملتبسةِ ، خطوتَهم الأولى إلى
ما لن يتركوه أبداً :
بلادِ الشامِ وأشجارها .
الضبّاطُ العثمانيّون كان لهم هنا مفصلُ البحرِ والصحراءِ ،
والمدافعُ الأولى التي تدْفعُ عن طريقِ مكّةَ الطويلِ ، ما قد يقذفُ به البحرُ ،
المشهدُ واضحٌ ، واضحٌ كالسينما الوثائقيةِ ، وجارحٌ ،
إذاً ، لنهبطْ إلى القاعِ ...
لنضع الأقنعةَ والزعانفَ وحزامَ الرصاص
لنحملْ ، مثل جملَينِ ، غذاءَ رئتَينا
ولْننقذفْ في الأمواهِ العميقةِ
حيثُ الزُّرقةُ ساحلٌ .

منظر
نصفُ تفّاحةٍ يختفي هادئاً في الجبال
تاركاً في الخليجِ عموداً من النورِ
لا موجَ في البحرِ
لكنّ كلَّ السماءِ المحيطةِ بي
تنشرُ الآنَ قمصانَها الأرجوان
نصفُ تفّاحتي غابَ
لكنني مثل خيّاطةِ الحيِّ
ما زلتُ أطوي على ساعدَيَّ السماءَ
وقمصانَها الأرجوان .

          (2 )

لا بحرَ بينَ هواءِ مصرَ وبحرِها
لا بحرَ بين هواءِ جَدّةَ في الجنوبِ وبحرِها
إنّا تَوحَّدْنا ببازِلْتِ البراكينِ
التي اندفعتْ لتفصلَ قارّتَينِ
فوحّدتْنا
ثم دارتْ في مفاصلنا  ، لننساها
..................
..................
..................
ستُحْكِمُ شوكةُ الصحراءِ وخزتَها
لتبتعدَ البراكينُ
التي برَأتْ  من البازلتِ آلهةً
وماءً دافقاً
ومرارةً فيها تذوبُ الروحُ ...
تُحْكمُ شوكةُ الصحراءِ وخْزتَها
وتدفعُ سُمَّها فينا
فننسى كلَّ ما في الكونِ ، كلَّ علامةٍ في الكونِ 
إلاّها ...
دهب/ شرم الشيخ/نويبع / الغردقة /الدرّة/ عِيذاب / 
الأسماءُ تتخاطَفُ مثل أسماكِ البحرِ الأحمر /
تتخاطَفُ حتى تبْلغَ هَرَر ومُكَلأ حضرموت / تتخاطفُ حتى
تتمادى ... إلى صَحار ومضيقِ هرمُز
وبلادِ التاميل / تتخاطفُ حتى لَتتركُنا مدوَّخين / أسماءُ  وكواسجُ
ودلافينُ / وحوريّات بحّارةٍ ثملِينَ
بالخطرِ والعواصفِ /سيأتي حجيجُ مصرَ / ومن هنا ستحملُ الجِمالُ
الـمُرَفّلةُ كسوةَ الكعبةِ
التي كانت تُنسَجُ بأناةٍ غيرِ مصريّةٍ في متاهة القاهرة الـمُعِزّيّة /
" نحن مليئون بالسُّمّ "
يقولُ رامبو الفتى / مليئون بتاريخِ الأسَلِ والسيوف /
وهذه الجبالُ التي ترهِقُ أكتافَنا منذ ملايين
السنين / هذه الجبالُ السودُ / الجبالُ الورْدُ / الجبالُ الرملُ /
الجبالُ الجبالُ / من العقبة إلى عدن /
أيّانَ تهبطُ عليها ، كما في المطر ، قطرةُ ماءٍ ؟ / ما نحن بسكارى /
نحن مدوَّخونَ بتاريخٍ  لن يقرأه أبناؤنا /
مدوَّخون ببحرٍ هو جحيمُ البحّارةِ منذ قرونٍ /
سكّةُ الحديدِ اقتلَعَها البدوُ الـمُسَيّسون/
كما يقتلعون ضرساً مسوَّساً / والجِمالُ اشتراها متعهِّدو العساكر /
نحن لا نركبُ البحر /

ماذا نفعلُ  ،  إذاً ؟
ماذا تفعلين ، أيتها البدويّةُ ، بجَمالِكِ ؟ بالخِمارِ الـمُقَصّبِ
ومِشْيةِ الـهُوَينى ؟
وشفتاكِ الـمُسْوَدّتانِ المحمرّتانِ من لِحاءِ الجوزِ ؟
وثيابِكِ المـضوّعةِ ليلاً كاملاً بالبخور ؟
أنّى أذهبُ بكِ ؟
وأيّانَ الساعةُ التي سيدقُّ فيها قلبانا مثل مهراسِ البُنّ ؟
سأرسُمُكِ أيتها البدويّةُ " المزركشةُ كشجرةِ الميلاد " ...
سأرسُمُكِ ماثلةً على ناقةٍ أو كثيبٍ ،
سأرسُمُ صورتَكِ الفريدةَ ألفَ مرّةٍ ...
لأبيعَها إلى سوّاحٍ موهومين .

منظر

الفنارُ القديمْ
مُطفأٌ
لم يَعُدْ في صخورِ المواضعِ بحّارةٌ
وحدهُ الموجُ
يلمُسُ ، كالقطِّ ، كرسيَّ مقهى ،
دخانٌ من الضفةِ الثانيةْ
والسفينةُ تُقْلِعُ .
من زورقٍ يتخطّى الفنارَ القديمَ
شِباكٌ تدلّتْ ...

   (3)

سنُوقِرُ سمعَنا عمّا يقولُ البحرُ
سوف نُشِيحُ عن شمسِ الغروبِ
وملعبِ الأمواجِ ...
سوف نكونُ أتْباعاً لهذا أو لهذا
نكتفي من كل قافلةٍ
بـخُبْزةِ مَلّةٍ
وبتمرتَينِ ...
وسوف ننسى كيف نرسُمُ بالنجومِ فُجاءةَ الصحراءِ
والطُّرُقِ التي لا تنتهي ...
لا بحرَ يغسلُ منتهى أحلامنا بالملحِ والمرجانِ والأسماكِ
لا صحراءَ تُنْبِتُ وردةَ المجهولِ ...
صرنا بينَ مصطفِقَينِ ينطبقانِ
باعاً بعدَ باعٍ ،
كيف نُفْلِتُ ؟
كيفَ نُبْعِدُ أن تَعُدَّ عِضادتانِ
دقائقَ الرملِ الذي سيكونُ مثوانا الأخير َوعُشَّةََ العششِ ؟
...................
...................
...................
اختفى المرجانُ
واندفعَتْ سراطينُ الشواطيءِ نحو مأواها .

*

لا جمَلَ لدينا ولا سفينة/ لا خيمةَ ولا منزل / لكن لنا أن نسألَ عن المأوى/
والعقبةُ خاليةٌ على عروشِها / العشيرةُ أمسَتْ شيخاً /
والشيخُ في الحاضرةِ البعيدةِ /
كلُ شيء مؤجَّلٌ مثل ديونِ الجنودِ /
العقبةُ مؤجَّلةٌ / الحروبُ في الكتُب /
والسلامُ في الدفاترِ / ونحنُ : لا رَكْبٌ ولا بَحّارةٌ /
نحنُ في العقبةِ حسبُ /
علينا ، إذاً ، أن نختلقَ المأوى / ليكُنْ لَبِناً وصفيحاً / ليكنْ ألواحاً
ممّا ألقت السفنُ / ليكنْ حبالاً وأنسجةً مموّهةً / ليكن العراء ...
هكذا بنَينا ، نحن اليتامى ، العقبةَ الفقيرةَ ، مأوى ذا دروبٍ مُتْرِبةٍ 
ودكاكينِ فولٍ
وفلافل / لنا أيضاً مقاهينا / حيث الشاي ذو القروشِ العشرةِ / وورقُ اللعِبِ المهتريء /
سائقو الشاحنات والمهربون بين مرافيء البحر الأحمر
يسكنون أفئدَتَنا وحجُراتِنا العارية / أين سنذهبُ هذا المساءَ ؟
بار روميرو مفتوحٌ عند البحر /
حانةُ إلكازار أيضاً / وناصيةُ علي بابا / ثمّتَ مشاربُ سرّيّةٌ وفتياتٌ ـ إن شئتَ ـ /
أنت تفضِّلُ الشاي بالنعناع / نادي الغوصِ الملكيّ ( سوف يُباعُ ) أغلقَ أبوابَه في الرابعة /
لماذا تنظرُ إليّ بالنظرِ الشزْرِ ؟
أتقولُ إني لا أعرفُ كيف أقودُكَ ؟ / فلْنذهبْ إلى إيلات ...

*
الصباحُ في العقبةِ باكرٌ دائماً / ثمّتَ طراوةٌ وشجرٌ مبتلٌّ  برطوبةِ الليل /
والتلاميذُ في الشارع الضيّق / يحملون أرغفةً ساخنةً فيها حبّاتُ فلافل /
الـمَسْمكةُ تُعَلِّقُ  ( مثل الخراف ) أسماكَ التونة / والحلاّقون ينفضون عن كراسيّهم
ما تبَقّى من شَعرِ البارحة / فلاّحو العقبة ( مصريّون ) جاؤوا إلى السوقِ /
بالفجلِ الأحمرِ والنعناعِ والكزبرةِ / شارعُ الحمّامات لم يفتحْ مقاهيه بَعدُ .

*

الحيُّ القديمُ يضِجُّ الآنَ في حُمّى الهاجرةِ .
السلامُ عليكَ يا بنَ عبدِ الله ...

منظر

الجبالُ رماديّةٌ
غيرَ أنّ الرماديّ ينكشفُ الآنَ
أبيضَ / أزرقَ مثلَ الضّباب ...
النُّخَيلاتُ مزْرَقّةٌ هي أيضاً
وفي البُعْدِ
في أوّلِ الكونِ
يبدو السحاب ...

العقبة ـ عَمّان   12-16/1/2001




سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved