كاد عازف العود والمؤلف الموسيقي العراقي المقيم في اميركا منذ سنوات رحيم الحاج ان يحقق ما لم تتمكن منه اجيال من الموسيقيين العرب، حين تم ترشيحه العام الماضي لنيل جائزة "غرامي" الشهيرة والتي تعتبر "اوسكار" الموسيقى والالحان، وهي المرة الثانية التي يرشح لها بعد العام 2008 وخسرها عن فئة "موسيقى العالم" امام فرقة من افريقيا، لكنه عوضها بجائزة " جائزة فناني الولايات المتحدة".
الحاج المولود في بغداد قبل 44 عاما، عرف سلسلة من النجاحات عبر انتاج المزيد من الاعمال والمؤلفات وعزفها حية بين جمهور عدد غير قليل من المدن الاميركية او توثيقها في اسطوانات، كان اخرها "ارض صغيرة" التي جاءت في اسطوانتين مدمجتين، وقبلها كانت اسطوانته الجميلة "تحت ظلال الوردة" التي جمعته الى عدد من المؤلفين الموسيقيين الاميركيين بينهم عازف الغيتار والمؤلف اوتمار ليبرت، وثمة ايضا اسطوانة " اصوات بدائية" التي رشح لجائزة غرامي عنها وجمعته الى العازف والمؤلف الهندي امجد علي خان.
رحيم الحاج: ملامح شرقية وعربية منفتحة على العصر
وفي سلسلة اسطوانته التي توثق مراحل من سيرته الفنية والحياتية هناك اول اسطوانة له "بغداد الثانية"، "موسيقى عراقية"، "صداقة"، "حين تصفو الروح" و"الوطن ثانية" التي تحمل مؤلفات حملت مشاعر الحاج حين عاد الى وطنه العراق بعد سنوات في المنفى، ففي عام 2004، عاد إلى بغداد لتقديم حفل موسيقي في منزل أسرته، لكنه أوضح أن أصدقاءه الذين شب معهم أطلقوا لحاهم تدينا، وبدا عليهم عدم الارتياح إزاء عزفه الموسيقى، حيث يجري النظر إلى الموسيقى باعتبارها من المحرمات.
ذلك الشعور بالغربة وإن كان في الوطن هذه المرة، كان واجهه العام 1999عندما وصل الحاج الى جنوب غرب الولايات المتحدة كلاجيء سياسي، كان معدما ولكن مضيفيه اجروا ترتيبات ليحصل على عمل في مطعم من سلسلة مطاعم ماكدونالدز لكسب بعض المال. وشرح لهم الحاج الذي لم يكن يعرف الانجليزية انه كان في بلاده موسيقيا محترما لا يعزف عادة في المطاعم، لكنهم هزوا رؤوسهم باستخفاف. وبدلا من ذلك حصل على عمل كحارس أمن ليلي فتمكن من ممارسة العزف على العود الذي يعرف بانه أبو الالات الوترية كلها، وتعلم الانجليزية بدراسة ترجمة لكتابه المفضل للفيلسوف الالماني نيتشه، لكنه ظل خائفا من مواجهة سؤال يتعلق بمستقبله الموسيقي في الولايات المتحدة.
وجاء الجواب على سؤال كهذان عبر اول اسطوانة للعزف المنفرد على العود، كما عبر حفلات اقامها في عشرات المدن الاميركية، كان الحاج خلالها يحمل هويته الروحية والثقافية العربية حاملا هما خاصا اسمه كيفية الحفاظ على التراث الموسيقي العراقي الذي يخشى ان يكون مهددا بالفناء بعد اكثر من عشرين عاما من الحروب والدمار.
كما انه يبدو مرعوبا من التضييق اليوم على الموسيقى في العراق مشيرا إلى أنه اكتشف خلال عودته الى بغداد ان أحد صانعي العود الذين يعرفهم اضطر لممارسة عمله سرًا في ورشة صغيرة فوق سطح منزله. وفي صباح أحد الأيام، استيقظ الحاج داخل منزل عائلته على صوت ابنة أخيه تشدو بأغنية عراقية عاطفية شهيرة، لكن الكلمات تم تغييرها، بحيث لم تعد تتحدث عن الحب الرومانسي، وإنما عن الحرام والحلال وعن الجنة والخطايا، ما دفعه للتساؤل حول السر وراء هذا التغيير الذي تحولت معه الحفلات الموسيقية، التي كانت شائعة في وقت من الأوقات، إلى نشاط سري، وكيف ان معلمي الموسيقى من اصدقائه راحوا يتصرفون بحذر أكبر ويتوقفون عن الحديث عن دراستهم، و الزعم بأنهم يدرسون الرسم أو التاريخ أو اللغة إنجليزية بدلا من الحديث صراحة عن كونهم مدرسي موسيقى.
هذا الاحساس بالخوف كان خبره الحاج في عام 1991، عندما غادر العراق وعلى الحدود، صادر أحد الحراس آلة العود الخاصة به والتي كانت اعز ما يملك كونها من صناعة اشهر صناع الالة في العالم: محمد فاضل. وما يزال الحاج يتذكر أنه عندما رأى العود يختفي من بين يديه، انتابته رعشة وأصابه احساس بالمرض. ويؤكد "تلك هي أكثر لحظات حياتي حزنًا".
في اعمال الحاج الموسيقية لا تحضر الهوية الثقافية العربية والشرقية وحسب، بل المشاعر الانسانية من خلال مؤلفات غاية في الرهافة، تصور المشهد الانساني في تجلياته الواسعة، ففي اسطوانته "صداقة" هناك عمل لا تخفى ملامحه الشرقية الاصيلة ولكنه منفتح تماما على عصرنا لجهة التركيب والتصوير اللحني، والامر ذاته نجده حاضرا في عدد من مؤلفات اسطوانته "تحت ظلال الوردة" التي تقدمه، فضلا عن امكانياته عازفا على العود، مؤلفا موسيقيا منفتحا على هواجس العصر دون ان يتخلى عن هويته الثقافية والانسانية الاصلية.