عازف العود العراقي عمر بشير:
العود سلطان الآلات الموسيقية
آلة العود من الآلات الموسيقية الشرقية القليلة التي حافظت على وجودها من الاندثار، ربما لأنها تمتلك مقومات لا تقل عن الآلات الغربية كالبيانو مثلاً، وما زال يشتغل عليها أغلب الملحنين في الشرق، وهنا لا أنكر دور بعض العازفين الذين استخدموها كآلة صولو في الحفلات بجميع أنحاء العالم بل وعزفوا مع فرقهم الأوركسترالية كجزء لا يتجزأ من هذه الفرق، كتجربة عازف العود السوري جوان قرجولي مؤخراً مع أوركسترا تركيا في قطر، ومن الشخصيات التي ساهمت في الحفاظ على هذه الآلة «جميل بشير، منير بشير، عمر بشير» رغم أن الأخير قد درس الغيتار والبيانو لكنه بقي متمسكاً بآلة والده وعمه ويجول بها العالم، وقد صنع جدلاً حول أسلوبه في العزف حيث مزج الكثير من الموسيقا مع هذه الآلة وهو مستمر بذلك، وخلال مشاركته في أسبوع مار إليان الثقافي الرابع بحمص، التقت «جهينة» عازف العود العراقي عمر بشير ليتحدث عن إمكانيات آلة العود وعن تجربته ومدرسة والده في هذا الحوار:
في البداية حبذا لو تحدثنا عن مشاركتك في أسبوع مار إليان الثقافي؟
التقيت الأستاذ فادي عطية المنسق العام للأسبوع منذ عام في القاهرة، حينها عرض عليّ المشروع فوافقت خاصة وأن الحفلة ستقام في الكنيسة لأني أشعر أن للموسيقا شكلاً وطعماً آخر في هذا المكان. في أوروبا يقدرون الفنان الذي يعزف في الكنيسة ولا يستطيع أي فنان فعل ذلك حيث إن المكان يفرض نفسه بروحية خاصة. أنا سعيد بالمهرجان الثقافي الذي يرعاه المطران جاورجيوس أبو زخم.. هذا الحدث الذي ستستفيد منه الأجيال القادمة بكل تشكيلاتها، وللأسف مثل هذه الفعاليات الثقافية الجادة أصبحت قليلة، إذ تتبع أغلبها الأغاني الخفيفة التي لا تحمل موسيقا حقيقية.
هذه مشاركتي الأولى وسأستغل وجودي في الكنيسة لأهدي الحفلة لروح والدي منير بشير بمقطوعة «حب السلام» التي كتبها آخر أيامه وقدمها بكنيسة في هنغاريا والبرنامج عموماً أقرب للتصوف الروحاني ويبتعد قليلاً عن التقنية.
هل ما زال العود تلك الآلة التي تستطيع أن تعمل بمساحة واسعة في مجال التأليف والتلحين؟
العود بالنسبة لي سيبقى سلطان الآلات الموسيقية، لأني مع عودي يمكن أن أعزف على أي آلة في الغرب، وأراهن على دمج الموسيقا الشرقية والغربية من دون تشويه موسيقانا، وهذا ما فعلته خلال تجربتي مع هذه الآلة بل وأعطيتها خاصية وهذا من فضل منير بشير الذي أعطاني الكثير، حيث كان يردد مثلاً «العيب ليس من الآلة بل من العازف» وكان يضيف «على الموسيقي أن يتابع كل الموسيقا التراثية لكل الشعوب..» وانطلاقاً من هذا المبدأ أسمع الموسيقا الصينية والهنغارية والهندية بالإضافة للكلاسيكي الغربي، وأخذ من الكل الأشياء التي يمكن أن أستفيد منها على آلة العود وأقدمها بشكل لائق للأجيال الجديدة. لا أعتقد أن آلة العود ستختفي إلا إذا ركض عازفوها وراء الشهرة وانجرفوا مع التيار الذي يحاول القضاء على الأخضر واليابس...!!؟ ولذلك أحاول الآن أن أقدم التراث العراقي بأسلوب عصري، وحين قدمت أغنية «فوق النخل» مع البيانو أو الجاز أو الفلامنكو أو الآلات الهنغارية، خرجت بنتيجة جيدة وجميلة لأن التراث يسبقنا جميعاً في الإبداع. وهناك من انتقد أسلوب الدمج وجرده من شرقيته ولكن بعد مرور عشرين عاماً، منذ أن عزف منير بشير وقدم هذه التجربة أصبح كل عازفي العود يسلكون الطريق نفسه، كما انتقدوني عندما قدمت العود اللاتيني وعزفت مع الفلامنكو وحالياً أغلب العوادين يستخدمون مرافقة الغيتار.
ما قصدته هل تصلح آلة العود لكي تأخذ حيزاً في فرقة اوركسترالية كباقي الآلات..؟
أكيد، قدمت عام 1988 مع آغنيس بشير «زوجة جميل بشير» وهي روسية ومن كبار عازفي البيانو ومؤلفة موسيقية وأستاذة لأكثر خريجي طلبة البيانو في العراق، وتعيش اليوم في الأردن، عزفت خماسي مع كمان وبيانو وتشيلو وفلوت ضمن برنامج حمل مقطوعات لباخ، كما عزفت مع بيانيست في هنغاريا وفي فرنسا وسرنا ضمن المقامات المتعددة التي تمكننا من العزف لبيتهوفن ولباخ، لا أنكر أن لكل آلة مساحة معينة ليس في العود فحسب بل في البيانو أيضاً ولكن عند العودة للارتجال يظهر أن العود أكثر إمكانية من أي آلة موسيقية.
عائلة بشير أول من خرجت من سيطرة الموسيقا المغناة إذ حولتها إلى آلية صرفة.. كيف تتحدث عن هذه المدرسة؟
مدرسة بشير نقلت الغناء إلى الموسيقا وهذا معروف، فوالدي منير بشير وعمي جميل من مؤسسي فرقة المقام العراقي لفرقة ناظم الغزالي، وغنى ناظم مقام العجم مع عودهما، وأي موسيقي عراقي ينبغي أن يتعلم المقامات العراقية أولاً ومن ثم الارتجال، والأخير يجب أن يكتسب مع تراكم الخبرة، وعزف المقام اليوم ناجح أكثر من أي موسيقا عربية في حفلاتنا في الغرب، وللأسف المجتمع الشرقي ابتعد قليلاً عن الارتجال بسبب الموجة السريعة ودخول الآلات الغربية على الآلات الشرقية، رغم أن الجمهور الغربي يحب الاستماع لآلة العود.
ولا أخفي بأن هناك الكثير من العازفين يخشون المقامات وهذا نقص كبير لديهم وبالمقابل هناك بعض الفنانين تغريهم الشهرة ولا يسمعون الموسيقا العالمية ويعتبرون موسيقانا هي العالمية بذاتها وهذا نقص أيضاً، ومن عازفي العود من يعتمد على التكنيك في العزف رغم أن العود ليس تكنيكاً تقنياً فحسب حيث يجب على أي عازف أن يمتلك هذه الميزة ففي العزف يتعلم العازف التكنيك منذ السابعة من عمره، مدرسة البشير تعتمد على الروح والإحساس في المقطوعة الموسيقية بالإضافة إلى التكنيك والتقنية.
في معاهدنا الموسيقية تدرّس الموسيقا الغربية أكثر، وهناك بعض الآلات الشرقية تكاد أن تندثر كالبزق مثلاً، وبقي العود أكثر آلة شرقية حافظت على وجودها إلى الآن... لماذا برأيك..؟
لا أبالغ عندما أقول إن الكل يريد أن يكون مثل منير بشير، ويتوجهون للعود لأن منير صنع حالة عالمية منذ الخمسينيات حتى وفاته1997 وأعاد العود كآلة صولو، وبرهن أن هذه الآلة تستطيع أن تقدم كما البيانو يقدم كونشيرتوات، وعازف العود عندما يرى منير دخل العالمية بهذه الآلة، يريد أن يكون بهذا المستوى واختفاء بعض الآلات أتى لأنه لدينا عقدة اسمها الغرب، مثلاً عندما يريد الطفل تعلم الموسيقا، تشجعه العائلة على البيانو لكي تستعرض أمام الضيوف عزفه، وهذا نوع من المظاهر، دعيني أروي لك هذه الحادثة: مرة كنت في الأردن زرت أحد محلات الآلات الموسيقية ودخلت امرأة واختارت بيانو وطلبت أن يدهن باللون الأخضر ليلائم فرش بيتها، فتخيل كم عازف بيانو متمكن لا يملك نقوداً ليعزف على آلته، ويأتي شخص مشبع بعقدة الغرب يطلب أن يتم تغيير لون البيانو، لست ضد تعلم الموسيقا الغربية فأنا درست البيانو والغيتار ولكننا كشرقيين يجب أن ننحاز لآلاتنا كما الغرب، ليس عيباً أن ندخل الغربي على الشرقي، ولكن الخطأ أن ندخل آلة غربية إلى التخت الشرقي، الفرق السيمفونية الغربية لا تستخدم العود ولا الموسيقا الالكترونية بينما نحن نستخدم كل آلاتهم في فرقنا وبدأنا ننسى العود شيئاً فشيئاً ونستبدله بتقاسيم الكترونية محشوة في آلة الأورغ، هذه الآلة التي أعتبرها استعماراً على الموسيقا العربية.
هل تعتبر الأورغ غزواً لموسيقانا..؟!!
نعم وهذا كان رأي منير بشير أيضاً ورفض أن يوضع اسمه على مقطوعات على آلة الأورغ مقابل مبلغ مالي كبير.
دعني أسألك عن الفرق الذي تراه بين الأب والابن أي بينك وبين منير بشير..؟
بعد وفاة والدي، معلمي وعمودي الفقري، توقفت عاماً كاملاً عن العزف وبدأت بالتفكير كيف سأخلق عمر بشير في هذا الغياب وأحمل هذه المدرسة... حاولت تغيير تقنية الريشة وطريقة العزف بوجود بصمة منير بشكل دائم وهذا فخر كبير لي فغيري كان يتمنى الجلوس معه لساعة وأدخلت بعض الموسيقا الغربية التي لم يستخدمها منير في العود ودرست الموسيقا الكلاسيكية والغجرية وعشت مع الغجر في هنغاريا ورومانيا وتجولت في اسبانيا والهند ومن ثم العمل على الموسيقا الخاصة بي وعانيت أول عامين لكوني عمر منير بشير.
أصدرت سيدي الدانوب الذي احتوى الموسيقا الهنغارية التي أحبها وسيدي الأندلس ومن ثم سيدي المقام العراقي، وبعدها سيدي صوت الحضارات لتشكل نقلة في العود، حيث أدخلت عليه إيقاع الغربي والموسيقا الشرقية العربية والهندية وأتت أقرب للموسيقا التصويرية ولغاية اليوم تستخدمها بعض القنوات الفضائية وبعض الأفلام الوثائقية، ثم سيدي «العود الغجري» الذي شكل الأساس لأسلوب خاص بي وبعدها قدمت العود اللاتيني مع العود الشرقي مع موسيقا الفلامينكو والموسيقا البرازيلية والموسيقا الكوبية، كان لابد من أن أصنع شيئاً أكسب به جيل العود الجديد وفكرت كيف أستطيع ذلك وهم بعيدون عن الموسيقا الشرقية فدمجت الغربي والشرقي بطريقة تقنية راقية وبشكل مدروس فلم أعزف على العود شرقي وباقي الآلات تعزف لاتيني، فأول المقطوعات تقاسيم لاتينية على العود، كانت أغنية البنت الشلبية وهي من أعز المقطوعات لأن والدي قدمها مع فيروز في الستينيات.
على ما أعتقد أن مدرسة البشير استفادت من الفسيفساء العراقي بكافة ألوانه ولذلك تميزت.. أليس كذلك..؟
نعم، عمي جميل بشير كان يهتم بكل الموسيقا في العراق من شماله إلى جنوبه، حيث كان أول من دون بعضاً من الفلكلور الكردي العريق ومزج بين ألوانه.
وأخيراً هل أخذ عمر بشير من الفلكلور شيئاً...؟
أخذت الكثير من الفلكلور الشرقي عموماً والعراقي خصوصاً، من الشمال إلى الجنوب، فمن الشمال أخذت الموسيقا الكردية مثل «مقامات اللاوك والدبكات» ومن بغداد موسيقاها والمقام العراقي الذي يغنيه الرجال، ومن الجنوب الإيقاعات العراقية. ونملك في العراق أجمل أنواع الموسيقا مثل الموسيقا البدوية والشمالية والبصراوية وموسيقا الريف والمقامات والنايل والمقام المخالف الموجود فقط في العراق ومؤلف من خمس نغمات وليس من سبع نغمات, أنا مشبع بالموسيقا العراقية وأينما ذهبت أحمل تأثيرها معي بالإضافة إلى الغربي فأنا من أب عراقي عربي وأم مجرية وهذا هو سر التطعيم الذي أعكسه على الموسيقا