حين يمكن الإنصات والتمعن لأغنية الملحن والمطرب الراحل محمد عبد المحسن "يا بو المشحوف تانيني"، لا يمكن إلا التوقف عند أنغام بنكهة المدينة، مع ان النص الغنائي، يذهب الى أبعد من الريف، بل الى الأهوار في جنوب العراق وعلامة النقل الأبرز فيها: المشحوف، وهذا ما يمكن ان يضع لنا ملمحا أصيلا، في كيفية تطويع الأغنية البغدادية لكثير من الحالات التعبيرية التي تبعد عن أجواء المدنية بيئيا ونفسيا، وهي ان لم تكن قد نضجت وحققت ملامحها الخاصة ما كانت لتصل الى هذه القدرة التي تحققها أغنية من ولد العام 1928، وعاش في مناطق شعبية عدة من بغداد: محلة الشيخ عبد القادر الكيلاني، الفناهرة ( القريبة من الباب الشرقي ) في الرصافة، ومنطقة الشريعة في جانب الكرخ، وكانت لمعايشته هذه المحلات الأثر الكبير في تعميق الجانب المديني في ألحانه، لجهة التركيب والتعدد النغمي، ولكن بالانفتاح والاتصال مع العصر وأنغامه وثقافته، هو ما جعله يعبر المحلية الخانقة نحو آفاق تعبيرية أوسع .
والمثال الذي قدمه عبد المحسن في "يا بو المشحوف"، لجهة قدرة الأغنية البغدادية على تطويع البيئات الآخر والاتصال الحي معها، يتأكد مرة أخرى في عمله على بيئة مدينة الموصل الخاصة إجتماعيا ولهجة دارجة، فثمة " طيبة يا حبايب والله طيبة" و" أشكان الدلال". وهذا العمق "المديني" في ألحانه لكثير من الأصوات العراقية والعربية، وتلك التي أدّاها بصوته، لم يكن قد جاء إلا نتيجة إتصال معمق مع :
أولا: المقامات العراقية، إذ كان شغوفاً بأداء محمد القبانجي، حسن خيوكه، نجم الشيخلي، رشيد القندرجي، الراحل عبد الأمير الطويرجاوي الذي مزج بين الأداء المقامي والأطوار الريفية بذوق مرهف رفيع، وأداء مطربة العشرينيات وما تلاها في القرن الماضي، صديقة الملاية .
ثانيا: عبر الآلتين الساحرتين تلك الأيام ( النصف الأول من القرن العشرين ): الراديو، ثم الغرامفون، عرف عن قرب غنى ألحان فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب والأخوين رحباني لاحقا، فضلا عن صوتين هزّا مشاعره وخياله اللحني بقوة، أم كلثوم وأسمهان، الى جانب إعجاب خاص لصوت فيروز، والذي قد يكون وراء تلك النعومة الآسرة التي تميزت بها بعض ألحانه ومنها : "سلّم.. سلّم بعيونك الحلوات"، الذي أدّاه بصوته أولا ثم صار أكثر إقناعا في عاطفته، حين غنته المطربة أمل خضير التي أدّت أيضا رائعته "أحاول أنسى حبك".
ثالثا: المعرفة والتنوير الثقافي، وهو امتياز قد يكون اشترك فيه معظم من شكلوا ملامح الأغنية البغدادية، ففي مقتبل شبابه، دخل صاحب لحن "دويريتك" الذي منحه لصوت المطرب ياس خضر، معهد الفنون الجميلة ودرس الموسيقى على يد الأستاذ الشريف علي، وكذلك الفنان علي الدرويش، ثم التقى بالراحل روحي الخماش الذي أخذ بيده، وتعلم منه قراءة النوطة الموسيقية، حتى حانت فرصة اللقاء بعميد المعهد ومؤسسه، الشريف محيي الدين حيدر، الذي كان كريما معه بدروس العزف على العود فضلا عن معرفة الموسيقى بوصفها ثقافة ومنهجا تربويا ومعرفة للحياة .
رابعا: إذاعة بغداد ورصانة قسمها الموسيقى، فهو دخلها منشدا في "الكورس"، كما هي حال مجايليه: خزعل مهدي، عدنان محمد صالح، حمدان الساحر، جميل جرجيس، جميل قشطة، محمود عبد الحميد، محمد نوشي، داود العاني، أحمد الخليل وغيرهم .
ظهر في ربيع بغداد ومات مع بدء خريفها
مثلما كان ربيع بغداد الحقيقي، قد بدأ بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كانت قد إنفتحت لكثير من المعارف والآداب والعلوم والفنون، كان ربيع جيل كبير من موسيقيي العراق ومطربيه ومطرباته، قد بدأ في أرجاء العاصمة التي كانت تسهر بأناقة وجمال ساحر، وتغتني من إتصالها مع الثقافة الغربية المعاصرة، ومن بين أبناء ذلك الجيل من البناة والمؤسسين والروّاد، كان المطرب والملحن محمد عبد المحسن، الذي غنى له، فضلا عن العراقيين، الكثير من الأصوات الغنائية العربية، ومنها: مها الجابري، سميرة توفيق، رندة، مها صبري، سحر، مصطفى كريدية ونصري شمس الدين.
ولاحقا، صار عبد المحسن، شاهدا على بدء مواسم خريف بغداد، مثلما كان شاهدا على ربيعها، ففي صبيحة الثالث والعشرين من شهر نيسان 1983، كان صاحب لحن "يا حسافة"، يهمّ بدخول مبنى الإذاعة والتلفزيون، حتى انفجرت سيارة مفخخة في أول هجوم إرهابي يعرفه تاريخ العراق المعاصر نفذه معارضون للنظام السابق، لتصيب عبد المحسن بجروح بليغة، حتى وافته المنية في اليوم التالي، في وداع لبغداد التي كانت قد اقتربت هي الأخرى من ميتات تالية، عبر حروب وقذائف و"مفخخات " كالتي قتلته، ستمتد من أوائل ثمانينات القرن الماضي حتى يومنا هذا .