إنه تراث جبلي عريق، أنه لون موسيقي ضارب في الاعماق بخصائصه الاجتماعية والروحية والثقافية، حيث جسد تفاعل مبدعيه طبيعة اليومي المعاش بكل مظاهره وطقوسه، وبالتالي جعلها تتناغم في السرد الشعري والأنغام والآلات الموسيقية والرقصات .
إنه لون موسيقي تراثي راسخ، بكنوز مضامينه التي عبَّرت بعفوية عن وجدانِه وبتفاعلِه مع المنتوج الحضاري وشكَّلَ الهوية الثقافية الحضارية المغربية في جذورها العربية والإفريقية والأندلسية، والتي تِرجمتْ الإنفتاح والتفاعل والإندماج الذي طبعَ تاريخ الإستقرار السكاني في المغرب .
يسمى بالعيطة الجبلية، تلك التي جسَّدت الحياة اليومية للمواطنين في المنطقة، منطقة الجبال، وعكست ما ساد من العادات، اللغة، اللباس، والرقصات التي كانت توَظفْ في أفراحهِم وفي اليومي بكل تفاصيله الصغيرة والبسيطة، وطقوسه الإحتفالية المتجددة في تاريخ المغرب وفي جغرافيته المتنوعة والمتعددة ضمن تعبيراته الثقافية .
وكما جاء في كتاب الباحث عبد العزيز إبن عبد الجليل "مدخل إلى تأريخ الموسيقى المغربية أن العيطة هي غناء يبتدئ بنداء، وتتخلله في اللوازم نداءآت، إلى جانب كونه غناءاً مركباً لا يحتمل الجزء الواحد ـــ والمقصود هنا ميلوديا واحدة وإيقاعاً متشابهاً وبحراً من البحور ــ إذ غالباً ما يتغيّر اللحن في الجزء الثاني، وكذا الإيقاع والبحر الذي يطول أو يقصر، فقد يصبح بسيطاً أو متوسطاً . والعيطة أشبه ما تكون بالقصة المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادات، ويهيمن عليها الإرتجال الحر حيث يزيده الناظمون ثراءً ونماءً، ويفرّغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح، وما يجيش في نفوسهم من أماني وأمال، حتى يصبح من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة .
تعود جذور هذا اللون الغنائي إلى ما قبل دخول الإسلام المغرب، وهو غناءٌ جماعيٌ مبنيٌ على ما يسمى بالحوار الشعري المرتجل، والذي كان يقوم به شخص واحد من المجموعة التي كانت تضم فريقاً من الرجال في فترات معينة ومناسبات محددة كالحفلات العادية مثل : حفلات النصر – الزواج – العقيقة، وهذا اللون من الغناء كان يستعمل الحركات الجسدية أكثر من غيرها، وهي التصفيق باليدين والتوقيع بالقدمين، عكس الأنواع التعبيرية في شمال المغرب – جبالة – حيث يستعمل الغناء والتطريب لتقريب المتلقي إلى فهم الموضوع الذي تحمله الأغنية .
وعند دخول الاسلام إلى المنطقة، عرف المغرب مرحلة انتقالية غابت خلالها مظاهر الغناء والإحتفال بالطريقة التي كانت من قبل، من رقص وإشراك المرأة في المجموعات والفرق، خاصة في العهد الموحدي، المتزامن مع دخول قبائل الهلاليين، حيث أثر ذلك تأثيراً كبيراً في تضييق نطاق الموسيقى لما ساد من التدين والتقشف ومقاومة ما تعارف عليه ب"المناكر"، بما فيها من آلات اللهو التي كان المهدي بن تومرت يأمر أصحابه بتكسيرها، مثل ما فعل في فاس . ومن أبرز الشواهد على هذا أن الجيش الموحدي نفسه لم تكن تذكر فيه أي اعمال موسيقية .
وكما تذكر العديد من المصادر فان الغناء الفردي بالمغرب لم يعد للظهور إلّا بعد مرور مرحلة زمنية، مصاحَباً بآلات موسيقية، غالباً ما كانت في أول الأمر نوعاً من أنواع "الليرة" بحيث ثبت عند المراكشي في مؤلفه "المعجب في أخبار المغرب" أن الهلاليين لما جاءوا إلى المغرب أدخلوا معهم الآلات التي كانوا يؤدون بها مجموعة من الملاحم الشعرية الفصيحة، في وقت كان الطرب الشعبي يعتمد على أغاني مغربية ينشدها بعض المغنين في المحافل والأسواق . بعد هذه الفترة بدأ الغناء في الظهور بشكل أكبر وأوسع حيث شاع وارتقى لاستماع الأمراء، إضافة إلى دخول الموسيقى التي استقدمها الأندلسيون معهم، والتي ولع بها الخلفاء .
وإن كتاب "مدخل إلى تاريخ وفنون المغرب" يسجل، بأن دخول الهلاليين إلى المغرب رافقه ظهورآلات جديدة، حيث وصفت مسيرتهم نحو المغرب في حدود سنة 1170م بأنهم : كانوا يسيرون على إيقاع الطبول ونغمات الغيطات . ومن ثم فإن السياق الوصفي يدل على أن هذه الآلات كانت مما يستعملونه في حروبهم وغزواتهم، وهي ذاتها اتخذها الموحدون من شارات ملكهم إلى جانب الألوية والآيات القرآنية، وقد سجل ابن خلدون في ذلك : أن العرب كانوا منذ أن انتقلت خلافتهم ملكا يتخذون قرع الطبول والنفخ في الغيطات في مواطن حروبهم ومظاهر أبهتهم . أما الآلات المستعملة في الغناء المغربي ( فكانت محصورة في : الدف – أكَوال – الليرة – أبو قرون ) .
تتألف الأغنية الجبلية من قسمين :
1) الريلة : موضوع الأغنية الذي يجب وصوله إلى المتلقي حاملاً معاني الحالات النفسية والروحية ورموزها، مثل الفرح والحزن، والسعادة والألم وغيرها من جهة، وأخبار المعارك والحروب والإنتصارات والهزائم من جهة ثانية، والتغني بجمال الطبيعة والغزل من جهة ثالثة؛ ثلاثة محاور تناولتها الطقطوقة الجبلية كصنف من أصناف العيطة ( أي النداء للاستماع والإنخراط في أطوار الأغنية ومراحلها، غناءاً وعزفًا ورقصًا ) .
2) التعريضة : اندماج كلي بين كل العناصر المكونة لهذا الحدث الفني، أي دخول المتلقي كلياً ضمن المرحلة الأخيرة للأغنية، ختامها يكون عادة تعبيراً بالرقص الفردي أو الجماعي .
وتتفق بعض الدراسات، كما بعض المعلمين، على أن للأغنية الجبلية ثلاثة محاور هي :
أ ـ الفراش : وهي الطقطوقة الموسيقية التي تسبق الأغنية، والتي هي نداء إلى المتلقي لدخول إطار الأغنية، وإثارة الإنتباه، ومن خلال هذه المقطوعة يمكن معرفة الأغنية التي ستغنى لاحقاً .
ب الغطاء : قلب الأغنية التي تحمل بين طياتها خبراً مبطناً لحدث اجتماعي أو ثقافي أو فني ذي دلالات عاطفية – طبيعية – تاريخية .
ج الحساب : المرحلة الأخيرة من أطوار الأغنية، حيث تكون قد استوفت شروط التبليغ والإخبار، ثم انخرطت فردياً أو جماعياً في لحظة اندماج كلي للتطيب والإنتعاش الشعوري الذي يعبر عن الفرح والسعادة .
والمناطق الجبلية بالمغرب تختزن طاقات إبداعية كبيرة فمدينة تاونات الشمالية أصبح فيها هذا الفن علامة من العلامات المهمة التي طبعت بتراثها الجبلي العريق، وتشكلت فيها فرقاً تتبارى في تقديم هذا اللون كلٍ باضافات تناسب المواسم والطقوس، ومن بين أشهر الفرق فرقة نجوم الفرح للفنون الشعبية الأصيلة براسة الفنان المقتدر( عزيز الزوهري ) وكذا فرقة سبت السمارة برئاسة الفنان ( عبد الجبار ) ثم جمعية عشاق الغيطة الجبلية برئاسة الفنان ( التهامي هيلال ) وفرقة يوسف الزوهري ...
ومن خلال حوارنا مع فنان العيطة المتميز عزيز الزوهري رئيس فرقة نجوم الفرح للغيطة الجبلية بتاونات استطعنا أن نقف على دلالات هذا الفن وأهميته :
عزيز الزوهري
- ماذا تعني لك العيطة الجبلية ؟
فن العيطة هو جزء أساسي من ثقافتنا المغربية المتنوعة، فالإنسان الجبلي منذ القدم. يعبر عن ما يحس به من انتماء لهذه المناطق المتميزة بهذا اللون الغنائي الخاص، لذلك رغم دخول بعض الأنواع المختلفة، فانه بقي متميزاً وحاضراً في جميع المناسبات، فتجده في الأعراس والمناسبات الدينية، والمناسبات الوطنية والمهرجانات، كل هذا يجعل العيطة تحافظ على مكانتها المتميزة .
- كيف كانت بدايتك ؟
بدأت سنة 1977 ، وكان عمري آنذاك سنة 13 سنة، بدوار رياينة بقبيلة بني وليد بإقليم تاونات . اقتصرت بدايتي على العمل المحلي فإشتغلت في الدواوير ( الأحياء ) المجاورة، لكن بعد ذلك بدأ نشاطي يتسع وانتقلت من جماعة إلى أخرى ومن عمالة إلى أخرى، حتى أصبحت أُدعى الى الحفلات في جميع مناطق المغرب ومن المحطات الخالدة بالنسبة لي مشاركتي في حفل زفاف الأميرة لالة مريم بفاس والأميرة لالة أسماء بمراكش . وقدمت عروضا فنية خارج الوطن كمشاركتي في فرنسا .
عزيز الزوهري مع مراد الحجاجي
- ما هو مستقبل هذا اللون في رايك ؟
ليس هنالك أي نظرة تفاؤلية، ودائماً نشعر بالخوف من انقراض العيطة لأنها لا تحضى باي إسناد وعملنا يقتصر تقريباً على فصل الصيف مما لا يعتبر دخلاً كافياً للعيش فينصرف عن ممارسته الكثيرين حيث يصعب عليهم الإستمرار..
- ماهي المشاكل التي تواجهها فرقتكم ؟
ان المشكلة الأساسية هي الدعم، فإننا نفتقر إلى إسناد المؤسسات، لذا فان موردنا الأساسي للعيش هو إحياء حفلات الأعراس والمهرجانات، فالمشكلة أننا نعاني من الإقصاء، رغم أهمية ما نقدمه في الحفاظ على لون تراثي يعتبر من أهم الألوان الغنائية الأصيلة ..
واخيراً ماذا تريد أن تضيف ؟
اتمنى أن تكون هنالك خطوات للمحافظة على هذا التراث الشعبي الأصيل الذي يمتاز به إقليم تاونات، بدعمه ورعايته، كي لا يكون مصيره الإنقراض .