ف
ي أعقاب تواري البابا جوزيف راتسينغر، أكان ذلك جراء إقالته القسرية أو بموجب استقالته الطوعية، اتخذت الكنيسة الكاثوليكية منحى مغايرا في التعاطي مع العديد من القضايا. لم تعد الصورة الإعلامية المروَّجة للبابا الجديد صورة ذلك الفيلسوف المتجهّم الذي يقارع فطاحلة الفلسفة (حوار راتسينغر مع هابرماس)، ولا صورة ذلك المتهجّم على الأديان الجامحة (قدح راتسينغر في الإسلام في راتيسبونا)، ولا أيضا ذلك المشهِر سيف الحرمان في وجه كل من تسوّل له نفسه بشقّ عصى الطاعة عن روما (حِرْم لاهوت التحرر في أمريكا اللاتينية). غدا البابا في نسخته الجديدة بشوشاً وديعاً عطوفاً، متقفّيا أثر البساطة الإنجيلية؛ لكنها بساطة تبدو رهينة الميديا ومن صنعها، ما قد يضفي على ذلك المسلك طابع الرياء، الذي طالما حذّر منه المسيح (ع) في تقريعه للمرائيين.
ولكن بعيدا عن التصنيع الحثيث للصورة الإعلامية للبابا، يدرك المتحكمون بمصير الكنيسة أن مجال البابا السابق المحبَّذ كان الصراع الدغمائي العقدي، وهو ما وزّعه بالتساوي على المسلمين والعلمانيين. ومع البابا الحالي هناك رغبة في التخلي عن ذلك التهوّر، وسعي لقلب ذلك المسار وتحويله إلى تناصت وتثاقف. ربما من يتابع غزل الحوار الجاري في إيطاليا هذه الأيام، بين أحد كبار العلمانيين اللاّأدريين، الصحفي أوجينيو سكالفاري، والبابا فرانشيسكو، يعي هذا التحوّل السلس في استراتيجية الكنيسة، طمعا في إصلاح ما أفسده راتسينغر.
لكن لِنسلّط الضوء على مسألة المصالحة في مجال محدد، مع لاهوت التحرر، لماذا يأتي هذا الخيار في الظرف الراهن؟ في الحقيقة ثمة تهديد واضح للكاثوليكية في جنوب القارة الأمريكية متأتّ من التيارات البروتستانتية الناشطة، ومن الجماعات الإنجيلية تحديدا. ما عادت الكنيسة التقليدية في نسختها الرومانية قادرة على صدّ الزحف، بعد الاكتساح الهائل لجنوب القارة من قِبل الكنائس العملاقة -megachurch- الوافدة من الشمال، من أمريكا، بكافة عتادها وتحفزها. فبعد أكثر من أربعة عقود من مناهضة روما للاهوت التحرر، واتهامه بالنزعة اليسارية والماركسية، تبين لها أنها أخلت الساحة إلى غيرها. فلاهوت التحرر لم يتنكر يوما لعمقه الكاثوليكي، لكنه رفض إلحاق المسيحية بالآلة الرأسمالية. كما أن لاهوت التحرر ليس بناء نظريا صيغ على الطاولة، بل هو لاهوت سِياقي وليد أوضاع أمريكا الجنوبية، وهو كذلك تقريع أخلاقي ونقدي للرأسمالية بصفتها نظام حيف وجور، وبصفتها شكلا من الخطيئة البنيوية. إغناسيو إلاّكوريا أحد منظري لاهوت التحرر يتحدث عن "شعوب بأسرها مصلوبة". صحيح أن لاهوت التحرر لم يناصب الماركسية العداء، وإن مثلت أحرج المسائل المطروحة في القرن العشرين أمام المسيحية، ولكن الليبرالية الجديدة، بالنسبة إليه، أكبر فضائح القرن الواحد والعشرين، لأن "كل التقدم الحاصل في العالم لا يساوي آهة من آهات امرئ جائع" على حد قول ديستوفسكي.
فمن "مجلس مراقبة العقيدة" الذي تولى مهامه جوزيف راتسينغر، حين كان كردينالا وقبل اعتلائه سدة البابوية، تسلّط الحرمان على كثير من رموز لاهوت التحرر، لعل أبرزهم البرازيلي ليوناردو بوف؛ من ذلك المجلس أيضا تأتي المصالحة، بسعي من جرهارد لودفيغ مولر رئيسه الحالي. فبعد أن كان اللاهوت الثوري مُدانا بدا على لسان مولر "من أهم اللواهيت الكاثوليكية في القرن العشرين".
خلال شهر سبتمبر المنقضي أفردت "الملاحظ الروماني"، صحيفة حاضرة الفاتيكان، صفحات عدة للحديث عن هذه المصالحة، بعد خمس وأربعين سنة من الخصومة مع روما، أي منذ انعقاد مؤتمر 1968. فمع البابا فرانشيسكو، ثمة نية بين صنّاع القرار في الفاتيكان لإقرار خطاب تعدّدي متنوع داخل الكنيسة، بعد التصلّب الذي ران. تم الاحتفاء بهذه المصالحة عبر مؤلف مشترك بعنوان: "في صفّ الفقراء. لاهوت التحرير، لاهوت الكنيسة" (2013) لرئيس "مجلس مراقبة العقيدة" جرهارد لودفيغ مولر واللاهوتي البيروفي غوستافو غوتيراز، أحد الآباء المؤسسين للاهوت التحرر، ليختتم الاحتفاء باستقبال غوتيراز من قبل البابا فرانشيسكو في الحادي عشر من سبتمبر.
ولكن لفهم الخيار الحالي للبابا، لا بد من وعي الصلة التي ربطت الرجل بلاهوت التحرر. بدءا، فهذا اللاهوت هو حركة واسعة، وهو بالفعل لواهيت شتى تتوزع على بلدان عدة، مثل الأرجنتين والبيرو والبرازيل والسلفادور والشيلي وكوستاريكا والمكسيك والأوراغواي. وما "لاهوت بويبلو"، الذي انتمى إليه برغوليو (فرانشيسكو) بزعامة مؤسسه لوشيو جيرا، سوى فصيل من هذه الحركة الواسعة. فقد أصرّ لاهوت بويبلو على خيار موالاة الفقراء، وإن كان على حذر من تحويل الكنيسة إلى مجرّد وكالة للخدمة الاجتماعية. وضمن ذلك التنوع الذي ميز لاهوت التحرير يندرج انضمام الكردينال برغوليو، الذي بات اليوم البابا فرانشيسكو؛ لكنه ينحو منحى التحليل التاريخي الثقافي، بدل التحليل النقدي البنيوي ذي النزعة الماركسية. وطبيعي أن ينزع البابا الحالي هذا المنزع، وهو المتحدر من بلد تتجاوز فيه أعداد الفقراء، أو بالأحرى المفقَّرين، 30 بالمئة.
لاهوت التحرير دعا روما، منذ أمد، إلى المصالحة مع ذاكرة جنوب أمريكا (مراجعة تاريخي الاستعباد والاستعمار وتورّط الكنيسة في الإثمين)، وإلى الخروج من معايير المسيحية الغربية المرسملة. لأنه ليس بمقدور المرء أن يكون مع الفقراء ما لم يكن مناهضا للفقر، على حد قول بول ريكور. إذ مناهضة الفقر ليست فورة حماس ديني خاطف، بل هي معرفة ببناه الاقتصادية والثقافية وبالأدوات المولدة له.
في الكتاب الذي سبق ذكره يشنّ شيخ لاهوت التحرر غوستافو غوتيراز حملة شعواء على العولمة، التي تبدو بريئة، وهي تستبعد السواد الأعظم من البشر من المنافع الحاصلة، بعد أن حوّلت الملايين إلى كائنات "جيتابل"، "استعملْ وارْمِ". فحالة التفقير اليوم -وفق غوتيراز- بمثابة الوثنية الجديدة التي تستدعي تأملا لاهوتيا صادقا، بصفة اللاهوت هرمنوطيقيا أمل.