البكاء على أطلال شارع المتنبي

2020-02-16

اعتدنا منذ ان شببنا على حبّ القراءة واقتناء الكتب ان نخلق علاقة حميمة بيننا وبين الكتاب، وكم سهرنا الليالي الطوال ونحن نضمّ هذا الصديق الأليف بين صدورنا ونقلّب أوراقه ونتلذذ بتصفحه وكأن شميم ورقه يشبه أنفاس حبيبةٍ تختلط بأنفاسنا ونأخذه بالأحضان وهو يغذّينا وعياً وثقافة وتهذيبا .

إلاّ اننا الآن بدأنا نتآلف مع كيبورد اللوح الألكتروني رغم سكونه الفجّ وبرودته، وغداً او بعد غد سوف ننسى ارتعاش الروح في الكتاب الورقي ونفتقد الإحساس الجميل والتفاعل الحميمي الذي يبعثه الورق فينا .

هذا الكتاب الذي نحبه ونعشق إضمامته إلى صدورنا سيودعنا إلى غير رجعة في غضون السنوات القليلة المقبلة ويؤذن بالرحيل عاجلا وسوف يسلّم عهدته الثقافية إلى صديقنا الجديد الكتاب الألكتروني لتختفي الأوراق  والمحابر والمداد وتتراءى لنا الشاشة في اللوح الألكتروني بدلا من الصفحات الورقية ومجلّدات الكتب التي أفرغت جيوبنا وأخذت مساحات ليست قليلة من بيوتنا على شكل مكتبات ذات رفوف قد تصل إلى السقف لكنها ملأت عقولنا ثراءً معرفيا .

غير اننا الآن نستطيع حمل مئات الكتب ونضعها في لوح إلكتروني لا تزيد مساحته سعة حقيبة يدنا وربما تندسّ في جيب بنطالنا  قطعة فلاش تحوي خمسة إلى عشرة كتب وهي بوزن قطعة نقدية معدنية، وقد نشتري  حزمة من الكتب التي تفوق الألف ببخس ثمن وأقل من سعر كتاب او كتابين ورقيين غاليين بحيث لا نُفرغ جيوبنا من مال قد نحتاجه لإدامة صحتنا وترتيب حياتنا المعيشية وبنفس الوقت لا نثقل بيوتنا بمساحات ورفوف عالية ومكلّفة لتسكين الكتب الورقية .

ولا أغالي لو قلت إن المكتبات الكبيرة في بناياتها والتي كنا نرتادها في بغداد مثل المكتبة الوطنية والمكتبة المركزية وحتى المنتشرة في الأحياء، او القريبة من الجامعات سيتم تحويلها الى أغراض أخرى بما في ذلك المكتبات القائمة في الشوارع الثقافية حيث ستتحول إلى محلات صغيرة لبيع مستلزمات العولمة الألكترونية بدءاً من الفلاشات الصغيرة جدا والأقراص المدمجة والتلفونات والألواح الألكترونية والمطابع وغيرها .

سنقول لاحقا وقريبا جدا وداعا أيها الناشرون لا لقاء بعده  بكم، فقد أرهَـقَـنا جشعكم المالي ومللنا مواعيد عرقوب التي صارت لازمةً في أحاديثكم وأضاليلكم ووداعا آخر لزيارة معارض الكتب فلم تعد أقدامنا تحثّنا على ضرورة الحضور إليها واقتناء ما نريد وسوف نشتري الكتاب الذي نودّ اقتناءه  من معارض الأمازون  والنيل والفرات وغيرها الكثير الكثير ونحن نتكئ على سريرنا دون ان نحث الخطى إلى مكتبات المتنبي والنهضة والمثنّى والتحرير ومكتبة فلسطين  ودكاكين سوق السراي التي بدأت تمتلئ بمستلزمات الكتاب الألكتروني .

ألا ترون معي ان غالبية زوّار متنبي بغداد هذه الأيام لم تعد تعنيها شراء الكتب الاّ النزر اليسير جدا، وما زياراتهم المتكررة  أيام الجمعة خاصةً إلاّ للتنزه في أثَـرٍ وإرثٍ يوشك ان يزول ويغلق أبوابه كما غلقت أبوابها صحيفة الأكسبريس الأميركية مؤخرا واحتجبت عن الصدور ورقياً ووخزت قرّاءها كلاما لاذعاً في عددها الأخير قائلةً : نتمنى ان تستمتعوا بلوحاتكم الألكترونية الحقيرة .

قريبا سنهيئ قصائدنا نحن الشعراء الحزانى فاقدي الكتاب الورقي الصديق الأوفى وسوف نطبعها في تلفوننا الذكي ونقرأ شعرا في باحة وحدائق " القشلة " لنرثي الكتاب؛ تماما كما كان أجدادنا الشعراء الأوائل يبكون على أطلال حبيباتهم . فمَن يراهنني على يقيني الأكيد ؟؟ .

 

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved