بعيدا عما تثيره موجة التحضير للإنتخابات الحالية في بلادنا من تساؤولات كثيرة ، منها مثلا : من أين تأتي مصادر التمويل ، وهذه الميزانيات الضخمة التي وظفت للدعاية الإنتخابية ، والتي وضعت تحت أيدي أناس كانوا بالأمس لا يملكون شروى نقير.. ؟ وربما يكون الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام صحيحا ، بأن أحد المرشحين للإنتخابات ، كان قد دفع لإحدى الفضائيات أكثر من مئتي ألف دولار لدعاية تم بثها لفترة قصيرة ( تضحية منه وتعبيرا عن حبه للشعب الذي يستقتل من أجل خدمته) .. وكما رأينا وإستمتعنا بأساليب أخرى، قلما شاهدناها في دول أخرى أو حتى في بلادنا طوال تاريخه الطويل .
ولكني هنا أريد أن أنقل صورة أخرى عما كانت عليه الدعاية الإنتخابية على أرض الرافدين في عصور ما قبل التاريخ ، فلنأخذ مثلا الأسلوب الذي إتبعه "حمورابي" في خاتمة شريعته ، عندما كال المديح لأكثر عدد من الآلهة حسب تحالفاتهم مع المدن المختلفة . ففي الوقت الذي إستعمل "لبت عشتار" ذلك الأسلوب مبينا نفسه كأحسن حامي و حليف للمدن التي ذكرها ، فإن "حمورابي" قد تجاوز إسلوب" لبت عشتار" بأضعاف مضاعفة .. وهذا ما أجده كالدعاية الإنتخابية التي يمارسها المرشحون اليوم لكسب الناس و ضمان الأصوات . .. سأحاول أن أقدم مقطعا مما يقوله "حمورابي " في مقدمة شريعته :
(عندما قام الإله المتسامي ، ملك النوناكي والإله أنليل سيد السماء و الأرض، مقرر مصائر البلاد بالقضاء لمردوخ الإبن البكر للآلهة أينكي ، أن يتمتمع بقدسية الإله إنليل على كل البشرو جعلاه عظيما بين الأيكيكي و سمى بإسمها العظيم )... ... بعد أربعة سطور يذكر : ( سمياني بحمورابي الأمير التقي الذي يخشى آلهته ، لأوطد العدل في البلاد ، ولأقضي على الخبث والشر) ... ... بعد سطرين ... ... يذكر : ( الذي كرس وقته لمعبد الإله ايسكالا ... الذي أنجبه الإله سين ، الذي جعل مدينة بابل تزدهر ، التقي المتضرع الذي جلب الخير الى معبد ايكش نوكال ,,, المطيع لإله الشمس العظيم مثبت مدينة سبار ... الخ) ... ويستمر بعدها لأكثر من 60 سطرا يكاد لا ينسى فيها مدينة وإلها بدون مديح .ويصور نفسه كإبنها البار .. ( طبعا يعني إبن تلك المدينة وحاميها فالإله يدل على هوية تلك المدن ) .. ثم يختتم بسطرين : ( عندما أرسلني الإله مردوخ ... وضعت القانون و العدالة بلسان البلاد لتحقيق الخير للناس ) . ولكن بعد هذه النصوص الترغيبية ، تبدأ أولى رشقلت التهديد والوعيد ، وأوامر الإعدام والحرق والخزق . فهناك الخاتمة التي يمتدح فيها نفسه ويبين إنجازاته في حوالي 70 جملة .. ولكنه شيئا فشيئا يزيح القناع الحريري وتبدأ رشقات الترهيب واللعنات في حوالي 65 سطر ، كهذه العبارة : ( عسى الآلهة كراك إبنة الإله آنو ، شفيعتي في معبد إيسور أن تبتلي أطراف من يخالفني بمرض عضال ، و وباء خفيف و جرح لا يشفى ... ... ) .
وبهذا نعتقد بأنه منذ تلك العصور بدأت الحلقة المفرغة من النقاشات ، التي تفضي لمعنى واحد ، ألا وهو ، إن تنتخبني ، فستباركك الآلهه ، وإما إذا خالفتني فستنزل عليك لعناتها .
وهكذا إنتشرت لدينا اليوم نداءات التخويف والتخوين لبعضنا البعض وعلى حساب إنسانيتنا .. دون أن نعي بأن كل البرامج وحتى الشرائع التي شرعناها ، ما هي إلا وسائل صنعناها بأيدينا ، وأحيانا عقدناها بمقدار عقدنا النفسية و الإجتماعية ، ثم جعلناها غاية بحد ذاتها فتقاتلنا عليها وعبدنا نصوصها ونحن خائفين .