النسخة الالكترونية ألتقطتها : الثالثة عصرأً بعد قيلولتي في 13/ تموز/ 2017 فطوقتني من الصفحة الأولى للصفحة الأخيرة بياسمينها حتى السابعة والنصف مساءً . عدت ُ من بحر الروم ودخلت صمتا وأحتسيت شايا ثم قهوة وبحثت عن روايات لهذا الروائي الساحر الدكتور أيمن زهرى الذي قادني ضجري إليه بالمصادفة .. وها أنا أكسب صديقا ولو من طرف واحد .. سحر هذه الرواية ليس بأوجاعها / أوجاعنا العراقية : فقط .. سحرها بأقتصادها الأسلوبي الرشيق .. وشحنة الغواية العالية بتنويعاتها الصوتية المكثفة .. والتغذية النصية المبطنة في تلافيف النص الجوانية فالمؤلف وبشهادة مدونة بقفا الكتاب ( كاتب هذه الرواية باحثاً متخصصا في مجال السكان ودراسات الهجرة ) وشاهد العدل هنا ( صلاح عبد التواب ) ..
(*)
التنموية السردية تتوزع بين ثلاثة أصوات :
*الصوت الأول من بداية الرواية (ص7) إلى (ص12) : لهذا الصوت وظيفة المناصة السردية التي نعبر من خلالها لمهيمنة الروائية وسينضم الصوت إلينا نحن القراء ويصغي معنا ويتذاوب بيننا مع توغلنا في النص ..
*الصوت الثاني من (ص13) إلى (ص41) : هذا السارد اسمه صابر هو الناجي الوحيد من هذه القرية ربما أعانه اسمه على النجاة من الغرق بشهادة المثل القائل ( كل بني آدم له من إسمه نصيب / 52 ) ..
*الصوت الثاني بسرد جواني مصحوب بزمن نفسي / 43) ثم يستعيد الصوت الثاني رحلته الجماعية بصوتها الميداني الجماعي
* الصوت الثالث من 54 إلى ص55
*صوت رابع من ص55 إلى ص58
*عودة للصوت الثالث من ص59 إلى ص60 ولاتخلو نهاية كلام هذا الصوت من فعل استباقي
*العودة للصوت الثاني (ص61) إلى نهاية الرواية (ص78)
ولكل مهاجر حكاية شفهية سيرويها
*حكاية عبده المحلاوي
*حكاية الشيخ جعفر الجعلي
*حكاية الأستاذ عمر ويطلقون عليه الجبرتي
*حكاية ياسر خريج كلية الآداب
*حكاية سعيد المنحدر من أفقر العائلات .
*محنة شرقاوي قائد المركب
(*)
بعلامتين يستقبلنا السارد ( إتّشحت القرية بالسواد وعم بيوتها الحزن ) العلامة الأولى توسق البراني من الأشياء في الفضاء النصي العام : السواد .. أما العلامة الثانية فهي خصوصية الفضاء الجواني : البيوت .. المكان هو قرية وادعة في أحضان الدلتا .. أما السواد والحزن فكلاهما من ( الفاجعة الكبرى التي حلت بهذه القرية ) والفاجعة هي :( فقدت القرية اربعة من أبنائها في عرض البحر أثناء محاولتهم الهروب إلى إيطاليا إنطلاقنا من مدينة زوارة الليبية ) ..
والهجرة هنا تختلف تماما عن ( موسم الهجرة إلى الشمال ) هنا لايوجد مصطفى سعيد المحظوظ إمبرياليا وليس هذا هو الإختلاف الوحيد . ثمة تبابين في الماء، فمصطفى سعيد يتذاوب مجازا وأستعارة في النيل في تلك الليلة .. لكن الغلابة المصريين فيموت كرهاً مرتين ولاتابوت سوى ماء البحر المظلم الغلابة المصريين القتلى، أشتركت في قتلهم منظومة دولية بدءا بالسمسار الذي يطلي فاصل الإعلاني بإنظمة السلوك الجمعي ومرورا بالمهربين الذي يجمعون المسافرين كما يجمعون البهائم/ ص49 ويقترن بإطعامهم حتى تقل أوزانهم وهكذا يسع المركب أكبر عدد من الركاب / ص50 وإنتهاء بالحكومات العربية كلها التي تذل المواطن في وطنه فيحاول المواطن المضنوك أن يتحرر من عبوديات كثيرة متوسلا : اللجوء إلى هناك ليصاغة يوتوبيا صغيرة بمقاس أحلام العائلة ..
(*)
الفرق بين ( موسم الهجرة... ) و( بحرالروم ) هو المتغيرات السياسية في المنطقة العربية في عصر الجمهوريات بقيادة العسكر .. حيث دخلت الرواية العربية ومنذ سنوات طورا آخر من علاقتنا بالغرب ..لاعلاقة لها بروايات ( عصفور من الشرق ) ( الحي اللاتيني ) ( موسم الهجرة إلى الشمال ) ( الأشجار وأغتيال مرزوق ).. في هذه الروايات سيتم ( تجنيس العلاقات الحضارية ) والعربي سيقصد الغرب كنسخة منقحة من رفاعة الطهطاوي .. أولا العربي يقصد أوربا بتأشيرة حكومية فهو يمثل دولته كطالب دراسات عليا .. والغرب كان ينظر في الغالب لهذا الطالب العربي من خلال لوحات الرسامين الأوربيين الذين دخلوا إلى الشرق من بوابات الحمامات النسوية أو من خلال عيون الحيوانات النافقة أو البشرة السوداء للعبيد وسراويل الراقصات الشفيفية أما في المرحلة الثانية : ( الحب في المنفى ) ( خرائط الشتات ) ( بحر الروم ) ( إرتطام لم يسمع له دوي ) ( هولندا لن تثمر رطبا ) ( طشاري) ( الحفيدة الأمريكية ) ( النقطة الأبعد ) ( عندما تستيقظ الرائحة ) سنكون مع جهوية جديدة للتعامل مع الغرب، فالذين يقصدون الغرب في هذه الروايات يبحثون عن رغيف خبز نظيف وصيانة كرامتهم ولايفكرون في أغلب الأحيان بالعودة أو يعودون لأوطناهم وهم يحملون جنسية المنفى الذي أحترمهم .. وقد يعودون جثثا إلى مقبرة وطنية ..!!
(*)
في ( بحر الروم ) علينا أن نتملص من منطوق النص السردي ونتمعن عميقا عميقا جدا في آيدلوجيا الرواية .. فالأبطال هنا هم ضحايا الأنظمة العربية وتحديدا هم ضحايا عسكرٍ أسقطوا الأنظمة الملكية وبعد فورة ٍ واحدة، صار جلادنا الضباط الأحرار الذين طوقوا الشعوب بخديعة أمبرطورية القومية العربية، ثم تساقط العسكر في وحل شعاراتهم الزائفة .. تساقطوا بعد أن ضاقت السجون العربية بالمساجين والسجانين : وبشهادة الروائي بهاء طاهر .. ( أنا ناصري، لكنيّ دوما أقول أنّ النظّام الناصري كان عاجزاً، بل وأفسد كثيرا مِن الحياة السياسية في مصر... أخفق ، جمال عبد الناصر،، في إنشاء حزب حقيقي قوي يعبّر عن الناس، فلا ،، الاتحاد القومي،، ولا الاتحاد الاشتراكي،، استطاعا أن يسدا الفجوة السياسية التي بات حجمها مهولا، بل كان انصراف الناس عن المشاركة في كل تغيير سياسي دليلا على فشل النظام في تجميعهم سياسيا. / 109- 110/ بهاء طاهر- السيرة في المنفى ) ..
(*)
هنا الكوميديا الدامية : منقذة الضحايا وسيدة النجاة .. ويا للأسف ستكون الدول الأستعمارية التي ضحينا سنوات طويلة للتحرر منها !! ..في رواية ( وطن من زجاج ) للروائية الجزائرية ياسمينة صالح – بعد سنوات من جبروت العسكر ومذابح المتأسلمين – نرى الجزائريين يتزاحمون أمام باب السفارة الفرنسية للحصول على تأشيرة دخول !! وهنا تتساءل أحدى شخصيات الرواية ( كيف نحب ُ وطناً يكرهنا !! / ص7 ).. وفي ( امرأة من رمل ) بغضبة ٍ دامية تعلن الشاعرة العراقية بلقيس خالد في قصيدة ( وطن وامرأة ) :
( هذا الذي تحت نعلي ... وطن
قدمت ُ له الرجال
قدمني إلى حوصلة البؤس
حين أحببت ُ وطني ...
منحني كل سواده ِ
وأخذ مني سواد العين
هذا الذي تحت نعلي
وطن ..
حين أرتوى من الدماء
صار مسرحا : على خشبته
يتناثر..
رماد النساء )
(*)
الفلاحون الغلابة يشعرون الوطن : مذلة كبرى ( نحن لانهاجر، نحن نهجر بلادنا فرارا من مرارة العيش ولكن لايحلو لنا عيش فيما عداها ../ 29 ).. والمنافذ أصبحت قليلة أو معدومة ( لقد سدت الأبواب في وجه العمالة المصرية في الخليج وأصبح الحصول على عقد عمل في هذه الدول شبه مستحيل ../ 27 ) .. والتوجه نحو أوربا أنفع أقتصاديا وأوسع إنسانيا ( سنة واحدة في أوربا أبرك من عشر سنين في الخليج، وبعدين الشغل في أوربا أحلى وأجمل ) ثم ينتقل الكلام نحو جهوية التبادل الأخلاقي مع آخرين يتصفون بالتمايز الطبقي الاستعلائي في البلاد الريعية الأقتصاد ( والمعاملة هناك أفضل بكثير من معاملة دول الخليج الذين يحسبون أنهم إشترونا بمالهم ).. والصوت هنا يمكن اعتبار صوت الجيل الثاني من المهاجرين فهو يخاطب الجيل الأول ( أحلام الشباب تعلقت بإيطاليا، مثلما تعلقت أحلام جيلكم بالخليج وجنة الخليج والدينار والريال والدرهم ../31 )
(*)
خطاب السمسار: مفلّق مرّغّب بطلاء حيادي، يبرأ نفسه من أي مسؤولية شخصية، مستعملا مثلا شعبيا متداولا لدى الشعوب العربية ( أنا مش مغسّل وضامن جنة ) وبالعراقي نحن نقول ( أمغيسل وضامن الجنة ).. لكنه لايجرد نفسه من أفعاله الخيرة في هذا السياق ( صحيح أنا ساعدت ناس كتير في البلد وفي الناحية كلها ومنهم ناس كتير أنتم تعرفوهم . أحوالهم دلوقتي ماشاء الله ).. ثم يعود بطريقة ملتوية ليحدد دوره الحيادي في هذه الصفقة ( وبعدين أنا ما إلا وسيط خير ) !! ثم تبدأ الخديعة التجارية البشعة ( والراجل الليبي بشتغل معاه راجل مسنود وواصل وعمر ماحد يجرؤ يعترض له مركب .. ) مابين القوسين هو الباث الأقوى مؤثرية في قلوب المستمعين للسمسار .. فهو لم يخبرهم بما سوف يعرف قارىء الرواية وهو أن الذين سيكونون في المركب أكثر بكثير من الرقم المطلوب وأن أحد الركاب سيتوجونه ربانا !! سيعطونه بوصلة ويعلمونه كيف يقرأها في ليل وموج البحر!! ويعطونه موبايل ليتصل بهم عند الضرورة القصوى !! كل هذه الجريمة الجماعية ضد بشر لاحول لهم / لهن ستغلّف بتوكيل إلهي !! ( ودي قسمة ونصيب واللي ربنا رايد له بلقمة طرية بييسرها له ) .. ثم يبدأ الأغراء الأكبر إقتصاديا ( إحنا بناخذ أقل سعر، خمستاشر ألف جنيه لحد ماتركب المركب ونجهزها لك وبعد كدة إنت ونصيبك ../ 34 ).. في كلام السمسار الكثير من مفتريات السرد المغوي .. وحين نواصل حراثة سرد الرواية سيتفتت الإفتراء من خلال الناجي ( صابر ) الذي شحنته فاعلية أسمه بالنجاة من الموت المحتوم في بحر الروم .
(*)
مقارنة بروايتيّ (الأرض) و(الفلاح) للروائي عبد الرحمن الشرقاوي . فالقرية التي تجري فيها أحداث رواية ( بحر الروم ): جردها السارد من مؤثرية الفضائيات والإنترنيت والموبايل: يرد ذكره مرة واحدة على لسان السمسار الوافد للقرية وكأن الموبايل علامته الفارقة ( والموبايل بتاعي معكم واللي يتصل بي يكون مجهز المبلغ / 35 ) !! نلاحظ أن الاتصال بشرط أقتصادي !! وبشرط التكتيم ( واللي عنده أي إستفسار يكلمني ع الموبايل وياريت الكلام ده مايطلعش بره إنتم عارفين إن البلد مقلوبة اليومين دول والموضوع دهب يعتبر قضية أمن دولة / 35 ) ..
(*)
قرية لا تدخلها السياسة ولا التشدد الأصولي قرية تريد خلاصا أقتصاديا يحررها من الجوع والمتجحفلين معه .. وبشهادة الحالمين القرويين الغلابة ( اليورو في قريتنا أصبح هو الحلم والأمل والمستقبل ) وهذه القرية لا تكابد صراعا طبقيا بل إنقراضاَ وجوديا .... فالحكومات العربية بلا إستثتاء منشغلة بسياسة التجويع المسلّح . وأصبح الحل الوحيد لدى المواطن ترك البلاد لأهل الفساد ...
* أيمن زهري / بحر الروم / سنة الإصدار 2008