الفتوى بين الدين والسياسة

2017-08-03
أحياناً عندما أدعى للكتابة عن موضوع هام يعتبر مثاراً للجدل ويؤثر بعمق بظرفنا الراهن، يصيبني الارتباك، لاسيما وأن الخوض بالموضوعات المهمة يحتاج إلى تأني واستجماع ما لدي من مصادر ودراسة تجارب مشابهة، واستحضار وشحذ الذاكرة . . . .
وليكن فإن موضوع  الفتاوى وتأثيرها الإيجابي أو السلبي على المجتمع يحتاج حقاً إلى النظر إليه من عدة جوانب ، ولا تنفع في هذا المجال التعليقات السريعة بالقبول أو الرفض أو حتى المواقف الانفعالية .
1 – لم أعثر في القرآن الكريم على المفردات الآتية : فتوى ، فتاوي ، إفتاء، مُفتي . عدا ما وجدته في الآيات الثلاث التي تدل على الإفتاء وهما :
أفتِِنا : ( يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان )
46 ك ، 12 سورة يوسف
أفتوني : ( ياأيها الملأ أفتوني في رأيي إن كنتم للرؤيا تعبرون )
43 ك  ، 12 يوسف
( قالت يا أيها الملأ إفتو لي  في أمري )
32 ك ، 12 يوسف
2 – وجدت من خلال بحثي في شبكة الإنترنت إن هناك قناة فضائية بعنوان ( قناة فتوى الفضائية ) وبعد معرفة ترددها واستقطابها الأفقي ومعرفة الترميز ن وجدتها تبث على القمرين العرب سات والنايل سات وهي تعلن عن ثمان أهداف للقناة وأحسن ما وجدت في أهدافها تحت الرقم (5) .(( السعي إلى أن تتبوأ الفتوى مكانها اللائق بها في توجيه الطاقات نحو التقدم والتطور والبناء الحضاري )) .
3 – بحثت في المفردة لغوياً والله من وراء القصد فوجدت أن أصل كلمة فتوى الجذر الأحادي* فَتَ ومعناها قطع وأنهى الموقف ، وفَتَ في بعض تحويراتها (بَتَ) وتعطي نفس معنى القطع فيكون فتى بالشئ : أي قطع به والهمزة تأتي في بعض الكلمات ضمن منظومة لغوية ، فتصبح أفتى .
 
اشكالية فهم الفتوى
إن  مفهوم الفتوى هو في الواقع أكثر تعقيداً وعمقاً وخطورة مما قد يوحي به السياسيون والكتاب العلمانيون ، ذلك أن المظهر الخارجي لا  يعبر عن حقيقة هذا   المفهوم بوجوهه وابعاده المختلفه، واي محاولة لاستيعابه علمياً  غير ممكنة  من خلال  النظر اليه من الخارج ، لكن من خلال الغوص في خلفيات البنى العميقة للعقل المتعامل معه واستقصاء الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الحافزة على ظهوره ،كفعالية اجتماعية دنيوية  بالغة التأثير ، ذلك أن الرب دائم الوجود لا ينقطع حضوره ، والإسلام قرآن وسنة موجود من حوالي ألف وأربعمائة سنة ، والجماعات الدينية لم تأت بآية قرآنية جديدة ولا بحديث نبوي جديد ، كما أن هذه الحركات الدينية أو المد الديني ، يظهر ويختفي على شكل موجات بين فترة وأخرى ، وهذا الأختفاء ثم الظهور تكمن أسبابه في ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ، أي أنه يخضع لشروط دنيوية وليست دينية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفق الأب مرمرجي الدومينكي ، فأن أصل اللغة مقاطع احادية ثم أصبحت ثنائية وثلاثية ورباعية المقاطع ولكن جذر المعنى وهو آت من المقطع الاحادي وهو أصل كل الكلمات .
 
 
 تحديد الإشكالية
هناك مقولة مشهورة لفولتير : قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك وهذه المقولة يتوجب استحضارها إذا كنا في إطار بحث اجتماعي ، حيث تتعدد المفاهيم وتتداخل وتتناقض بعضها مع بعض حول القضية الواحدة ، فالمصطلح في العلوم الاجتماعية حمال تفسيرات عدة وهو لا ينجو من تأثيرات الأيديولوجيا والذاتية ، اللتين يضيفهما الباحث على رؤيته وتفسيره للمفاهيم المستعملة .
إن المصطلح الذي هو تجريد للواقع يسمح لنا أن نعبر عن هذا الواقع من خلاله ، وهو أساس لغة التعامل الإنساني ووسيلة للتعبير عن أفكار وحالات وأوضاع محددة وتكتسي عملية التحديد الدقيق له أهمية قصوى في البحث الاجتماعي ،لأنه عن طريق هذا التحديد يمكن للباحث ان يحصر المعلومات التي عليه جمعها ، ويمكن للقارئ ايضاً ،منذ البداية أن يعرف ماذا يقصد الباحث بهذا المفهوم أو ذاك أو ما هي القضية محل النقاش ، إن تحديد وتعريف مفهوم أو مصطلح والإلمام بمقاصده وخصوصا في دول العالم المتأخر حيث يتداخل ما هو اجتماعي وما هو سياسي والديني مع الدنيوي بشكل كبير لا يستمد هذا التعريف غالباً من المفهوم ذاته أي من كونه تجريد للواقع ، بل تغلب عليه الأيديولوجيا والأشواق والتطلعات فيصبح المصطلح من خلال ما يضفي عليه ، مما ليس فيه تعبيراً عن شئ أو أشياء لا علاقة لها بالواقع عن شئ يجب أن يكون كما يريده العقل المتعامل والمستعمل للمصطلح وليس عن الشئ الموجود بالفعل ، الأمر الذي جعل بنية الفكر العربي الإسلامي الذي تملأه هذه المفاهيم وتشكل لحمته وسداه ،عبارة عن بناء تصوري ذاتوي منسلخ عن الواقع ،فكر مرتبط ومحكوم ومسير بمفاهيم ومصطلحات يعتقد أنها واضحة وبينة ، بينما هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن الوضوح والموضوعية ، حيث أن كل شخص أو حركة أو نظام يضفي عليها مسحة أخلاقية وقيمية إيجابية أو سلبية بحسب هواه فتظهر فتاوى لا حصر لها ولا عد مثل فتاوى تحريم النغمات الموسيقية في أجهزة الهاتف النقال وفتاوى القتل وإهدار الدم وغيرها .
بسبب التغطية الإعلامية الكثيفة لفتاوى معينة تحمل طابعاً سياسياً أو تحمل مضامين تتخطى حدود علاقة الإنسان بخالقه وتتخطى البقعة الجغرافية التي تم إصدار الفتوى فيها لتشمل دول أخرى فإن الإنسان الغربي البسيط بدأ في السنوات الأخيرة يأخذ إنطباعاً سطحياً عن الفتوى ويعتبرها بمثابة ( رخصة للقتل ) أو وثيقة لإعلان حرب ولا يدرك الجوانب الأيجابية المتعددة الأخرى للفتوى .
تكمن خطورة الفتوى في كونها مرسوماً دينياً تتعدى حدود علاقة الإنسان بخالقه فكثير من الفتاوى تتسم بصفات ثورية وسياسية وإجتماعية واقتصادية والجدل القديم الذي أدى إلى ظهور فكرة الفتوى لا يزال قائماً في الدول الإسلامية حيث يوجد هناك فجوة بين الحاكم والسياسي والإداري والناطق باسم الشريعة الإسلامية حيث أن هناك دول إسلامية تعد على أصابع اليد يكون فيها المرشد الروحي هو صاحب القرار السياسي .
تعريف الفتوى
الفتوى عبارة عن مرسوم ديني في دين الإسلام يقوم بإصداره علماء في الشريعة الإسلامية يتحلون بصفات معينة ، ويعتبر إصدار الفتوى في الإسلام أمراً عظيما من ناحية المسؤولية ويعتبر البعض من يصدر الفتوى إنه شخص نصب نفسه للتوقيع عن الله في أمور جدلية مثل الأمر أو النهي أو إطلاق مسميات مثل الحلال والحرام ومستحب ومكروه وغيرها .
يتم إصدار الفتوى عادة نتيجة غياب جواب واضح وصريح يتفق عليه الغالبية في أمر من أمور الفقه الإسلامي ويتعلق بموضوع شائك ذات أبعاد سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية ويطلق تسمية المفتي على الشخص الذي يقوم بإصدار الفتوى ، ولا يوجد في الإسلام سلطة مركزية وحيدة لإصدار الفتوى وصدور فتوى معينة لا تعني بالضرورة إن جميع المسلمين سوف يطبقون ما جاء في الفتوى ويرى بعض علماء المسلمين إن بعض الفتاوى تصدر من أشخاص لا يعتبرون أهلاً لإصدار الفتوى  بدأ اهتمام وسائل الإعلام الغربي بمصطلح الفتوى بعد حادثتين تمت تغطيتهما بصورة كثيفة ، كانت الأولى فتوى روح الله الخميني عام 1989 م بإهدار
سلمان رشدي بعد نشره لرواية آيات شيطانية والتي اعتبرت من قبل الغالبية العظمى من المسلمين إساءة إلى رسول الإسلام ، محمد بن عبد الله ، والثانية كانت ما اعتبره الإعلام الغربي فتوى من أسامة من لادن في عام 1998م بإعلان الحرب على الولايات المتحدة .
من الأمثلة المشهورة على دور فتوى في تغيير واقع معين هي الفتوى التي صدرت في إيران عام 1891 وفيها أفتى محمد حسن شيرازي الإيرانيين بمقاطعة تدخين التبغ وحدثت بالفعل مقاطعة واسعة النطاق لمدة شهرين حيث اضطر الشاه على أثرها لإلغاء عقود تجارية ضخمة مع عدد من الدول الأوربية حيث كان الشاه في ذلك الوقت يحاول الانفتاح على الغرب .
هناك بعض الأمثلة في تأريخ الكنيسة الكاثوليكية وخاصة في تعاملها بما اعتبرته هرطقة أو خروجاً عن مبادئ الكنيسة حيث قامت الكنيسة بتشكيل لجنة خاصة لمحاربة الهرطقة في عام 1184 م وكانت هذه اللجنة نشيطة في العديد من الدول الأوربية .
وقامت هذه اللجنة بشن الحرب على أتباع المعتقد الثنوي في غرب أوروبا والثنوية هي اعتقاد بأن هناك قوتين أو خالقين يسيطران على الكون يمثل احدهما الخير والآخر الشر .
استمرت هذه الحملة من 1209 من إلى 1229 وشملت أساليب حرق المهرطقين وهم أحياء وكانت الأساليب الأخرى المستعملة متطرفة وشديدة حتى بالنسبة لمقاييس القرون الوسطى ، وكانت بناءا على مرسوم من الناطق باسم البابا قيصر هيستر باخ Caesar of Heisterbach  الذي قال ( أذبحوهم كلهم ) .
حاولت من المقاربة للموضوع على الواقع أكثر من التنظير . . وأعلم أن البعض سيحتج من جمعي للسياسة والدين في موضوع واحد ، مع أنهما مصطلحان قد يراهما البعض متناقضين ، وينتميان إلى مرجعيتين مختلفتين .
وهذا كلام صحيح إذا كنا سنقوم بدراستهما نظرياً أي على مستوى التعريفات ولكن بما أننا سنتناول الموضوع من خلال الممارسة والمعايشة ، فإن التعرض لأي منهما سيحال تلقائيا إلى الآخر وخصوصاً في الشكل الذي هما مثاران فيه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فالعلاقة بينهما علاقة الفعل وردة الفعل أو الشئ ونقيضه مع أنهما غير متناقضين .
بغض النظر عن القراءات المتناقضة لم يسمى بالحركات الإسلامية أو الإصولية أو الإسلام السياسي أو الصحوة الإسلامية . . . الخ ، فهذه الظاهرة وليدة بيئتنا وثقافتنا ،وتنهل من ماضينا وتراثنا ، الأمر الذي يجعل مقاربتها لا يحتاج إلى الجري وراء تنظيرات المفكرين الغربيين وكتاباتهم حول الموضوع فبما أنها خاصتنا دون منازع ، فعلينا أن ننظر إليها بعيوننا وليس بعيون الآخرين ، فمثقفونا الواعون ورجال سياستنا النزيهون أقدر من غيرهم على التعامل مع الموضوع .
وفي ظل انسحاب الايولوجيات العقلانية وإنسداد آفاق المنطق الفكري ، ومآزق الحركات الوطنية بكل تياراتها ، ومع تعزيز الحصار الغربي ضد دولنا وممارسة الغرب كل أنواع الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية مما يهدد وجود مجتمعاتنا وضياع هويتها ، تجاه ذلك لم تجد الجماهير ملجأ إلا الرجوع إلى التراث وإلى الدين تحديداً ليس كتعبير عن حالة تدين ولكن كتعبير عن حالة رفض للواقع ورفض كل ما هو وافد ، ومن خلال فتاوى متطرفة أحياناً تعود مرة أخرى بالضرر على مجتمعاتنا ، وبالتالي نجد أنه يصعب التكهن بإمكانية استئصال المشكلة الظاهرة ، على المدى القريب ، في ظل البنى العقلية الاجتماعية نفسها وفي ظل الشروط والأوضاع المشار إليها ، وخصوصا أن كل الأطراف تسعى إلى توظيف الدين لخدمة مصالحها الخاصة ،بما في ذلك الأنظمة نفسها ، التي تشتكي من ظاهرة التطرف الديني .
ومازالت الفتوى هي جزء من الفعاليات التي يقوم بها بعض رجال الدين منصبين انفسهم نواباً عن الله في التحريم والتحليل وفي منح صكوك الغفران أو الوعيد بنار جهنم ، وهم يسعون لتوظيف وإستحضار الدين والمقدس الذي هو للجميع من أجل أهداف سياسية واجتماعية أو اقتصادية او دنيوية بشكل عام لا تعبر بالضرورة من الحاجات الحقيقية للمجتمع .
بينما الإسلام والتدين بشكل عام في مغزاه العميق الروحي والإخلاقي هو تصرف عقلاني ولكن ما يجعل التدين عملا لا عقلانيا ، أي يوصله إلى مرحلة التطرف الاستقطابي القائم على تكفير الآخر ونبذه ، هو لاعقلانية الواقع القائم من نظم وأنظمة ومؤسسات وسلوكيات ، فإرهاب الأنظمة وفسادها وانتفاء شروط الحياة الكريمة ،والمواقف اللاعقلانية والعنصرية للغرب في تعامله مع الشعوب الإسلامية – والعربية خصوصا – هي التي تستثير الجانب اللاعقلاني عند المتدينين ، وهو جانب التطرف والإنكفاء على الذات ومعاداة الآخر ،وكلما تمت عقلنة الواقع  بجعله قائماً على العدل والإنصاف واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه ،نزعت من المتدينين صواعق تفجيرهم وتحولهم إلى ممارسي سلوك غير عقلاني ، أي إلى ظاهرة التطرف الديني ، أو بشكل آخر ،كلما جعلنا الحاضر أفضل من الماضي –وهذه هي سنة الحياة – وطبيعة التطور الذي يسير إلى الأمام دوما – الذي تتقمصه بعض الحركات الأصولية ، وتجعله نموذجاً لما يجب أن يكون ، وكلما أصبحت المجتمعات المسلمة أكثر قدرة على التحكم في واقعها وعلى التحرر من عوامل الهيمنة والاستلاب التي تحكم علاقتها بالمجتمعات الأخرى ، قلت الحاجة إلى الاستنجاد بالماضي وبالسلف الصالح ، وأنتفى مبرر انتشار النزعة الدينية المتطرفة .
إذا الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفجر ظاهرة التطرف واحتدام الصراع بين الأصوليين من جهة وبين أنظمة وقوى علمانية من جانب آخر ، هي أسباب دنيوية ،مشاكل ترتبط بالفقر والبطالة والهيمنة الاجنبية ، والإحباط واليأس المسيطر على الجيل الصاعد ، أيها أنها غير مرتبطة مباشرة بالإيمان بالله أو عدم الإيمان به ، أو بأن نكون مسلمين أو غير مسلمين وبالتالي ، فإن طرح بعض الحركات الإسلامية الجانب السلوكي والطقوسي من الدين لا يعبر عن حقيقة المشكلة ولن يساعد على حلها ، لأنها ببساطة لا تتعامل مع جوهر المشكلة .
حتى في الجانب الديني الإيماني فحيث أننا لسنا في زمن الأنبياء والرسل والقديسين ، وحيث ان هذه الحركات ، أو الأشخاص ، لا يمكنها أن تدعي أنها على أتصال برب العالمين ،أو أنها تحتكر اسر الإلهي ، ولا تدعي أنها جاءت بآية قرآنية جديدة ، أو بحديث نبوي جديد .
ما هو التوجه وكيف نتعلم من الآخرين ؟
نحن اليوم ، في عالم متغير ، وظروف مجتمعات ولغات وثقافات متباينة ، فإن التمسك بالفهم الجامد لإعجاز القرآن كلغة وتعبير ، قد يسئ إلى الإسلام أكثر مما يفيده ، لان التقيد بإعجاز النص ، قد يقنع البعض من أصحاب اللغة العربية ، ولكنه لا يستطيع إقناع أناس من لغات وثقافات أخرى ، أما إبراز روح الإسلام وقيمة الخلافة فإنه أكثر قدرة على الإقناع لأنه يتعامل مع الإسلام كقيم وتربية حسنة ، ويبعد عن الإسلام ما يلحق به من تعصب وانغلاق وتخلف ويجعله قابلاً لاستيعاب الأمور المستجدة ، ويجعله قابلاً للفهم من كل ثقافات العالم ، هذا الفهم لإعجاز القرآن ، يسمح لكل ذوي الخبرة والاختصاص وللعلماء والباحثين من كل الثقافات والجنسيات بالانفتاح على الإسلام والنهل من علمه وتعاليمه دون أن يكونوا شرطاً متعمقين في اللغة العربية ، بل يكفي تشبعهم بروح الإسلام ، إن عقل العلمانية وتلمس أسباب نجاحها وفهم آليات عملها وتطبيقها في الغرب ، لا يستقيم في إطار نظرة شمولية إلى التاريخ الأوروبي منذ القرن السادس عشر ، تقريباً ، حتى نهاية القرن التاسع عشر بما حفلت به هذه الحقبة من تحولات وأحداث وثورات هيأت الشروط الموضوعية لنجاح العلمانية وأخذها السمات العامة التي هي عليه اليوم .
فمن التعسف أن نفصل بين العلمانية وبين الثورات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا ، والتي هيأت المناخ المناسب لنجاح العلمانية .
فالثورة الدينية مثلت ثورة عقلية لدى الإنسان الغربي ، جعلته يضع محل التساؤل كل ما يتعلق بنظرته إلى الدين ، وكل ما هو ثاو في عقله من تفسيرات ومفاهيم وتصورات حول نفسه ومحيطه وكل الأمور التي تنسب إلى الدين ، أي أنها أعادت النظر ليس في الدين بحد ذاته ، ولكن في وضع الدين في المجتمع ووظيفته وعلاقته بالمجالات الحياتية الأخرى .
كما أن الثورات السياسية والاجتماعية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا . . . الخ ، أعادت إلى الإنسان إنسانيته وخلقت المواطن الذي يعرف حقوقه وواجباته ، وحددت علاقة الحاكمين بالمحكومين وأبرزت مفهوم إرادة الأمة وحقها في الثورة وفي تغيير حكامها ، وجردت هؤلاء الآخرين من حق احتكار الديني والمقدس أو التحدث باسم الإله ، وإطلاق الفتاوى كيفما اتفق أي أنها أسقطت الشرعية الدينية عن الحكام والثورة الصناعية أعادت إلى الإنسان كرامته وثبتت إنسانيته بتوفيرها ظروف حياتية شريفة وتحريرها من العوز والفاقة ، وأعطت الوطن مواطنين منتجين ، والثورة العلمية حررت عقل الإنسان من هيمنة الخرافة والأساطير وسهلت عملية تحكمه في الظواهر الطبيعية والاجتماعية وفهمها وتفسيرها باعتبارها أشياء ، حقائقها في ذاتها وليس في مصادر خارجة عنها .
أتمنى أن يكون للحديث بقية 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved