مقدمة المؤلفة للترجمة الفارسية لكتابها "البحث عن الخلندق" التي صدرت عن دار قطرة في طهران وترجمها الشاعر الايراني رحيم غفوري.
أحس أحيانا أن اللغة تخفق في اداء وظيفتها، وتفقد الكلمة معناها، تتحول إلى صوت غامض لا وظيفة له إلا كسر الصمت، لأن الصمت هو رديف الفراغ، وهو مخيف كالموت. من هذا الإحساس يولد أبطال قصصي، إنهم ضحايا سوء التفاهم، ضحايا عجزهم عن العثور على اللغة المناسبة، هذا العجز الذي يحدث صدعا في العلاقات الإنسانية، حيث لا يسمع الواحد منهم سوى صوته الداخلي حتى وهو يقيم بين الآخرين ويتبادل الحديث معهم. يبلغ هذا الصدع ذروته وإخفاق اللغة نقطة اللاعودة حين يظن التلاميذ في قصة "البحث عن الخلندق" أن لوثة أصابت معلم اللغة فيصبح موضع تندرهم، ويستمر هذا الإخفاق في التواصل في "حديث في مقهى" و"الصدع" ويصبح التفاهم مستحيلا في "الجثة".
لا ينشأ سوء التفاهم عن اختلاف اللغات، فمشكلة إخفاق اللغة تكمن في انغلاقنا على ذواتنا، أنانيتنا، عدم قدرتنا على الانخراط في حياة اجتماعية وعدم قدرتنا على الاستغناء عنها أيضا. وقد يبلغ هذا الإخفاق درجة يتعذر علينا معها فهم أبسط اللغات: صرخة الرضيع، وأنين المريض، وضحكة إنسان سعيد.
قبل عقود عديدة كان ثمة محاولة لخلق لغة واحدة للعالم تمكن الناس من التفاهم أيا كانوا وأينما كانوا، لغة اختيرت مفرداتها من لغات مختلفة، ووضعت لها قواعد مبسطة. لكن هذه المحاولة أخفقت، وما كان لها أيضا أن تنجح، فلم يكن تعدد اللغات معضلة أو عائقا، وعلى العكس إنه ثروة ثمينة. وسوء التفاهم لا ينشأ عن هذا التعدد لأن الترجمة تتطوع دائما لإزاحة العقبة وتسهيل التواصل، فهناك في الآخر لغة إنسانية مشتركة، مفرداتها الهموم والمشاعر الإنسانية، الألم، الحزن، الفرح، الغضب، التعاطف.
وكما أن اللغة هي أداة الكاتب في عمله، هي كذلك بالنسبة للمترجم. ففي كل مرة يعاد فيها ترتيب المفردات تكتسب الكلمات معنى جديدا وشكلا جديدا وينمو مع كل جملة في النص اسلوب الكاتب أو المترجم على السواء، ذاك الذي سيميزه عن غيره من الكتاب أو المترجمين . اللغة، أية لغة، هي كنز مشاع للجميع، ينمو، يتكاثر، يجدد نفسه، وليس على الكاتب أو المترجم إلا أن يفتح الصندوق ويختار من هذا الكنز ما يشاء. سيختار أحدهم اللؤلؤة الأكثر بريقا، ويختار آخر الحجر الأكثر ثقلا ويملأ ثالث كفيه من مفردات هذا الكنز دون انتقاء. يبقى بعد ذلك ما سيفعله كل منهم بما اختاره. قد تنطفئ اللؤلؤة بين يديه أو يتبين بعد ذلك أنها لم تكن سوى لؤلؤة كاذبة، أو يتوهج الحجر الثقيل بين يديه وتنتظم المفردات في عقد فائق الروعة أو في خليط لا لون له.
فالترجمة الأدبية عمل إبداعي، إعادة خلق العمل الأدبي. إنها ليست النقل القاموسي للكلمات ولكنها إعادة خلق العمل الأدبي باللغة المترجم إليها. من هنا أعتبر هذا الكتاب باللغة الفارسية عملنا المشترك أنا والمترجم. وأشعر بالامتنان للشاعر والمترجم رحيم فروغي إذ وقع اختياره على أحد كتبي. ولما كنت أنا أيضا قد عملت في الترجمة ونقلت عددا من الأعمال الأدبية الألمانية إلى العربية أدرك تماما مبلغ الجهد الذي ينطوي عليه هذا العمل. وأعرف عناء العثور على الكلمة الصحيحة وعناء البحث عن الايقاع المناسب للجملة وهو أمر لا يسعفك القاموس في العثور عليه.