باكرا استيقظ عاشور ، في صبيحة ذلك اليوم الغائم. كانت الشمس تضحك من حين لآخر. فكر طويلا في حمام الصباح. ابتسم لمرّات عديدة في المرآة. التفت نحوي، وهمس بصوت خافت كالمذعور : إنها نائمة !
أوشكت أن أبوح لها بشيء ما، وأنا أودعها في محطة القطار. التفت عاشور الذي كان مسكونا بالعزلة والغضب، جهة البحر ! تقدم بخطى متثاقلة صوب الضريح، وأمام البوابة الخشبية المتآكلة توقف قليلا.خمن أن المرأة التي تسلم نفسها من دون حب، قذرة حتى الموت. تطلع في حذر كبير، يمنة ويسرة. نظر بشغف صاخب إلى أعلى. كانت السحب في السماء، ترسم مدينة بلا أسوار. ضحك في سره. خلع نعليه، ثم دلف إلى ضريح سيدي إدريس. كان عبق البخور الهندي يملأ المكان. وفي الخارج، سقطت حبات البرد على حين غرة. كانت المرأة المجهدة الملامح، تنام في السرير . فكر أن يرفع ستار النافذة. بدت المرأة هادئة في نومها ومسترسلة. التفت إلي في عياء. أحسستُ أنه يتحول بعينيه، لا بقلبه. ابتسم وقال لي بانكسار :
- إنه يوم ممطر !
المرأة التي صعدت أدراج السلم مترنحة، كانت لا تزال غارقة في النوم. طبع عاشور قبلة خفيفة على شفتيها، وجلس القرفصاء في الركن القصي من الضريح. تملكته وحشة ورعشة، فقال لي : هاتفها ! أرجوك ! فكرت أن أغسل وجهي، وأحلق لحيتي، ثم أضع قليلا من العطر، كي يستقبلني الوطن بفرح. كانت المحطة قذرة مثل جبهة قتال تبحث عن مساومة. نمت نوما متقطعا. كان السفر شاقا وكنت لا أعرف غير عاشور في وجدة. صرخ عاشور من شدة الوجد :
- إنها آمنتُك !
المرأة التي كانت تنام بصمت على السرير، كانت قريبة من قلبي ! ابتسمت على مضض. صرخ عاشور بيأس كبير :
- إنها ميتة !
جريت نحوها. كنت أجس نبضها، وأبتسم بمرارة. أشعلت سيجارة، وهجست مثقل العينين:
- ارفع الستارة !
كان عاشور يدس حقيبة اليد الصغيرة تحت السرير. أمام باب العمارة. حاول الحارس العجوز أن يفتح بوابة المصعد التي تعطلت منذ ليلة أمس. اقترب من المقهى. دلفت إليها بحذر. وفي المرحاض، كنت أغسل وجهي، وأتقيأ فطور الصباح. وحينما جسستُ نبضها، صرخت من الفزع :
- لقد ماتت منذ زمن طويل !
أخذ عاشور ورقة وقلما. كتب كلمة أو كلمتين. طوى الورقة بلطف. ابتسم للصورة تطلع من قلبه، من جديد ! خمّن أن الصوت الذي يسمعه، هو صوت بوق سيارة الشرطة. ابتسم في شوق.حدثني كثيرا عن المرأة التي يجدها ميتة بجواره فوق السرير كل صباح. ضحكت ! ضحك عاشور وهو ينزل القمامة إلى الشارع. كان المصعد معطلا منذ ليلة أمس. كانت الأقدام الثقيلة والبلهاء تتسارع ، وهي تصعد أدراج السلم. اقتربت الأقدام شيئا فشيئا. ابتسم عاشور. أشعلت سيجارة أخرى. كان الدق قويا وعنيفا على الباب. أسرع عاشور لفتح الباب. كنت أغني. كان عاشور يصفق. بينما كانت المرأة ترقص " لَعْلاوي" على إيقاع الأغنية في الشريط ...!