أستعمل قراءتي لرواية ( من يرث الفردوس ) للقاصة والروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي للحديث عن الخالة..( مليكة ) وها انا أحدق اليها كصائغ يقلّب بين اصابع كفه اليمنى حجرا كريما .. أحدق لانكاية بأولئك الذين ( يرونها غاية في القبح ضمن مقاييسهم العامة ./28 ).. بل لأن الخالة مليكة أحدى حفيدات شهرزاد وتحديدا هي الحفيدة الكادحة العارفة بأسرار مملكة الاخضر اليانع، وهي التي علّمت أهالي مدينة النادرة كيف يكون التصدي لسنة القحط ..( علمّتهم الخالة مليكة طبخ بعض الجذور الطيبة والنباتات المفيدة التي كانوا يحتقرونها../39 ) .. وأودعت هذه الاسرار الخضر لدى مزينة .. وحسب سحبان وهما في فرارهما من مدينة مدرارة.. ( وهكذا سينفعنا ولعك بالنبات، وقد تنقذنا هذه المعرفة من عشبة سامة أو ثمرة قاتلة خذي حذرك، نجونا من البشر وقد تقتلنا عشبة سامة..) .. وفي سنوات الرخاء تغذي الصغار من عقلها البري..( كانت تدربنا على أكل الفلفل الحار وقتل الافاعي وصعود النخل وعبور النهر سباحة وتحكي حكاياتها فنعود الى البيت محترقين بمذاق الفلفل ولفح الشمس وصفعات أمّنا الغاضبة.../99 ) .. مليكة الداكنة اللون والألم : غليظة الشفتين جشّاء الصوت ضخمة الجسد، تنتسب الى همل الناس .. مليكة ( بصوتها الأجش الذي أكل الدخان نصفه وجرح مابقي منه الحزن والسعال../99) .. لكن من يعاشرها سيعرفها.... ( مليئة بالرقة والسحر والقصص والسخرية../28 ) بلسانها الحلو اوصلت الصبية مزينة الى ( جبل الأميرة نجاة ) وما ان انتهت حكاية الاميرة نجاة حتى طلبت مزينة من ابيها ان يأخذها الى جبل حقيقي / ص28، كأن الصبيّة تريد تفعيلا اتصاليا بين المتخيل/ الحقيقي .. لكنها لاتريد جبلا جرده ُ درس الجغرافيا من غموضه اللذيذ.. طلبت الجبل من ابيها فأتصالية التفاهم بين امها ومليكة باهتة جدا .. ( فركت فمها الصغير بالفلفل الأحمر حتى لاتعود تهذي بحكايات مليكة ولاتتفوه بكلماتها المحرمة ../ 28 ) فأم مزينة تخشى مصادرة امومتها عبر الحكي .. لذا فهي.. ( تمقت الخالة مليكة وترفض أن تزعزع بحكاياتها غرس الأم ولا ان تذهب بعيداً الى بلاد الخيال والرغبات المميتة../94 ).. مليكة ملكة الكلام الرشيق ولصوتها ( حكمته وطرافته ).. ولايضيء سهرة العائلة سوى حكيها.. ( في الليل كانت تستدعيها جدتي رغم معارضة أمي لتسرد حكاياتها على مسامع ضيفاتنا فتسحر وهي تروي قصصها بصوتها الأجش ../ 98- 99 ) .. في مملكة الصم، مليكة ( صوت الحياة الوحيد مقابل صمت الأسرة كلها../98 ) .. وهي التي أضرمت الكلام في حلزونات البيت الصامت، فصارت الصبية مزينة تنتسب للسان مليكة لالطوق القواقع الذي يخنق عنقها..( كنت أكره صمت أهلي وأتساءل لماذا يحبون الخرس ؟ يزورون أعمامنا وعمّاتي وخالاتي وبيت جدي فلايتحدّثون إلا بعبارات مبتورة محددة حفظتها جميعها، كانوا مثل حلزونات تحتفي في قواقعها وكنت أجمع القواقع الفارغة من جرف النهر وأثقبها وأصنع منها عقودا، كنت أقول لنفسي : إنّني أحمل أهلي في طوق يخنق عنقي طوق القواقع الخشنة المتحززة المدببة.../33 ) .. وحدها مليكة منحت الطفلة مزينة كل اجنحة الخيال وبمؤثرية الحكي رسخت الخالة مليكة رسومات صوتها في مخيلة الصبية مزينة.. (.. كانت الخالة مليكة قد حدثتني في الليلة السابقة عن الجبل، كما صورته لهاالحكايات، جبل فيه مغارة الغول العظيم الساحر، يصعد اليه الناس بتسعمائة درجة حجرية.../94 ) .. واصبحت مزينة ذات رصيد عال من الرأسمال الشفاهي/ الكتابي ( أعرف أنك تحفظين قصص وأساطير الأولين، وتعرفين أخبار الأسلاف في العصور الغابرة وعصركم.../ 25 ) ..
ودربتها مليكة على فن العلامة وتفكيك شفرتها، فالارنب المذعور في البرية ( أيقظ مخاوفها : قد يكون هناك مَن يطارده ، وأربكتها فكرة وجود الصيادين في هذا القفر الشاسع..../23 ) .. وأصابتها بالرؤيا ايضا ( أغمضت عينيها ومضت مأخوذة بالرؤيا تسرد رؤياها : سحبان، إنهم مقبلون علينا، أرى عمودا تتدلى منه جثّة نسر، أرى الأشياء، تتحرك تنهض، وتستعيد أرواحها من الكون، ذلك ليس بقبر، وهذه لم تعد صخرة، إن لها لو جلد بشري أراها تنهض بيضاء رمادية، ثم امرأة تتجسد وفي يدها سوط وعيناها من رماد، إنها تتقدم نحوي، اشم رائحتها الوخمة مثل سماد القرى، أشم أنفاسها البخرة، تصرخ بي، ../ 24 ) والامر لايقف عند حد الرؤيا، بل يصل الى حالة التقمص، فالروح الشريرة تتجسد في مزينة، وتبلّغها تهديدها...( خفت صوت مزينة وبدأت تهمس لنفسها بهمهمات ثم أختفى صوتها ولبثت تردد في أعماقها : ،،عودي الى مدرارة، أو أتبعيني،، هاهي بين يديها آنية ملأى بالذهب والجواهر والسموم../24- 25 ).. ولايسعني إلا ان اقول مع سحبان ( ما أعجب تأثير مليكة فيك / 98) وهكذا أرتشفت مزينة الحكايات واصبحت مدمنة على..( أرتشاف شراب الحلم المخيّب../28 ).. ومزينة كانت السارد الثالث بعد الأب الذي كان السارد الثاني / ص51 وهناك السارد العليم / الاول .. ومزينة سارد مستنسخ نسخته الاصل هي الخالة مليكة التي حكت الحكاية لمزينة، اعني حكاية الاميرة نجاة والغول ولاتخلو الحكاية من حزمة تأويلات حسب مزينة وهي تخاطب حبيبها سحبان ..(هي قصة كثير من النساء..قصة مليكة وهاجر وربما قصة مزينة النادري ايها الرجل الغول.../ 98 )..
(*)
الخالة مليكة : ملكة بأفعالها الجريئة في مجتمع منكفئة فيه نون النسوة.. فقد كسرت نسق الذكورة المتسيد وخالفت العرف السائد في بلدة النادرة التي لم يألف الناس ان تقوم النساء بذبح الطيور والدواجن.. وحسب قولها ( مانفعي إن لم أقم بما لاتجرؤ عليه النساء/ 98 ).. ومليكة هي الفادية لتلك الشرارة من التنظيم السري : ثلاثة ضيوف من أصدقاء والد مزينة، وهم في البستان والدها سمعوا صوتا باسم والد مزينة..( فيتردد الصدى في أرجاء البستان كالمعتاد، أضطرب الوالد وشحبت وجوه الرجال الثلاثة واسرع أحدهم يخفي مجموعة من الاوراق المطبوعة تحت كومة الحطب، رآهم ثلاثتهم يمضون باتجاه عمق البستان ثم يعبرون السور الى بستان الجد زوج مليكة ويغيبون عن الأنظار.../100 )... عندما ينتصف الليل ستطرق مليكة باب بيت أهل مزينة ثم تدخل بثيابها الموحلة، تدخل بقدمين ملطختين بالطمى الاحمر وتدخل برعشة جسدها المبلول وسعالها الحاد فتبشرهم ..( أنقذتهم ياأم مزينة، ساعدتهم في العبور بقارب صغير اخفيتهم في بستاننا حتى المساء/ 102) تلك الليلة كانت مليكة برفقة الحمى والسعال الرهيب وحين ابصرت الزائر الأخير، آخر ماقالته ( لابأس رأيت كثيرا في هذه الحياة وأعظم شيء فعلته أنّني أنقذتهم.../102)..
(*)
وثمة مرآوية للخالة مليكة التقطتها مزينة في ( هاجر الغجرية ) فقد ( ذكرتها هاجر بالخالة مليكة، بلا مبالاتها وجرأتها ومرحها وسحر حديثها، سوى أنّ الخالة مليكة كانت أطول منها وأشد سمرة وأسنّ وأقبح.../93 )
(*)
مؤثرية الخالة مليكة الحكائية اتحسسها، في الجسد الحكائي لنص ( من يرث الفردوس ).. واقترض من سحبان وهو يخاطب مزينة وأخاطب رواية من يرث الفردوس قائلا ( ما أعجب تأثير مليكة فيك /98 ) فثمة تماه بين فضائيّ الرواية / الحكاية بدءا بالتسميات : جبل الساهور/ حصن المسهج/ مدرارة/ النادرة/ يعلول/ الدانية/ يعلول/ تباريح/ تقويم العزلة... اما التاريخ الواقعي فهو ضئيل جدا، يرد ذكر الحرب العالمية الثانية، مطعم مادونا وغير ذلك بشكل وامض.. وثمة مصادفة تباغت قارىء النص وهي تزامن موت والد مزينة مع مقتل المشبوه/ السلطوي عواد السليم..( قال كهلان بينما أعد جنازة سمعت من يقول أن عواد السليم سقط صريعاً برصاص حراس مركز الوثائق وجدوه متسللا الى حيث حُفِظت وثائق تاريخية ذات قيمة استراتيجية للبلاد وعندما فتشوه عثروا على إحداها معه، كان ينوي بيعها لجهات أجنبية.../ 152 ) لكن هذا التزامن مقبول ضمن لسان شهرزاد فالذي نعرفه ان عواد السليم جزء من السلطة ولايحتاج الى تسلل، بل الى الدهاء والرشوة خصوصاً وان اخته تدير منزل دعارة
(*)
القراءة الاولى جعلتني امسك نصا ملتبساً، لكن القراءة الثانية للرواية، جعلتني أرى في الفصل الاول ( الصعود الى جبل الساهور) له وظيفة مقدمة روائية لما جرى للعاشقين مزينة وسحبان، عبر النص الروائي.. استوقفني هذا القفل السردي ( هنا في حصن المسهج تهاوت التجربة وسفهت الاحداث احلامهما كما انتهكت احلامهما مدينة مدرارة طوال سنوات العيش المريرة/ 8 ) اي حصن يعني به السارد العليم ؟ ومن هي مدرارة؟ ومن هو( وهب المليلي ) ومن اغتاله..؟ وتستوقفني الجملة التالية
ايضا..( يبعد الجبل عن الحصن مسيرة يومين وليلة واحدة/ 8 ) وسأمتلك مفتاح هذه الجملة في ص234
الصفحة الاخيرة في الرواية..( أرحل بعيداً فليس ل كان تبقى ولا ان تعود الى مدرارة..) وعلى ضوء هذه الجملة سأفهم الوحدة السردية التالية في الصفحة الاولى من الرواية..( وسحبان يواصل هربه مرة بعد أخرى وحالما يفجع بسقوط الحلم وبطلان التوهم ويرى مشروع المدينة الفاضلة ينهار امام ناظريه، يحزم أمره على الفرار مرة أخرى ليجازف معها في رحلة الى مجهول جديد.../7 ).. هذه الرحلة الجديدة، لاوجود لها في النص الذي بين ايدينا، فالساردون: العليم / والد مزينة/ مزينة/ أبو مطيع أياس النادري : هؤلاء كلهم يستعيدون مامضى.. ومن استعاداتهم يشكل النص الروائي الذي بين ايدينا، وخلف كل هؤلاء الرواة / الاقنعة، تقف المؤلفة لطفية الدليمي، التي اثرت المكتبة العراقية بأحجارها الكريمة..
* لطفية الدليمي/ من يرث الفردوس / دار المدى/ ط1/ 2014
*المقالة منشورة في مجلة إمضاء الفصلية / العدد العاشر / تموز /2015