الخطاب الثقافي والخطاب الديني إحتدام هل وراءه جدوى ؟

2014-12-05
 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e06dedac-612d-41ba-8ba5-e4ec928cdd73.jpeg
من خلال إلقاء نظرة بسيطة  على المشهد العراقي الراهن ، تتوضح صورة الخلل في العلاقة بين الخطابين الديني والثقافي فيه، وأن الصراع القائم بينهما هو أمر واقع لا يمكن نكرانه، وقد بلغ الصراع أشده، خاصة بين عدد كبير من ممثلي الثقافة من جهة، وسيادة الدين على معظم المرافق الحياتية وإحتكاره لها من جهة أخرى، هذا بالإضافة الى الصراع بين الثقافة الحديثة والثقافة التقليدية القديمة .
فلا بد إذا من السعي الحقيقي والصحيح لفهم خطاب الدين والثقافة فهما صحيحا. والإقرار بوجود الصراع بينهما . إذ لا يمكن حل الإشتباك من دون معرفة  وتشخيص المرض. فالعلاج الأمثل في هذه الحالة هو القبول بتجديد الدين والثقافة وخطابهما معا، وجعلهما مناسبين لمواكبة واقع العصر وظروفه وتغيير واقع الحياة ومتطلباتها إضافة الى الأخذ بالإعتبار الظروف الراهنة التي تحيط بنا  . مع خلق الأجواء الحرة والديمقراطية لكليهما، وإنشاء السبل التي تهتم بالشأن الثقافي والديني معا في مهامهما بحرية وديمقراطية ، ومن دون رقابة حكومية أو إرهاب ديني . لأن وجود الحرية الحقيقية، ضرورة حتمية ولا بد لها  أن تؤثر على وجود الثقافة الحقيقية، وعلى صيانة مقدساتها  بصورة حقيقية .
من الواضح أن الحياة الراهنة لم تبق في إطارها التقليدي القديم، بل أصبحت حياة متغيرة ومتطورة في كافة المجالات . ولذلك لا يمكن للدين أن يبقى كما كان في القديم . فإذا لم يتجدد و يتطور ، تراكم عليه الغبار ، و أصبح شيئا من الماضي العتيق . وكذلك الأمر بالنسبة الى الثقافة التي يؤكد العلماء  والمختصون على  ضرورة إستمرارية تجددها وتحديثها لكي لا يبقى الأنسان أو المجتمع سجين ثقافة محدودة ومغلقة ، بل لكي يكون منطلقا مع ثقافة تنسجم مع كرامته الشخصية و طموحاته المستقبلية .
فمن الضروري إذا إنقاذ الدين من جموده وقيوده التاريخية وإنقاذ الثقافة من التعلق الشديد بالتاريخ و المواريث القديمة و التراث الجامد . ولا يتم ذلك الخلاص إلا بالإجتهاد و إعلدة تفسير الدين ، وتأويله وفقا لمنطق العصر و ضروراته . والفصل بين مفهوم الدين والدولة بكافة الأنشطة و المظاهر كما حدث في أوربا وأريكا و معظم الدول المتمدنة التي حققت نجاحا باهرا في هذا المجال  .
ولعل السبب الرئيسي في نجاح الدول الأوربية  هو أنها أعطت القيمة العليا للثقافة والدين ، ورفعت من شأنهما معا . مع أن البعض يتصور أن في العلمانية طعن للدين وتهميش له ، إلا أن الحقيقة غير ذلك ، لأن الدين يبقى في ظل هذا النظام  ، محافظا على قيمته الأخلاقية وقدسيته الروحية ، ومساهما بصورة جدية وعميقة في النهضة الحضارية و الفكرية الحديثة . ويكون حينئذ فقط في مقدوره القيام بدوره الحقيقي الذي كان غائبا و لقرون عديدة .
 وهنا إعود لأستدرك وأذكر بأن علماء الأجتماع  يؤكدون ،أن الأنسان هو ذلك الكائن الثقافي المتدين بالطبع، لكونه فريد في مقدرته على النطق والكتابة و التفكير ، وتطوير عالم الأفكار الثقافية والروحية  , وهو بحسب علماء الإجتماع ( الأنثروبولوجيين)  ، ميال بغريزته إلى أن يكون صاحب معتقد أو نظام روحي , ولذلك يجب الحرص على فهم الإنسان من هذا المنطق ، وعدم تهميش الجانب الثقافي والروحي فيه ، وعدم تحريمه من الحرية في التفكير  و التعبير عن نفسه ، وعن أموره الثقافية و الروحية .
فعلى الدين والثقافة إذا مسؤولية أخلاقية جسيمة مشتركة . غرضها خير الناس ، وتقريبهم من بعضهم البعض ، وزيادة وعيهم  وقابلياتهم و ثقتهم بأنفسهم ، بالإضافة الى إهتمامهم بالأمور الماورائية الميتافيزيقية و لا يتم ذلك إلا بتشكيل حملات جديّة وحقيقية ، لإزالة العقبات الرئيسية ، كالجهل ، بمحاربته في جميع أنواعه و أشكاله و مجالاته. والإستبداد ومحاولة إيقافه بالموعظة الحسنة و الطرق السلمية . والخوف و الخجل  ، وهما العدوان  اللدودان اللذان يقبعان على صدورنا ، ويجعلان من مجتمعنا  وناسنا عبيدا للتقاليد القديمة خوفا من التغيير ، وخجلا من الآخرين . مع رفض ثقافة الممنوع والمحرم التي ورثناها ، والتي تعتبر حاجزا ضد التقدم و الإبداع .
ولما كانت الثقافة هي الضامن الرئيسي الوحيد لتحضر الأمم ، والمظهر الأكمل للرقي و الإزدهار ، والعامل الديناميكي الوحيد الذي يستطيع تحرير الإنسان ، وإنقاذه من حالة الرتابة والجمود  والكسل . فهي إذا لا تختلف في مفاهيمها و منطلقاتها ودلالاتها عن الدين في رسالته الجوهرية . إذ يدعوان كلاهما الى التربية و التهذيب و الأخلاق ، والى إعادة بناء الفرد والمجتمع الحضاري الصحيح .
ولا شك في أن الدين له حكمته وفلسفته الخاصة به ، كما أن للثقافة حكمتها وفلسفتها الخاصة بها .فلا يمكن للدين والثقافة أن ينفصلان عن القيم و الإخلاق . فإذا أنحرف الدين عن مسلره ، وإنقلب على أصوله ، فلا يكون إلا  مصدرا للتخلف و الإنحطاط . وكذلك الثقافة ، فإذا إنحرفت عن مسارها ولا سمح الله ، فإنها تتحول الى ثقافة منحرفة ومزورة ، ولا تنتج سوى متعلمين ، وتصبح بالتالي من دون أصالة حقيقية . وكذلك فعلى الثقافة أن لا تبعد المعتقدات عن موضوعاتها ، وكذلك الدين لا يمكته إبعاد الثقافة عن مجالاته الروحية والتراثية.
 
وعلى كل حال ، فإننا في أمس الحاجة الى النهضة والإصلاح الديني والثقافي  و تهذسب خطابهما ، لتجاوز الفهم الأحادي والمتعسف لقيم الدين ، والطعن المقصود والمباشر بالثقافة والمثقفين . فالإصلاح ضروري للدين لـقاذه وتحريره من الجمود والقشرية . كما هو ضروري أيضا للثقافة لإعطائها الدافع القوي في النهوض والتطور والتخلص من التبعية للسلطة والتقاليد البالية . وما يصيب بلدنا في الوقت الراهن من جمود وتخلف هو نتيجة من نتائج الجمود في الفكر الديني ، وتحجر رموزه الشخصية والدينية و الثقافية على حد سواء .
 وأخيرا  لا بد من التنويه على أن الدين والثقافة لا يمكنهما أن يعملا من دون وجود الدور الحقيقي للدولة ، ولا سيما في التربية والتعليم التي هي من أهم الوسائل المؤثرة لخلق مجتمع متآخ ومتسامح . إذ يجب على الحكومة لدينا أن تقوم بدورها في هذا المجال ، وذلك بدعم برامج البحث التربوي و العلمي ، من أجل العناية بالإنفتاح على الثقافات الأخرى ، وقبول الأختلاف ، ومنع الصراعات أو حلها بالوسائل السلمية والسليمة .
هل سيتاح لهذه الجمل والكلمات البسيطة والمملة أن تدخل آذان من لا يريد أن يفهمها ؟
اللهم إشهد إني بلغت ..

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved