يرى الآخرون
علي مصباح
"سأعود يوما، أبحث عن تلول النرجس تحت ساعة البريد..." هكذا تبدأ سالمة صالح نصها مدشنة الرحلة الشيقة التي تستدرجنا إليها، عبر الحقول والتلال وفوق الهضاب وعلى دروب صعبة تتسلق الجبل.
دخلتُ الموصل وبيوتها وأكلتُ من رغيف ساخن تتلقفه الأصابع من على الصاج، وجلستُ على حافة النهر، وتتبعتُ الصبية المتراكضين في الحقول، وعرفتُ أمهات ينكببن على قدر داخل "بيت الشعلة" ... دون أن تطأ قدماي أرض تلك المدينة، مدينة بدأت صورتها تسكن ذاكرتي، مأهولة بالأطفال المرحين، ملتفة في حقول النرجس والقمح وزهور أخرى...
زهرة الأنبياء!
بيضة تتفتت بين أصابع نبي (كما تروي الأسطورة)، يقع فتاتها على الأرض، فتنبت زهرة نرجس، زهرة تتفتت وريقات تويجها بين أصابع طفل، فإذا هي برعم نبوءة. لأن الأرض تحمل قداستها في صلبها، وعندما يلامسها وهج الحياة تنفجر أزهارا.
الواقع يطفح بالأسطوري. الأسطورة تغفو في قاع الأشياء، لا تدركها غير العين المتفحصة، عين القلب التي تتوقف عند الأشياء ولا تنزلق على قشرة العالم كمن يسير داخل غيبوبة، غيبوبة الواقع المهترئ باللهاث المضني وراء ما يبدو ضروريا ومهما وهو في الواقع ما يسلب الحياة من جوهرها ويبيد بهجتها.
لا بد أن يكون المرء نبيا، أو شاعرا، شاعرا نبيا، أو في كلمة واحدة طفلا كي تغويه الحياة بأشيائها البسيطة جدا جدا، فيغرق في بهجتها.
حقل النرجس! أنه هناك، إنه هنا، قريب جدا.
لكنه أيضا بعيد جدا. قابع في تجاويف الذاكرة، لا بد من محاولته على نفسه، ومغالبة تكتم الذاكرة على كنوزها، كي يتوهج من جديد: "أبحث عن تلول النرجس ... بحثت مرة عن غابة حور..." يتردد فعل البحث في الفقرة الأولى بكثافة، بإصرار وعناد، حتى يغدو الفصل الأول من النص فصلا منذورا للبحث. فصل محاولة الذاكرة ومراودتها عن نفسها وهي تتمنع وتمانع، وتمتنع... فصل مراودة الكتابة، معاناة استدراج النص قبل أن يستجيب فـ :"تنبعث في الذاكرة من جديد سحب الدخان ورائحة الخبز الساخن...، وأعود طفلة". الذاكرة والنص يستجيبان أخيرا بعد المكابدة والمعاناة، لينتهي الفصل الأخير "يقظة الذاكرة" إلى الانفجار شلالا من المياه الصاخبة وإذا النص يتحول إلى دفق من المياه: "مسقط مائي... ماء صاف، ثمة شلال آخر أتذكره، وهدير الماء يزداد وضوحا، ثم يتحول هديره إلى صخب هائل". إنه هدير الأعماق يفضي إلى لحظة توتر قصوى مسكونة بصخب داخلي عارم، صخب الذاكرة التي تستعيدها الكاتبة فتهجم بعد التمنع "كتلة بيضاء تسقط شاقوليا فتفور وتزبد" مهيئة لحالة التجلي، حالة تمتزج فيها اليقظة "يقظة حادة ، يقظة المفاجأة التي أقف أمامها مأخوذة"، "بحالة من الغياب"، الغياب في ذلك العالم الذي ظلت تراوده وتحاوله على نفسه منذ البداية (بداية النص).
كل العناصر التي تأسست عليها الفصول السابقة من زهور ونباتات وحيوانات وحشرات، وخطى وأنفاس، تتكثف هنا في هذه اللحظة الحبلى، فتهبط شلالا صاخبا جمعته الذات المستذكرة من شتات الأشياء التي فتتها الزمن وهو يأتي على كل شيء.
بحثت عن النرجس، بحثت عن الطفولة الهاربة التي تظل جنة متوهجة في الذاكرة، تحييها الكاتبة بمهارة الساحر، نبضا نبضا، حتى تغدو قريبة جدا، جنة يمكن أن تعود. إذ لا شيء يضيع نهائيا في العدم. كل الأشياء تغفو في سراديب الذات. وكأن لا بد من مراودتها، وكأن لا بد من ذلك الجهد المضني في استدراجها، كي تنهض من جديد فتراها في "يقظة الذاكرة تعرض نفسها للضوء، لم ينل منها الزمن ولا طالها الخراب" كانت هذه آخر جملة في النص.
بدهشة أمام الحياة وعناصرها
سالمة صالح تستعيد الطفولة ونبضها الحار (طفولة العالم والحياة) لا عبر تذكر الصور والأشخاص والأشياء والحادثات، بل أساسا عبر اللغة، لغة بسيطة شفافة ومرحة، جمل قصيرة بسيطة التركيب، وعبارات صافية وأسلوب خال من الزوائد، زوائد التعقيدات الدعية التي تثقل النص بالتزويق وتجعله ينتفخ بخطاب صاخب مدو بالمصطلحات والعبارات المفخمة (بفتح الخاء وكسرها معا)، وكل تلك "المحسنات" والتبجح اللفظي والزخرف الفائض عن اللزوم.
بمتعة شديدة يقرأ المرء هذا النص ولا يقدر على الانقطاع. هناك سحر ما في لغته الدقيقة المقتصدة، لغة مرحة، خفيفة، شبيهة إلى حد بعيد بوقع أقدام طفلة تنط بين الأعشاب والزهور.
من أين تستمد صفاءها وعذوبتها وحرارتها؟ لعلها كذلك لأنها لغة الأطفال، لغة تهب نفسها طازجة متوهجة برنينها الخافت العذب. إنها كذلك لأنها ليست مدعوة للمراوغة والمخاتلة والتستر خلف هيئة الجدية المفرطة التي تحول النص إلى كومة من الضجر، والحياة النابضة إلى ركام من التجريدات والتعاويذ المقفلة. ذلك أنه عندما يكون هاجس الكتابة الصدق ومنبعها العفوية، لا يمكن لها أن تستدعي سوى لغة الشفافية المرهفة إلى حد الانكسار، ما من حاجة للتزويق لأن للحياة بريقها الخاص وبهجتها.
اللغة ليست أسلوب كتابة، إنها طريقة إقامة على الأرض، نمط سلوكي، ذوق. ولعله من الضروري أن نتساءل نحن العرب، ونحن منذ ما يزيد عن قرن نتحدث عن التطور وعن مشاريع الحداثة الشاملة (أدبية - اجتماعية - فكرية - سياسية)، أن نتساءل عن نوعية علاقتنا باللغة، لأن ذلك سيعني بالضرورة تساؤلا عن نوعية علاقتنا بالحياة وبأنفسنا قبل كل شيء. فالحداثة ليست كما يعتقد الكثيرون، منظومة فكرية مستقلة، بقدر ما هي ايقاع جديد، وذوق جديد، ومعايير جمالية جديدة، سلوك جديد في كلمة واحدة، ونمط إقامة على الأرض. لغة الحداثة إذا هي تلك التي أشعر بالغبطة داخلها، تلك التي يداخلني نبضها، ولا تغربني. كذلك هي لغة هذا الكتاب، لغة الاحتفاء بالحياة.
سالمة صالح تثبت لنا دون ضجة مفتعلة وخطاب صارخ - وهو شيء نادر جدا في الكتابة العربية - أن ما يسمى بالكتابة الموضوع ليست سوى وهم وعي يطمح للتعالي
على الكتابة والترفع على الحياة لا غير.
يعني ذلك أن الكتابة الأصيلة، ليس همها أن تكون في المقام الأول موضوعا فلسفيا أو اجتماعيا أو سياسيا يجثم بكلكله على النص وتطغي ضجته الصاخبة على بقية عناصر الحياة. سالمة صالح تكتب الحياة كما تلتقطها عينا طفلة مشبعة بالدهشة.
الطفل يرى العالم والأشياء ضمن حياتها العفوية لا كما يصورها له التكلف الذهني، أو التبلد بالعادة، فيرى العمق، ويرى السحر، ويندهش. لذلك فإن "كومة أنقاض أو رمل على جانب الطريق ستبقى أبدا عالما جديرا بالاكتشاف، وحصاة تستقر في الجيب كنزا لا يعادله شيء". ولذلك يكون "للحصاة البيضاء دائما سحر يجتذب إليها الأصابع".
لكن حذار!
إن الكاتبة تضع لنا الفخاخ، مثل طفلة يحلو لها أن تورط الكهول - الجادين دوما - في لعبة مرحة لكنها قد تذهب بمهابة مشاغلهم الجدية، الجدية جدا، وقد تربك يقينهم وتزعزع مسلماتهم خلف الأسلوب المرن المرح الذي يوهم ببساطة لا حاجة لها بتعقيد الأمور، تستدرجنا الكاتبة نحو أعماق مستترة خلف براءة الأشياء وبساطتها. ههنا تأخذ الكتابة منحى آخر، منحى خطيرا. إنها تأخذنا برفق من السطح إلى العمق، عمق علاقة الكائن بالعالم، ويغمرنا ذلك الصخب الذي يحيل إلى حالة من الغياب. وإذا نحن وجها لوجه مع صخب الذات، نغفو عن الخارج، داخل غيبوبة رقيقة تعيدنا إلى محاورة ذاتنا التي كثيرا ما ننساها لانشغالنا الدائم بالخارج الذي يلتهم يقظتنا.
بدهشة الطفولة تستدرجنا الكاتبة نحو أسئلة محرقة محيرة. الطفلة المرحة تستوقفها كل الأشياء وتبهرها وتدهشها، وفيما هي تندهش، تتساءل تساؤلات الطفولة، أكثر التساؤلات إحراجا وخلخلة لنظام المسلمات.
"في طفولتي المبكرة، قبل سن المدرسة، رأيت هذه الأرض مرة أو مرتين وحملت منها جرحا لم أبرأ منه وحزنا صافيا عميقا لم تستطع كل حقائق الكبار أن تغسله". كيف يمكن للكبار أن يقنعوا طفلة بأنها لا تستطيع أن تمد يدها فتتناول القمر في قبضتها، "لقد كان القمر هناك معلقا في طرف الأرض، منخفضا، قريبا، ولم يسمح لي بلمسه، وكنت أستطيع أن أفعل." وكيف للكبار أن يقنعوا طفلا بأن العشب عشب سواء أكان في الحقل أو مفروشا على أرضية البيت بعد أن تم اقتلاعه وجلبه في كيس، كي لا تخرج الزوجة من أجله إلى الحقول. "إن الطفل ليريد عشبا نابتا، عشبا ينهض عموديا على الأرض ويمد جذوره فيها...".
من بساطة الأشياء، ومن عمق العلاقة ببساطتها تطلع الجملة الفلسفية كومضة تلتمع وتختفي لكنها تترك أثرا عميقا في النفس: "ولكن ما من طريق يسلكه المرء مرتين". ما من زهرة تراها العين مرتين... لأن الحياة التي تخبر ذاتها وتعيش ذاتها داخل غبطة لا متناهية، إنما تستمد غبطتها من تحولها الدائم. ذلك ما لا تدركه العين المهترئة بالتكرار والعادة. إن التكرار حالة ذهنية لا غير، تماما مثل الثبات والتطابق والجمود.
جوهر الكتابة
هناك في النهاية مقطع أخير أريد أن أنقله كاملا لطرافته وأهمية ما يرشح به من دلالات خطيرة تمس جوهر عملية الكتابة. تقول الكاتبة متذكرة سنوات الدراسة إنها لم تفلح أبدا في وصف يوم ممطر. كان الأمر يبدأ هكذا على الدوام: "خرجت في الصباح، كانت السماء ملبدة بالغيوم والمطر ينهمر غزيرا، وكانت الشوارع تغطيها الأوحال. رأيت الناس يحملون المظلات ويمضون مسرعين".
لقد قلت كل ما أستطيع قوله، ولكن لا بد من كتابة صفحتين أو ثلاث. وتبدو لي إضافة أي جملة أخرى أمرا مستحيلا. ثم أن ما كتبته برمته لم يكن سوى محض خيال، فأنا لا أذكر أنني رأيت ناسا يحملون مظلات... وصورة الأوحال أيضا لم تكن رغم أنها جديرة بالتصديق سوى كذبة، فشارعنا الضيق قد رصف بالاسفلت منذ زمن بعيد... أما شوراع المدينة فقد كانت تبدو بعد المطر أكثر نظافة...".
كل ما كانت هذه الصبية تسعى إليه من خلال هذا التمرين الفاشل هو أن تكتب مثلما يكتب آلاف من كتابنا وشعرائنا! أي أن ترسم حالة خيالية مستنسخة من صورة ذهنية لا علاقة لها بالحياة، ظنا منها (وظنا منهم أيضا) بأن الكتابة لا يمكن أن تتحقق إلا داخل نمطية محددة. وباستعادة صور وحالات نموذجية، ومعايير ذهنية متداولة - أو مترسبة - إن هي خلت منها خرجت عن أعراف الكتابة.
المهم، أن تلك الطفلة لم تكن قادرة على المضي في كذبتها أبعد مما توصلت إليه في هاتين الجملتين، بينما ينجح الكثيرون في ملء العديد من المجلدات التي تضج بحمحمة خيول وقرقعة سيوف، ووقع حوافر في فياف وأحراش وأدغال لم تعد موجودة إلا في ذاكرة الكتاب والشعراء.
ومن لم يكتب هكذا ولو مرة واحدة، فليرم تلك الصبية بحجر.
*
فصول مكثفة لم يكن يعنيها كثيرا الإفاضة في السرد والاستطرادات. كل فصل، وكل جملة تعي ما تريد الوصول إليه، فتذهب إليه مباشرة ولا تتأخر عنده أكثر من اللزوم. تنتقل الكاتبة من فصل إلى آخر بين الحقول، والجبل والطرقات والبيوت والأشياء مثلما كانت تنط بينها بخفة وهي طفلة، أو مثلما يعود المرء لزيارة أماكن طفولته، لا ليقيم هناك، بل ليرصد لحظات ناتئة من ذاكرة طفولته، يشحذ وهجها من جديد ثم يمر.
كتابة بالحنين، لكنه ليس ذلك الحنين الباكي المتفجع الذي يجعل من الحياة ركاما وخرائب مهجورة، ومن الكتابة مناحة قاتمة. إنه حنين يعمر القفر ويغرس الزهور حتى في البساتين المهجورة ليعيد إليها بهاءها.
حنين دافئ مرح يجعل الحياة غبطة متواصلة قابلة للتجدد على الدوام، ويجعلنا نؤمن بأن الغد سيكون مشرقا بالتأكيد.
هذه الكتابة المرحة التي تبدو بهيئة لهو طفولي مبتهج بذاته كلهو لا غير، إنما هي بالنهاية كتابة حازمة، جادة بمرح، تعي ما تريد. إنها تنقض عالما وتؤسس عالما آخر، عالم الزهور والغبطة، "صباح الوجود" يقول الشابي الذي ينهض نافضا يديه من عالم الجدية المفتعلة الجافة، القاتمة، ذلك الذي تهيجت به إلى حين جوقة الايديولوجيات والزعيق الأخرس لأبواق الالتزام الذي التزم بكل شيء ما عدا الحياة والكتابة.
هذه الكتابة تعيد الاعتبار إلى الحلم وتؤسس فلسفة البهجة ضد فلسفة التجهم والاكفهرار.
مجلة المدى العدد 17 سنة 1997

