في تلك السنوات أستوقفني في كتابيه ( الأطروحة الفنطازية ) و( الدادائية بين الأمس واليوم ) وماعرفته من سيرته اليسارية وثقافته الموسوعية .. لم تتوفر لي من رواياته سوى : ( السراب الأحمر ) ( مثلث متساوي الساقين ) ( الأوبرا والكلب ) وأستعذبتُ ماكتبهُ في ذلك العدد من ( الموسوعة الصغيرة ) : ( الموسيقى الألكترونية ).. بصفتي كقارىء منجذب لكتابات الأستاذ علي الشوك : أشعرني معنيا بهذه الهدية الثمينة ..( هذه السيرة ستكون مهداة إلى كل من يهمه أن يقرأ لي../ 266 ) .. من الأسماء التي يتناولها كثيرا ولي معها صلة طيبة : ( هناء أدور) و ( غانم حمدون ) : بين هناء وشقيقتي علاقة نضالية من طراز خاص ومن خلال شقيقتي تشرفت بمعرفة المناضلة هناء أدور.. وهي من المناضلات البصريات، ذات المكانة العالمية في الدفاع عن حقوق الإنسان .. بعد سقوط الطاغية أرتبطتُ بصداقة صوتية مع الرفيق غانم حمدون، لم نلتق إلاّ عبر الموبايل والأيميل منذ 2005 وأستمرت علاقتنا ولم تتوقف إلاّ في الأيام الأربعة الأخيرة من حياته، بسبب ضعف الاتصال عبر الفايبر وحين يتحدث علي الشوك عن فيلم ( بيكت ) وهو بالأصل مسرحية للكاتب جان آنوي يعيدني للممثلين اللذين كنت مهوسا بهما : بيتر اوتول وريتشارد بيرتن وهاهي ذاكرتي تنزلق من صفحتي 85- 86 وتستقر في صالة سينما الوطن الصيفي في البصرة وقد شاهدت الفيلم عدت مرات فصرت أحفظ شيئا من الحوارات التي تجري بين الملك هنري الثامن : أعني الممثل بيتر أوتول وبين صديقه توماس بيكت : الممثل : ريتشارد بيرتن ..وكأنني أرى الآن اللقطات الموجعة من الفيلم أعني مقتل توماس بيكت ..
(*)
( الكتابة والحياة ) .. هي ليست مثنوية تسموية كما يوهمنا العنوان . إنها واحدية متماهية في نسيج مبثوث من صرح ثقافي من اسمائه الثقافية علي الشوك وهو بشهادة المثقف العضوي فخري كريم ( نموذج المثقف المهموم بقضايا عصره المتحول .. علي الشوك يتوهج بثقافة تتميّز بالتنوّع والغنى المعرفّي والثقافي والتعدد في الاهتمام باتجاهاتها الفكرية ومدارسها الفنية غير هيّاب في تطويعها والتفاعل معها وهو يكتب ويؤلف ليبتكر لنفسه أسلوباً يميّزه، وينحت ُمسلة ًجمالية قوامها السرد والموسيقى ونقد النقد، متكئاً على معرفة ٍ بالعلوم والرياضيات ملتقطاً شذرات ٍ من كل ميدان من ميادينها متماهيا في بحورها وتجلياتها../8 ) ..
(*)
أوجعني بوح الأستاذ علي الشوك: ( أنا الآن في حالة شديدة من الإجهاد، ولا أعتقد أنني أستطيع أن أواصل الكتابة بعد ذلك . وأنا لم أفكر في كتابة شيء بعد رواية ( الفرس الزرقاء).. إذن من يقف وراء كتابة هذا الكتاب السييري ..؟! .. يجيبنا الاستاذ علي الشوك : ( ..الصديق فيصل لعيبي التمس مني أن أكتب بضع صفحات عن سيرة حياتي، لأنه مزمع على كتابة شيء عن رواياتي . فرأيت أن أرسل نسخة منها إلى الصديق فخري كريم، وحال وصول بريدي الإلكتروني، أجاب الصديق فخري بالرسالة التالية ../ 265 ) .. إلتقطت ُ من رسالة الاستاذ فخري كريم هذه الشفرة الذهبية التي سيجيد التعامل معها بمهارة الروائي علي الشوك ..
( عزيزي علي
واضح ٌ أنك كتبت، تحت هاجس العجالة، وليس تحت ضغط العجالة .. وبودي أن لا تسمح لمثل هذه الضغوط أن تستلك من حالة الإلهام . قد تكتب بضعة سطور أخيرة فتكون هي الكتابة المكتملة .. نم وأنت علي الشوك، دون حاجة ٍ لمزيد ٍ أو خشية إنكار / 266 )
(*)
قراءة علي الشوك الأولى لرسالة فخري كريم، ستكون سالبة : ( لم أتلق الرسالة بارتياح أول الأمر . ثم لما أعدت قراءتها، فكرت في أن أكتب سيرة حياة أطول . وكانت هذه السيرة التي بين يدي القرّاء).. سنلاحظ ثمة إحتدام في داخل الذات الكاتبة .. الذات التي تحاول استعاد الآفل من السنوات وهي استعادات مضنية بالنسبة للإنسان المرهف الاستاذ علي الشوك، وسيوجعني بوحه التالي ( وأنا فقدت الرغبة الآن في مواصلة الكتابة، لإحساس بالكآبة والاحباط ألمّ بي، فهل هو إحساس برغبة في الموت ؟ فأنا الآن في السادسة والثمانين من عمري، ولم أعد أشعر برغبة في مواصلة الحياة بعد تدهور قواي الجسدية .. سأتوقف عن الكتابة، ولاأدري هل سأوصل الكتابة غدا أم أكف عنها ؟! / 99 ) وحين يعاود الكتابة في اليوم التالي يخبرنا ( أعود إلى الكتابة برغبة ضعيفة جدا، بعد أن فتر حماسي لها منذ مساء أمس بصورة مفاجئة، أهذا يعني انطفاء؟ أنا الآن لم تعد بي رغبة في أي شيء../ 100 )..
(*)
علي الشوك عاد من الولايات المتحدة الأمريكية في 1947 لم تجذبه غابة الرأسمال مثل ذلك المفكر المصري الكبير طيب الله ثراه، الذي أمضى عمره يطالب بشروق ٍ من الغرب !!. ثم استيقظ مؤخرا قبل رحيله بسنوات ٍ ليخبرنا أن الشروق من الشرق !! علي الشوك عاد من أمريكا إلى العراق ( وهو مُشبّع ٌ بالمعادلات والمنحنيات والأرقام التي أتت بها آخر علوم الفيزياء والرياضيات، وتكاملت مع انشغاله بمصادر الإلهام الإبداعي الثقافي كرافد ٍ آخر يُعمق إحساسه بالواقع الاجتماعي ومايسوده من أسباب التمايز والظلم ومصادرة الإرادة ../ ص11 – فخري كريم ).. بكل مافيه من شحنات ٍ ثقافية موسوعية إنتسب المثقف الموسوعي إلى الحزب الشيوعي العراقي ليصير كادرا قياديا منظما للمثقفين...
(*)
من ( الكتابة والحياة ) يَنجر الروائي علي الشوك : بابا لمناصات ماقبل النص الروائي /231-192- 195- 237- وهذه الأبواب من الضروري أن تدخل منها الدراسات النقدية لروايا ت علي الشوك . فرواية ( السراب الأحمر ) تستحق بالنسبة لي قراءة ثانية على ضوء جذورها الطينية المنقوعة بماء ديالى وهوائها وخضرتها .. ( المنطقة جميلة نسبياً، ومنعزلة عن الدنيا تقريباً، وعن الحكومة . في وسعنا أن نقيم فيها مدينة فاضلة لعدة أسابيع .. نصنع مدينتنا على قدر عددنا، نحن ومن يرغب من الأصدقاء . لن نكون في حاجة إلى أكثر من كوخ كبير وفضاء ولدينا نهر هو نهر ديالى، وفيء ونستطيع أن نوفر كل شيء مارأيكم ..؟/ 89 ) مابين الأقواس هو كلام ( ماجد علاوي ) أحد أفراد الثلة التي تتألف من : علي الشوك فتاح حمدون، وغانم حمدون، وماجد علاوي ونوري السعدي وخالدة أبنة أخيه وباسمة العزاوي : زوجة علي الشوك . الروزنامة تشير إلى آواخر سبعينات القرن الماضي وهي بداية أشرس هجمة بعثية على الحزب الشيوعي العراقي، ومكان اليوتوبيا إذا حقيقي وأسمه الحقيقي ( كوردرة أو كوردلة ) التي ستزال من الوجود ويقام في مكانها سد .. وماجد علاوي هو من رست عليه مقاولة ثانوية لمد خط من الشارع إلى المكان الذي سيقام السد فيه .. والجميل أن اليوتوبيا تحققت ( بكل متطلباتها خلال أسبوع /90 ) .. وسيذكر الروائي علي الشوك كل التفاصيل في روايته ( السراب الأحمر ) ويخلط الواقع بأخيولات السرد، سوف يسحب : هناء أدور من ألمانيا الشرقية التي ماغادرتها، ويوّظفها في الرواية باسم ( مريم ).. وسيتخفى علي الشوك في اسم ( هشام المقدادي ).. وفي يقظة الماء المحلوم به : ستكون السباحة عارية في الماء ... هذا المشهد العاري، سيعترض عليه الرفيق القيادي ( غانم حمدون ) وهو يقرأ مخطوطة الرواية .. وسيهدد بقطع صلته بعلي الشوك إذا لم يحذف هذا المشهد .. ولأن رفقة عظيمة بين الشوك وحمدون فقد ( ألبستهم لباس السباحة ../ 90 ).. وسنجد بعض المواد الخام لروايته ( فرس البراري ) في حديثه عن زيارته لبرلين الشرقية بدعوة من ( هناء أدور ) وسيكون اسمها في الرواية ( أسبرانتا ) وهو اسم والدتها لكن الروائي علي الشوك لم يذكر في الرواية : الحدث الأهم وحسب قوله ( لم أذكر تفاصيل أخرى في هذه الرواية، عن حدث غيّر مجرى زيارتي ولا أدري كيف كان وقعه على هناء/ 97 ).. وسؤالي هنا : كيف يكون وقعه على إنسانة وجهت لك دعوة لزيارتها في برلين لمدة شهر وأنت تقول ( أنا كنت أبحث عن امرأة متميزة أو مختلفة . وسأكتشف أن هذه المرأة المختلفة هي هناء../97 )..!! ولنقرأ مشاعره الناصعة في كلماته التالية ..( أمس شعرت بضجر ٍ لاحد له عندما كتبت ُ عن علاقتي التي نشأت مع ( أنجي ) في بيت هناء، أنا لم تعد أنجي تهمني الآن، ولا ذكراها . ولم يعد أحد يهمني باستثناء أبنتي زينب، وهناء، ونوري السعدي الذي غيبه الموت منذ أكثر من عشر سنوات . وسأحيا الآن مع ذكريات أكتبها لزينب وهناء، والراغبين ./ 100 ) .. والمحذوف هنا سنجده في رواية ( مثلث متساوي الساقين ) فالذي حدث قبل النص هو تعرف علي الشوك من خلال هناء أدور على ( أنجي ) شابة في الثامنة والعشرين وستكون بينهما علاقة حب ( وقد دام هذا الحب خمس سنوات إلى أن أنهيت أنا العلاقة../99 ) وسنجد تفاصيل علاقة على الشوك بأنجي في ( مثلث متساوي الساقين ) وبشهادته ( ومن لديه رغبة في الوقوف على تفاصيل هذه العلاقة ففي وسعه الرجوع إلى الرواية المشار إليها ) ..إذن الرواية التي قرأتها في كانون الأول 2009 في فندق السدير – بغداد – غرفة 3033 أثناء الملتقى القصصي الرابع: يتوّجب عليّ الآن في آيار 2017 العودة إليها ثانية ً
(*)
بخصوص مشهد العري أثناء السباحة في رواية ( السراب الأحمر ) : هل العري من شروط اليوتوبيا ؟ أم العري هنا بوظيفة إستعارية يعني مرحلة التكور الرحمي للجنين ؟ وهل اليوتوبيا حرية مطلقة ..؟! أليس اليوتوبيا بحد ذاتها قيد نصنعه بأخيولتنا وتتورط به أعناقنا ..؟! ربما اليوتوبيا ضمن فضاء الرواية : كانت مساجا للروح الجماعية ..وفترة نقاهة ضرورية ، وهي لاتخلو من الطارىء الأقتحامي ..الذي سيعّجل في إبادة هذه الثلة الشيوعية العراقية من الوجود فهي يوتوبيا بتوقيت بداية الهجمة الشرسة ضد الحزب الشيوعي العراقي ..
(*)
حسب قراءتي يبدو أن هناك تضاد إتصالي : بين وعيين : وعي الرواية / وعي الروائي، فالمشروط في كل رواية : هو سيادة وعي الرواية بمجرياتها أعني أن يجترح الروائي مسافة موضوعية بين وعييه الشخصي ووعي الرواية الفني المتجذر في البنية المجتمعية، لكن يبدو وبشهادة فخري كريم : أن علي الشوك ينسى ( في لحظات استذكاراته، وهو يرسم أبطاله أحيانا محكوما بدواعي التمّرد على كل مألوف ٍ، كما لو أنه يعيد صياغة بيئة ٍ مضادة ٍ لقوى كانت سبباً في أنكسار ِ جيله، ولكنه إذ يفعل ذلك يُضفي ظلال شكوك ٍ حول مدى براءة دوافعه الإبداعية، ويعمّق عزلة َ أبطاله ِ عن محيطهم التاريخيّ وقد يشوّه دوافع سلوكه كروائي بإسقاط رغبته الشخصيّة على بعضهم وتلبيسهم طابعا متخيلا غرائبيا يضيق بهم زمن الرواية وأمكنتها../ 12 )
(*)
يتساءل علي الشوك ( من هو البطل الروائي؟ /236 ).. ثمة يخبرنا أن أحدهم يرى أن روايات علي الشوك ( تفتقر إلى البطل النموذجي ) .. وأستاذنا الشوك لايتذكر تعقيبه على تهمة الإفتقار تلك، لكنه الآن وهو يكتب سيرته في الحياة والكتابة، يلتقط من رواية ستندال ( الأحمر والأسود ) .. هذا السؤال التطبيقي : ( هل نعتبر جوليان سوريل بطلا ً نموذجيا، هذا المواطن الذي ينتمي إلى طبقة متواضعة، لكنه وقف في وجه أبناء الطبقة الارستقراطية، وركّع أعتى فتاة من بنات هذه الطبقة . ومن هو، أو من هم الأبطال النموذجيون في رواية ( الحرب والسلم) وفي رواية ( آنا كارانينا ) ؟ ومن هو البطل النموذجي في ( الجريمة والعقاب ) وفي ( الدون الهادىء ) .. ويستمر علي الشوك في استعمال الامثلة الروائية الكبرى في هذا السياق ويختمها بقوله
( نعم، إن البطل النموذجي يمكن أن يعلن عن نفسه بوضوح، كما في شخصية سوريل وفي شخصية ( بطل من هذا الزمان ) لكنه يضللنا في الكثير من الأعمال الروائية الأخرى . على سبيل المثال هل هناك ضرورة لأن نبحث عن بطل روائي نموذجي أو بطلة روائية نموذجية في رواية ( الأوبرا والكلب ) ؟ رواية ( الأوبرا والكلب ) هي رواية تحوم حول البحث عن حلقة مفقودة وهذا هو سر أهميتها.. / 237 ).. شخصيا كقارىء : أرى أن الروائي ليس من كتّاب الرواية التربوية أو الوعظية التي تشترط بطلا نموذجيا يقتدي به القراء والقارئات، أن فاعلية الروائي يجب أن لاتؤطر إلاّ بوعيه وخبرته في الكتابة والحياة وكلاهما في منتهى الخصوبة لدى الاستاذ الروائي علي الشوك ..
(*)
أقطف هذه الحوارية بين علي الشوك وقريب له
( في تلك الزيارة فاتحني العم بأن أعمل معه، فقلت له إنني لاأصلح لأي عمل عدا الكتابة .
وسألني : ماهي الكتابة ؟
قلت له : الكتابة هي الحب
قال : ماذا تقصد ؟
قلت له : هل أحببت امرأة حباً كبيراً ؟
قال : نعم وأهديتها أحسن هدية
قلت له : الكتابة هي مثل المرأة التي أحببتها حباً كبيرا . هذا عندما تكتب شيئا جميلا
- وكيف تكتب شيئا جميلاً ؟
قلت : هذا هو بيت القصيد . الكتابة الجميلة لاتأتيك بيسر . الكتابة الجميلة قد تأتيك بعد أن تمزق
أوراقاً وأورقا . وأنا لم أحقق حلمي بعد، مع أنني كتبت كتابا لامثيل له، هو الذي أعطيت نسخة منه إلى السيد أحمد بن سوسة ( الأطروحة الفنطازية ) ../ ص191 ) .. إذن حسب هذه الرؤية لدى علي الشوك : الكتابة هي امرأة جميلة . وهنا لذة النص المنكتب ..
* علي الشوك / الكتابة والحياة / دار المدى / بغداد / ط1/ 2017