اللاعنف بين النظرية والتطبيق

2011-08-20

قد يتساءل القارئ لماذا هذا الحديث عن اللاعنف، ولماذا كل هذا الكم من المقالات في مجلات وفي مواقع إليكترونية، والجواب عن هذا التساؤل واضح وضوح الشمس في منتصف النهار، لأن الحروب في العالم عمت كل البقاع ولا توجد نقطة واحدة إلا وأريقت فيها دماء أبرياء. وقبل التطرق إلى المخرج من كل هذا التخبط لابد من إطلالة على أصل العنف وعلاقته بنفسية الإنسان.

أصل العنف

يمكن إرجاع إشكالية العنف إلى الخلل الناشئ بين سعي الإنسان إلى إشباع حاجاته الفسيولوجية والبيولوجية وما تقدمه له الطبيعة من موارد ومواد قابلة للاستغلال، حيث نجد في غالب الأحيان أن موارد الطبيعة تكون ناقصة مقارنة مع متطلبات الناس، أو نجدها محتكرة من طرف مجموعة بعينها في حين تحرم منها مجموعة أخرى، فتسعى الفئة المستفيدة جاهدة إلى الحفاظ على امتيازاتها في حين تتوق الفئة المحرومة للوصول إليها وامتلاكها، وهو ما يجعل التصادم واردا، والذي يتحول عادة إلى صراع عنيف. وخير مثال لتأصل خيار العنف في نفسية الإنسان واستعداده الدائم للظهور متى كانت الفرصة سانحة، هو حادثة مقتل ابن آدم من طرف أخيه حينما تُقُبِل القربان من أحدهما ورُفِض من الآخر، فكانت تلك أول جريمة ترتكب في التاريخ. حيث فتحت شهية البشر لسفك الدماء بعد ذلك.

الحاجات السياسية وتجلي العنف

يعتبر إشباع الحاجات السياسية والتي يمكن أن تكون في غالب الأحيان عبارة عن مصالح، أهم ورش للصراع العنيف (الرمزي والمادي) بين الأشخاص والتنظيمات والدول... حيث يتحول امتلاك السلطة إلى هيمنة مطلقة وإكراه سياسي عن طريق الديمقراطية (صناديق الاقتراع) أو عن طريق انقلاب عسكريا كان أو أبيضا، وفي كلتا الحالتين نلمس ممارسة للعنف الذي يكون خفيا تحت غطاء قوانين وتشريعات وقيم أخلاقية في حالة النظام الديمقراطي وظاهرا للعيان في حالة الانقلاب حيث الإكراه النفسي والبدني. إذ أن الديمقراطية هي ضبط لتلك العلاقات المتوازنة بين مصالح الجماعات والأمم وهي قائمة على الإكراه بالضرورة ولو تحت قوانين قد تفوح منها رائحة الحرية والانفتاح. وخير مثال على ما نقول، ما يعيشه العالم اليوم من نزاعات مشروعة وغير مشروعة بين القوى العالمية المتصارعة على امتلاك مصادر القوة الاقتصادية والسياسية، كالإكراه الأمريكي في السياسة لمن هو مع الإرهاب (حسب الفهم الأمريكي طبعا) وتطبيع شامل مع من ضده، حيث تحولت الولايات المتحدة إلى آلهة بشرية تقهر الناس وتستعبدهم في الأرض وتدمر من يخرج عن صفها ويعصي أمرها. ومن سخرية التاريخ البشري أن القوى العظمى عبر التاريخ تبدأ في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية وتنظم لذلك مؤتمرات عالمية، لتصل في نهاية المطاف إلى الإمبراطورية والهيمنة والاسترقاق.

نحو ثقافة اللاعنف

كانت واقعة القتل الأولى في التاريخ درسا بليغا للبشرية في فقه المسالمة، حيث كان الحوار الدائر بين ابني آدم في غاية الروعة " لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " (سورة المائدة). حيث أن هابيل لم يبادر على الرد على اعتداء أخيه. فهذا هو المنهج الذي يجب أن يسود في العالم حتى يعم الأمن على الأعراض والمعتقدات وحتى لا تعيش البشرية مرحلة الطفولة بممارستها للعنف بتعبير جودت سعيد، حيث يلغى العقل العاقل ويحل محله العقل الغير العاقل ويعود الإنسان إلى مرتبة الحيوان حينما تصارع بعضها البعض. وقد كشف كاستون بوتول الذي درس ظاهرة الحرب إحصائية مهمة تقول أن في كل 13 سنة تسود فيها الحرب تقابلها سنة واحدة فقط فيها يعم السلم، وهو ما يؤكد غالبية نظرية الحرب على نظرية السلم والمهادنة.
ونسوق هنا تجارب تاريخية في التغيير اللاعنفي أو الدعوة إلا السلم، والتي بقيت نقوشها في التاريخ إلى اليوم. فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى مثالا يحتذا به حينما نهى أصحابه عن الرد على اعتداءات قريش إبان الدعوة المكية حيث كانوا يتظلمون إليه ما يقاسونه من عنف، بدعوى أن أسباب الجهاد لم تكن متوفرة آنذاك وهي الدولة الإسلامية والحكم الرشيد والقوة العددية. كما أن تجربة المهاتما غاندي ليست ببعيدة عنا، حيث واجه طغيان العسكر البريطاني بالمقاومة السلمية والمقاطعة الثقافية والاقتصادية والصوم والمشي حافيا، فكانت ثورته هادئة غير أنها استقطبت حوله الملايين من الهنود. أما اليابان فكان تعاملها مع حادثة إلقاء القنبلة في هيروشيما ونگازاكي خير درس تتلقاه الولايات المتحدة حيث لم ترد بالمثل بإلقاء قنبلة مماثلة في سماء واشنطن أو بوسطن وإنما حولت الدمار الناتج عن ذلك الاعتداء إلى نصر اقتصادي وثورة تكنولوجية غزت بها أسواق أمريكا والعالم. والأمثلة في ذلك كثيرة ولا يمكن حصرها.
بين المقاومة والعنف

وحتى لا يفهم من كلامنا أننا من المنادين إلى نشر ثقافة الخنوع والتبسيط واعتبار كل عمل مسلح أو غير مسلح عنفا غير مشروع، نقول بأن احتلال الأراضي واستعباد البشر يجب أن يقاوم، غير أن لهذه المقاومة شروطا وجب عدم تخطيها كاستهداف الأبرياء العزل والأطفال أو ضرب المعتدي في أرضه خارج رقعة الحرب، فالمقاومة المسلحة يجب أن تكون داخل الأرض المحتلة لا خارجها.

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved