اللغة، المكان، المحيط الثقافي

2013-06-02

في القرن الخامس الهجري ترك رجل بغداد إلى الأندلس من أجل أن يكسب المال مهرا لأبنة عمه التي أحبها، أخفق في مسعاه فمرض ومات. قرأنا القصيدة التي تركها أبو زريق البغدادي تحت وسادته ونحن تلميذات وتلاميذ في المدرسة:

قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
لا تعذليه فإن العذل يولعه

..............................
......................

عزم إلى سفرٍ بالرغم يزمعه
ما آب من سفرٍ إلا و أزعجه

للرزق سعياً ولكن ليس يجمعه
تأبى المطالب إلا أن تكلّفه

فما الذي بقضاء الله نصنعه
وإن تغل أحدأ منا منيتُه

شعرنا بحزن عميق وعرفنا أننا لن نهجر أرض مولدنا لأننا سنجتهد في الدراسة ونكسب خبز يومنا في المكان الذي ولدنا فيه. لكننا وجدنا أنفسنا ذات يوم في وضع لا ينفع فيه النصح، نقف أمام أبواب موصدة، ولم نجد إلا بابا واحدة ضيقة مفتوحة أمامنا، فنفذنا منها كارهين ووجدنا أنفسنا منفيين من الأرض ومن الحياة الثقافية التي كنا جزءا نشيطا منها.

تعريف الوطن والمنفى

ليس الوطن بقعة الأرض التي يحدها من الشمال كذا ومن الجنوب كذا فما هو إذن؟ ذات مرة سئلت في ندوة عامة عن الوطن فقلت موجهة الخطاب إلى الأصدقاء الذين ملأوا القاعة: أيها الأصدقاء أنتم وطني. هذه عبارة لا أستطيع أن أكررها اليوم، فقد تفرق الأصدقاء، وهم في تباعدهم لا يمكن أن يكونوا وطنا. ما هو الوطن إذن؟ أظنه المكان الذي يتعلم فيه المرء الخطوة الأولى والكلمة الأولى، حيث العيش في كنف الأمهات، الوطن هو العلاقة بين الأنا والمكان. أما المنفى فهو كل ما عدا ذلك.

لا شك في أن مغادرة المكان الأول ليست جديدة في الأدب العربي، وإن اختلفت أسباب الهجرة، واختلفت تبعا لذلك تسمياتها. المهجر كما يكاد يتفق عليه الدارسون لا ينطوي على القسر الذي ينطوي عليه المنفى، يبقي إمكانية العودة مفتوحة دائما، وينطوي على درجة من حرية الاختيار. وكثيرا ما يعتبر بحد ذاته نجاحا، ومن هنا فإن تأثيره النفسي على المهاجر مختلف عن تأثير الهجرة القسرية التي اصطلح عليها المنفى. المنفى هزيمة، تنقطع فيه صلة الكاتب بثقافة مجتمعه التي ترفده بمادة وأدوات عمله، تنقطع صلته بالمتلقي وتزداد الهوة بينهما اتساعا كلما طالت سنوات المنفى. ولكن ما الذي يجعل أدب المنفى موضوعا يثير اهتمامنا اليوم أكثر من أي وقت مضى؟

شهدت العقود الثلاثة الأخيرة هجرة كبيرة للأدباء من مختلف الأقطار العربية، بسبب ظروف الحرب كما حدث في لبنان أو بسبب الإضطهاد السياسي واستحالة العيش في ظل القمع كما حدث في العراق خلال أكثر من ربع قرن، أو بسبب الحرب كما في السنوات التي أعقبت الإحتلال الأميركي. أقام المهاجرون في البلدان المضيفة كمستجيرين، تتحدد إقامتهم باستمرار الظروف التي أدت إلى هجرتهم، أو لاجئين سياسيين. باستثناء عدد قليل إستطاعوا أن يجدوا ما يسهل إقامتهم دون الإضطرار إلى طلب اللجوء.

جعلت هذه الهجرة الكبيرة جانبا مهما من الأدب العربي ينتج في المنفى بالنسبة للبعض والمهجر بالنسبة للبعض الآخر. الحديث هنا لا يتناول جيل الأبناء، الجيل الذي نشأ في المهجر أو المنفى لأن ثقافة هذا الجيل هي ثقافة البلد المضيف بصورة عامة وإن خالطتها بعض العناصر من الثقافة التي ينتمي إليها الأبوان. وتبقى اللغة العربية بالنسبة لهؤلاء هي اللغة الثانية وحسب. هذا يعني أن أدواتهم اللغوية لا تكفي لإثراء الأدب العربي بنص جديد. قد يستطيعون في أحسن الأحوال أن يكونوا وسطاء في نقل الأدب العربي بترجمته إلى اللغات الأخرى، لكني لا أعرف إلا حالات نادرة من هذا النوع. نحن إذن بصدد جانب من الأدب العربي لا يحميه من الإنقراض إلا تجدد القمع والحروب والأزمات الاقتصادية التي ستدفع بجيل جديد من الكتاب إلى المنافي.

رغم رغبتي تجنب صيغة المتكلم لكنني سأتحدث هنا عن تجرية شخصية، عن منفى دام أكثر من ثلاثة عقود ولا يزال قائما، ورغم أن تجربة المنفى متشابهة بالنسبة للأدباء الذين عاشوا هذه التجربة، إلا أن ثمة اختلافات بين الأشخاص في التعامل مع هذا الوضع الخاص، وبين تعامل الشخص نفسه مع المنفى في الفترات المختلفة من اغترابه.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved