لم أدرِ ما طِيب الكهرباء ...

2020-06-23

" نعيم الكهرباء الغائب عني في جحيم الإقامة الجبرية بسبب الكورونا السافلة  "

اعترف -- دون أن أكون مفاخرا أحدا -- بأنني قد أكون من القلّة القليلة جدا من المحظوظين في بلاد مابين النهرين أو قل القهرين -- وسيان هذان الاسمان -- ممن لم يتأثروا بهموم الكهرباء وانقطاعاتها وشجونها في عراق الحضارات والمرارات معا مذ حللت في ارضي العام  /2004    بعد غربة طويلة في المنافي البعيدة والقريبة .

لم انشغل بتصريحات مسؤولينا السياسيين " الصادقة جداً " الذين صيّروا ماء البحر " طحينة " كما يتندر الأشقاء المصريون  ومواعيدهم التي فاقت مواعيد عرقوب في التسويف والتأجيل والآمال الوردية الخادعة بان الكهرباء ستصل إلى بيوتنا ومصانعنا وبقية المرافق الحيوية المعتمدة اعتمادا كليا على الطاقة الكهربائية وسوف يتم تحسين الطاقة الكهربائية خلال الشهور المقبلة والحاضرة وحتى السالفة؛ فقد استشرفنا المستقبل وعشنا الحاضر ومِلْنا برقابنا حتى إلى الماضي نتوسل اليه كي يعيدنا إلى سابق عهدنا ولكن دون جدوى رغم الميزانيات الهائلة التي صرفت والتي فاقت الأربعين مليار دولار المخصصة لإعادة التيار الكهربائي متواصلاً .

غير أن هذا المبلغ الضخم جدا والذي قد يفوق ميزانية عدة دول مجاورة؛ أقول ان تلك الثروة التي لا تخطر على البال غيّرت مسارها إلى جيوب السحت والمآل الحرام والصفقات المريبة والعقود الوهمية والأجهزة الرخيصة من المواد الإحتياطية العليلة ذات المناشيء الرثة التي لا تقاوم هجير قيظنا الذي يمتدّ حتى نهاية أيلول وربما يأخذ أياما طويلة من تشرين الأول .

ولا ننسى بعض التصريحات السابقة التي صارت أضحوكة الناس يتفكهون بها ومفادها ان العراق في طريقه إلى تصدير الكهرباء إلى دول الجوار وغير الجوار باعتبار أن الطاقة الكهربائية الهائلة عندنا لا يمكن تخزينها .

ذكرتُ بان طاقة الكهرباء لم تفارق مسكني ما يربو على ست عشرة سنةً دون أن ادفع درهما واحداً فقد أكرمني جاري النبيل الموسّر الملاصق لي بعشرة أمبيرات من مولّدته الكبيرة الخاصة به فور أن وطأت قدماي بيتي ولم يعبأ برفضي استحياءً ولكنه أصرّ على مساعدتي وتحمّل حتى مصاريف إيصال الأسلاك من جيبه الخاص .

 والحق إني كنت مستمتعا سعيدا بما وهبه لي هذا الجار  النادر في وقت الأزمات والويلات الكبيرة حتى نسيت ما يعانيه أبناء وطني من شحة أطايب ومنافع الكهرباء .

ولأن دوام الحال من المحال فقد عزم جاري على الإنتقال إلى مسكنه الجديد والذي شيّده مؤخرا البعيد عني شأوا طويلا وفعلا قام بنقل مولدته  المعطاء مع أجزاء أخرى من أثاثه؛ فما كان مني الاّ أن أعيش شظف الظلام والحرّ اللاسع هذا الصيف واغرق أمَدا طويلا بالعرَق الذي أخذ يتصبب من جسمي فاضطررت مرغما إلى التوجه لصاحب المولّدة التي تغذي قسما من الحيّ الذي أنا فيه واطلب منه سبعة إمبيرات لكنه اعتذر متذرعا بان مولدته لا تتحمل قدرات أكثر وهي تعمل بأقصى طاقتها ولم تنفع توسلاتي ورجائي للتعاطف معي وتغذية بيتي بالطاقة الكهربائية .

واضطررت إلى مراجعة مسؤول مولدة أخرى أبعد قليلا منه من حيث المسافة وحصلت على خمسة أمبيرات ولذا تحتم عليّ أن أشتري خمس حزمات من الأسلاك وأستأجر سُلّما بغية إيصال التيار الكهربائي الصعب المنال إلى بيتي وهكذا كان بعد أن ذقتُ مشقة التعب الشديد صعودا ونزولا على السُلّم وحدي دون مساعد يؤازرني ويخفف عني حتى أوصلت الأسلاك لمغذَّي المولدة بشقّ الأنفس .

من يدري ربما يفيض العراق بالكهرباء في السنوات القريبة اللاحقة بعد ان تمسكه أيدٍ امينة وتدلّه إلى مصادر الضوء وتنير ربوعه ومصانعه وبيوتاته وربما تُزيد من انارة عقله وثروته ولكن حتما سيكون هذا التنوير بأيدٍ غير هذه الايدي التي تقودنا الآن لتنجينا من الهوّة العميقة التي تكاد تقبرنا الآن .

سبحان الله مغيّر الأحوال فمن سرّه زمن ساءته أزمان ، كحالي حين افتقدت نعيم الكهرباء يوم رحيل جاري الأكرم الذي كان جنبي وكذا رحيل ساستنا العاجزين المارقين من بلادي كلها؛ بثرواتها الهائلة والتي لم نلمس منها حتى مجرد فانوس خافت الضوء فكيف نريد من مسؤوليها إيصال التيار الكهربائي العسير المنال .

ما أصدق فقيهنا أحمد بن حنبل حينما سُئل : كيف تعرف الكاذبين فأجاب بلا تردد :

الأمر بسيط جدا يكفي أن تنظر نظرة عابرة إلى مواعيد عهودهم هل أنجزت أم بقيت في خانة التسويف والتأجيل والعجز وربما العمد على عدم إنجاز أي شيء يرقى بأهليهم لغايةٍ سيئة في نفوسهم .

 

 

 

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved