تتجلّى أمام عالم اجتماع الأديان اليوم تمظهرات شتّى للدّين، متمثّلة في حركات دينيّة جديدة، وأصناف مختلفة من التشدّد الدّيني، ونماذج متنوعّة من التوليفية والمسكونية، وأيضا علاقات متوتّرة بين الأديان، مع ارتفاع المناداة بهويات مميّزة عرقية وسياسية في العديد من البلدان، وكذلك أنماط من التديّن العلماني، وتمازج بين الدّين وادعاءات الإشفاء، مع تطوّرات نحو أشكال من الاعتقادات الليّنة والنفعية (الدّين الجاهز)، تشهد كلّها بشكل أو بآخر على ديمومة الأهمية الاجتماعية للدّين حتى داخل المجتمعات العَلمانية الذّائعة الصّيت.
الحركات الدّينية الجديدة
لقد شدّ انتباه عديد علماء الاجتماع، خصوصا البريطانيين منهم، مثل إلين باركر وجيمس. أ. باكفورد وبريان ولسون ، ظهور تجمّعات دينيّة جديدة، ذات مرجعيّات تراثية شرقية، في قلب المجتمعات الغربية ذاتها، محبّذين تجاوز نعتها بكلمة نِحَل إلى تسميتها بالحركات الدّينية الجديدة. يمكن أن تكون التّسمية محلّ تساؤل، فهل توجد بحقّ ظواهر مستجدّة؟ وهل تنبع كلّها من الدّيني؟ فلكل من تلك الحركات ينبغي طرح تلك التساؤلات على حدة.
ولكن لا بأس من المحافظة على تلك التسمية لنعت، ولو بصفة إجمالية، الشّتات المتنوّع للوقائع الاجتماعية الدّينية التي تطوّرت في مجتمعات شتى خلال العقود الأخيرة. وحتى وإن جرى تهويل الظاهرة من قبل الإعلام فإن هناك اتفاقا بشأنها، فقد احتلّت مجموعات حيزا في الفضاء الغربي وغير الغربي، نذكر أمثلة ثلاثة على ذلك: كنيسة العلمولوجيا -Scientologie، والسوكا جاكاي –Soka Gakkaï-، وما أطلقت عليه فرانسواز شمبيون "الكوكبة الصوفية الغيبية" .
- كنيسة العلمولوجيا: تمّ بعث هذه الكنيسة سنة 1954، من طرف الأمريكي رون هوبّارد (1911-1986)، وقد انشغلت بالديانتيك، وهو علاج إشفائي يعرض بصفته علما حديثا للصحّة العقليّة. تمّت بلورته مع الكاتب المذكور سنة 1950، انطلاقا من العلاج النفسي، والذي تحوّل لاحقا إلى ديانة. وقع التشكيك فيه منذ سنة 1950، من طرف جمعية علماء النفس الأمريكيين. وبحسب الاعتقاد العلمولوجي، تواجدت قبل خلق الكون أرواح مطلقة العلم وخالدة، تسمّى ثيتان، وجرّاء الأصل الرّوحي للإنسان فقد حلّ ثيتان في جسد، ومرّ عبر ألوف الكيانات البشرية. وعبر الإصغاء الديانتيكي، والعلاج العلمولوجي، يصبح الإنسان مهيّأ للتحرّر والتحوّل إلى ثيتان إجرائي، أين يعثر بداخله على الحرية وعلى الثيتان الكامن فيه.
تضمّ العلمولوجيا تنوّعات متفرّقة، فهي نظرية نفسية أين يماثل الجهاز النفسي الحاسوب، وهي منهج لتطوير الذات، فيها توظيف للتكنولوجيا أين يستعمل جهاز يسمّى الكهرومتر وظيفته تفريغ شحنات المشاعر، وهي فلسفة دينية تتحدّث عن المافوق طبيعي دون التحدّد بإله معيّن، وهي تنظيم موغل في البيرقراطية المؤسساتية. تبدو آثار الحداثة جليّة على هذه الحركة، فهي ديانة معروضة في ثوب علمي وقابلة للاختبار بشكل تجريبي. وقد زعمت العلمولوجيا في بعض الأحيان التعويض للمؤمن-التبيع في صورة عدم رضائه، إذ تبغي هذه الكنيسة التنظّم عقلانيا. وبحسب دراسة قيّمة لرُوي والّيس حول هذه الحركة، يظهر هيوبرت بمثابة "النبي البيرقراطي"، في حين رأى آخرون في العلمولوجيا أنها "بوذيّة تكنولوجية". وعلاقات هذه الحركة مع الفضاء الاجتماعي المتواجدة فيه محكومة بالتوتّر، بفعل ما تلوّح به من دور إشفائي وديني غير مجاني، لذلك تضمّ كنيسة العلمولوجيا زبائن لا أتباع. ومن اللاّفت التنبّه كون الأفراد المشايعين للعلمولوجيا، هم من الشّرائح المترفّهة نسبيّا والمندمجة بنجاح في النّسيج الاجتماعي، ويفوق عدد الرجال النّسوة فيها، والملاحظ في الولاء للعلمولوجيا أنه لا يلغي الانتماء لغيرها.
ويرى ب. ولسون أن العلمولوجيا هي علمنة للطرق المؤدّية للخلاص، جرّاء ما توفّره من وسائل تقنية باحثة لإزاحة التشنّجات الشّعوريّة الطّارئة. ومن ناحية أخرى فالله مقدّر لديها بمثابة قوّة أو روح، وليس معبودا يصلّى له ويرتجى بانتظام. فذلك التصوّر لله له آثارٌ على مستوى الشّعائر والأخلاق، ومن شأنه أن ينتج تديّنا فاقدا للحميمية الجماعية، وتقوى خالية من الخضوع، إنه تديّن ذو صبغة عصرية جليّة، باحث على دعم الكيان الذاتي.
- السوكا جاكاي أو "جماعة خلق القيم"، عرفت الظهور في اليابان سنة 1937، وهي منظّمة دينية خاصة باللاّئكيين، تنتسب إلى الإيمان البوذي على طريقة نِشِران شُوشي الذي تواجد خلال القرن الثالث عشر ميلادي . عرفت الحركة بعد سنة 1945 انتشارا واسعا في اليابان، أين أسّست حزبا سياسيا يسمّى الكميتو، يهدف إلى التحضير لانبلاج حضارة ثالثة تمزج بين المادية والرّوحانية، منطلقها البوذية. ومدفوعة بذلك البرنامج الإصلاحي ذي الخاصيات الاجتماعية الثقافية، انشغلت السوكا جاكاي العالمية بنشاطات عدّة داخل المؤسّسات الدّولية، بصفتها منظّمة غير حكومية ترنو لإرساء السّلم العالمية. إنها تشكل جزءا من الدّيانات الشّرقية التي انتشرت في بقاع شتى من العالم، وخصوصا في الغرب .
في فرنسا أتباع السّوكا جاكاي هم في الغالب من ذوي المستويات الثقافية الرّاقية، وفي بريطانيا ينتدب الأعضاء خصوصا من بين أصحاب المهن التربوية، والطبّية والفنّية -76% منهم لم ينخرطوا في أي تنظيم ديني- . ولا يستلزم الانتماء للسوكا جاكاي هجران العالم أو الحياة الجماعية، بصفة الفضاء الاجتماعي هو ميدان النشاط، بل يُلزِم فقط بحضور بعض اللّقاءات فحسب. والانتماء مشروط بترتيل الـمَنْتَرا -نصّ من كتاب الفيدا الهندي- كلّ يوم أمام مذبح منزلي، أين يتربع النشِران، عبر التضرّع لغوهنزون غاية بلوغ السّلم الباطنية. والجليّ في السوكا جاكاي تميّزها بنشاط حثيث، فهي بوذية نفعية، أكثر من كونها تحكّما بالرغبة، تسمح بتجاوز الخيبات وكبح العذابات.
- النوع الثالث لا يشكّل جماعة محدّدة، ولكن كوكبة من التجمّعات تتّصف بليونة الانتماء، بينها يترحّل الأتباع بكل حرّية دون انخراط دائم وثابت. هي شبكات التفّت حول بعض المجلاّت، أو المكتبات، أو مراكز الترويض، أو تطوّرت كذلك حول منتديات المحاضرات التي تعرض تجارب وأبحاث ذات طابع روحي.
حيث نجد تقاليد باطنية موغلة في القدم، وعلوما غيبية، وحركات إشفائية، وتيارات صوفية، إنها حركة غير جليّة الحدود تشمل ممارسات متنوّعة. يضبط علماء الاجتماع خصائص مشتركة بينها، منها البحث عن الخلاص عبر السعي لبلوغ السّكينة في عالمنا؛ والتثمين للتّجربة الخاصة بما لها من صلة بالاختبار الذاتي، لا بصفتها ضربا من الاعتقاد المسقط، حيث يلزم كل فرد العثور على الطريق التي تنبغي له؛ والإيمان الشمولي بوحدة أساسية بين الكائنات والجمادات فيها الشعور بالانتماء إلى كلٍّ متّسعٍ؛ والائتمان على الذّات والتطوير لفكر وضعي. وقد كشف ف. شمبيون عن اعتقاد تلك الشّبكات الصّوفية الغيبية في صلة وثيقة بين العلم والدّين، لما لها من تأويلات علمية لمفاهيمها الدّينية. وبالإضافة، عاين ج. ب. رونار في دراسته للاعتقادات الخفيّة تواجد توليفية علمية دينية لديها.
تعرض الأمثلة الثلاثة بعض الخصائص الأساسية المشتركة بين هذه الحركات الدّينية الجديدة، إذ تبدو أحيانا في غاية التطوّر في مجال التنظيم وفي استعمال التقنيات الدعائية. كما يحوز الاختبار الذاتي لديها قيمة عالية، فالأفراد مدعوون لتفحّص حرّ للتوجّه الذي يحقّق لهم سعادتهم، أكثر من كونهم ملزمين بالتقيّد بجهاز عقدي محدّد. حيث السّلطة الدّينية ممارسة بطريقة حاذقة، وحتى وإن كانت الممارسات المقترَحة مرسومة بشكل مضبوط، يبقى الفرد دائما مدفوعا باتجاه ذاته. إنه دين للاّئكيين أكثر من كونه دين إكليروس، فالأفراد هم المعنيون بوضع أسسه وقواعده. وبإيجاز، يتّجه دين هذه الحركات إلى عالمنا الأرضي، وبهذا المعنى فهي شهادة جليّة على النّظام الاجتماعي القائم، عبر ما تضفيه من مسحة اجتماعية على القيم السّائدة.
وبحسب المعاينات نلاحظ اهتماما جليا بالمشاعر، أو بصورة أوضح بالتحكّم العقلي بها. وتشكّل تلك الشبكات، المنسوجة من قبل تلك الحركات ذات الصبغة العالمية، محطّات متعدّدة الجنسيات للنجاعة الخلاصية. تميزها ليونة الاعتقادات، وسهولة المشاركات، ويسر الانتماء والتحوّل والعبور من جماعة إلى أخرى. كما تبدو هذه الحركات منفتحة بدرجة كبيرة، مقارنة بالدّيانات الحالية، حيث تقبل بالانتماء المتعدّد، مطوّرة نظرة شمولية باحثة عن المصالحة بين مظاهر التعارض الكلاسيكية، بين الفرد والمجتمع والكون، وبين الرّوحي والمادي، وتُولي كذلك اهتماما كبيرا للصحّة، حيث تزعم أنها صنو إشفائي للطبّ المدني .
إننا نمرّ بشكل خفيّ، كما عاين بيار بورديو ، من علاج الأبدان إلى علاج الأرواح، وبالعكس أيضا. لذلك نتردّد عند الحديث عن الطابع الدّيني المحض في ما يتعلق بتلك الحركات. ومن ناحية أخرى، إذا ما كان عدد منها قد عرف الظهور أخيرا في المجتمعات الغربية فقليل منها من مثّل جدّة جذرية. فيكفي أن نتوجّه نحو السّاحات الثقافية الإفريقية والآسياوية والأمريكية اللاتينية، لنعاين أن غليان تلك الحركات الدّينية والدوائر التوليفية، كان متواجدا منذ فترة متقدّمة. في النهاية، عديد من تلك الحركات تمأسست وأصبحت مؤسسات غارقة في البيرقراطية، تدنو من التحديد الفيبيري الترولتشي للكنيسة. كما يبقى ظهور تلك المنظّمات في المجتمعات المتطوّرة كاشفا عن كون الحداثة هي مسرح أيضا للإحداثيات الدّينية الحاملة لسمات جد متطوّرة. فقد تطور نمطٌ من التديّن المتعدّد الأوجه خصوصا داخل المجتمعات الغربية، وقد رسم جون فرانسوا ماير بانوراما شيّقة لذلك في سويسرا . ولم تستثن الظاهرة روسيا، التي تعرف كافة أنماط الحركات الدّينية الجديدة التي ظهرت في الغرب بين سنوات 1970-1980 .
الأصوليات والتقدّميات
تطوّرت مع حقبة الثمانينيات العديد من الأنماط الدّينية الراديكالية، مثل الأصولية الكاثوليكية، والبروتستانتية المتشدّدة، واليهودية التمامية، والحركة الإسلامية، والأرثوذكسية البوذية . وإذا ما كانت الظاهرة تعني بدرجات متفاوتة مختلف الدّيانات، فهل ينبغي وعيها ضمن رؤية موحّدة تتلخّص في الأصولية؟ ليس هناك شيء متأكّد، لأن كل تقليد ديني ينفرد بمنطق خاص، وأين الآثار الاجتماعية لتلك الراديكالية غير متماثلة.
يعود مصطلح الأصولية -Intégrisme- إلى الأزمة التي عرفتها الكاثوليكية، فترة إعلان الرسالة البابوية الاجتماعية الأولى (Rerum Novarum) سنة 1891م. أين تواطأت رؤى متنوعّة خطّطت لإعادة اجتياح الكاثوليكية للمجتمع، سواء بإعادة تنظيم الكنيسة بحسب امتيازاتها السابقة، أو بأنجلة الأفراد في شتّى الفضاءات، مثل برنامج العمّال الكاثوليكي: "لنراجع إخواننا الكاثوليك". وبشكل آخر ولّدت تلك الأزمة، كما بين إميل بولا ، ضربين من التصلّب الكاثوليكي، أي وجهين من المعارضة الكاثوليكية الرّاديكالية للحداثة، المتجسّدة في اللّيبرالية السياسيّة واللّيبرالية الاقتصادية. مع رفض الانفتاح الاجتماعي والسّياسي على طريقة الكاثوليكية الاجتماعية، رفضت تلك الموجة الأصولية المبكّرة أيضا، المقاربة العلمية، اللِّغاوية والتاريخية، لنصوص الكتاب المقدّس. لقد تجلّى الخلاف حول الحداثة عبر إدانة ألفريد لويزي .
إنه حول مسألة تأويل قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني، أين تبلورت الأصولية الحالية التي تحبّذ نعت ذاتها بالسّلفية. تلك الحركة الممثّلة في شخص المونسنيور لوفابر (1905-1990)، الذي صدر قرار بحرمانه سنة 1988 بعد أن سام أربعة أساقفة، والذي تعترض حركته على عديد الإصلاحات والتجديدات المتّخَذة في الكاثوليكية، كما تتطلّع إلى إحياء بعض الممارسات القديمة في العملية الطقسية، مثل القدّاس على سنّة بِيوس الخامس، وعظة بيوس العاشر، اهتداء بتعاليم مجمع ترانت، واستعمال ترجمات قديمة للكتاب المقدّس. إنها ردّة فعل على التحوّل الدّيني، غايتها ردّ الاعتبار إلى بعض الصيغ الشعائرية السّابقة وتدعيم سلطة الكهنة ودورهم.
وأما يتعلّق بالراديكالية الدّينية البروتستانتية، التي ليست وليدة اليوم أيضا، فقد جرى نعتها بـ: -Fondamentalisme- . لقد رفض هؤلاء البروتستانت المفاهيم الداروينية بصورة خاصة، مرتئين أن تلك النظرية تزعزع أسس الكتاب المقدّس حول الخلق.
وفي الولايات المتّحدة وأثناء حقبة الثمانينيات، سعى بعض الأصوليين البروتستانت عبثا لمنع تدريس النّظريات البيولوجية، المتعلّقة بالتطوّر في المدارس العامة، بتعلّة أن ذلك التدريس يتضارب مع الحياد الدّيني للمدرسة. ففي تقليد ديني يولي أهمية للنّصوص المقدّسة –المعنى هنا الكتاب المقدّس بشقّيه التّوراتي والإنجيلي- بصفتها منبع الحقائق الدّينية. فليس مستغرَبا أن يتركّز الانتقاد المحدث من قبل الأصولية حول مسألة تأويل النصوص. فإذا ما كانت الأصولية الكاثوليكية ترنو إلى إحياء الممارسات الشعائرية السالفة، فإن الأصولية البروتستانتية تلتقي حول البحث عن الوفاء لمقصد النصّ. وليس الأصوليون البروتستانت سلفيين يرفضون المجتمع المعاصر، بل نجدهم أحيانا يُظهرون مقدرة عالية في التحكّم بتقنيات الاتّصال الحديثة، إلى جانب قبولهم باللّيبرالية السياسية والاقتصادية، مع سعي لإضفاء صبغة أخلاقية عليها. فهدفهم استقامة سلوك الناشطين والتزامهم نهج التقوى. حيث يسعون إلى إرساء الفضيلة -كما يعونها- وإضفاء مسحة أخلاقية على المجتمع، مع إظهار الوجه النشيط للمسيحية، أين يتكاتف الواعز الخلقي مع الفعل الاجتماعي. بخلاصة موجزة، الأصولية البروتستانتية هي صرامة عقدية وأخلاقية أكثر من كونها تطرّفا ذا طابع سياسي.
أما في الفضاء اليهودي فتتجلّى الراديكالية الدّينية عبر تيارين هامين: الأرثوذكس المتشدّدون والقوميون المتديّنون.
• الأرثوذكس المتشدّدون: يرفض هؤلاء بشدة حداثة المجتمع وعلمنته، حيث يلوّحون بيهودية تمامية ، أي يسود نمط حياتي حسب التعاليم اليهودية، تراعى فيه بدقة التّعاليم الفقهية بشأن السّبت والميتسفوت -613 أمرا ونهيا موزّعة في التوراة-. فمع البعض، يعني ذلك الهجر بقدر المستطاع للمجتمع، لتجنّب الآثار السلبية النابعة عنه، وذلك حال جماعة ناطوري كارتا المستوطنة بحيّ الأرثوذكسية المتشدّدة، حيّ مي شريم في القدس. وبالنسبة للنّوع الثاني، مثل الحاسيديين اللّوبافيتش، فإنهم وبطريقة مخالفة، ينخرطون في أنشطة مكثّفة داخل المجتمع غاية إعادة تهويد المؤمنين المتواجدين في المجتمع العلماني. تَتَرجم ذلك في الساحة السياسية في إسرائيل، عبر الظهور خلال انتخابات 1988 لعدّة أحزاب دينية، مثل أغودات إسرائيل، الذي يعمل لأجل جعل الشّرائع الدّينية تهيمن على القوانين المدنية داخل مؤسّسات الدّولة وأنشطتها.
• القوميون المتديّنون، يناضلون من أجل تحقيق إسرائيل الكبرى، ولهم طمع بتحقيق الاستيطان الدائم في الأراضي المحتلة خلال حرب الأيام الستة سنة 1967، وتجسّد غوش إيمونيم -كتلة الإيمان- هذا التيار.
وتعتبر الجماعات ذات الخصائص النبوية والملتفّة حول زعيم ديني كاريزمي كلاسيكيةً في تاريخ الأديان. فبقدر ما تنسحب من العالم بقدر ما تتكيّف، بشكل أو بآخر، مع فضائها الخاص، عبر تأويل مستجدّ للرّسالة النبوية، وعبر تنظيم لمواصلة رحلة التواجد. فبعض الحركات مثل شهود يهوه، تحوّلت إلى جماعات موغلة في البيروقراطية . إضافة إلى ذلك، فبعض حالات الانتحار الجماعية داخل بعض الجماعات الدّينية، الجارية خلال السنوات الأخيرة، تعبر عن حالات متفرّدة تكشف عن بلوغ الراديكالية الدّينية نوعا من السلطة الشمولية، تتحكّم حتى بِرِقاب أعضائها، كما الحال مع جيم جونس، زعيم معبد الشعب بغويانا سنة 1978 ، ومع دافيد كوريش زعيم طائفة الدافيديين بواكو-التكساس سنة 1993.
وبشكل عام، ما تفرزه المسيحانية من تميز يعبّر عن احتجاج اجتماعي سياسي، يمكن أن يبلغ أقصاه بتبني الانقلاب الثوري. كما أوضح ذلك ميكائيل لوي في دراسته عن اليوطوبيات التحرّرية، الناشئة في الأوساط اليهودية بأوروبا الوسطى، حيث "تتخذ بعض التشكيلات الدّينية دلالات سياسية، كما تتخذ بعض تشكيلات اليوطوبيات الاجتماعية مسحات دينية" .
ولا تنخرط الراديكالية الدّينية كلّها ضمن طابع موحّد، من المحافظة والدفاع عن القيم المهدّدة بالتواري؛ بل هناك أنماط يجوز نعتها بالتقدّميات، حيث يتشابك الدّين لديها بالاحتجاج الاجتماعي السياسي. إحدى الأمثلة المعبرة عن ذلك حركة "لاهوت التحرّر" بأمريكا اللاتينية، النابعة من الأوساط الشعبية، والناشطة خصوصا خلال السبعينيات والثمانينيات، في البرازيل وأمريكا الوسطى. إن الأمر لا يتلخّص فحسب في إنتاج نظري، يتطلّع لإعادة قراءة التراث المسيحي عبر تحيّز للمحرومين وسعي لتحرر اجتماعي وسياسي للكتل الشعبية، وإنما يتجاوز ذلك إلى تشكيل حركة اجتماعية متكوّنة من جهاز كنسي رسمي معبر عن شعبوية إكليروسية، وليس مجرّد حركة شعبية استطاعت بعض الجماعات المحرومة تسلّق سدتها.
فبحسب د. هـ. ليفين، يتميّز لاهوت التحرّر بثلاث خاصيات أساسية:
- تأويل الإيمان المسيحي انطلاقا من عذابات المحرومين وترجّياتهم.
- قراءة نقدية للمجتمع والإيديولوجيات.
- انتقاد لنشاط الكنيسة والمسيحيين، معبّر عن وجهة نظر الفقراء .
فعبر الدفاع عن الحريات الديمقراطية والدّعوة إلى ترسيخ مبدأ انفصال الكنائس عن الدّولة، طوّر لاهوت التحرر، كما بين مايكل لوفي ، انتقادا هاما لبعض مظاهر الحداثة السلبية، مثل الرأسمالية، والفردانية، وخوصصة الدّين، وإيديولوجيا التحديث لدى نخب أمريكا اللاّتينية. وبحسب مايكل لوفي هناك إعادة بعث معاصر للتراث، ولّد تفجّرا مزدوجا بين الحداثة والتراث، بين الدّين والعالم المدني.
الأديان والسّياسة
تربط التقدّميات بشدّة، كما هو شأن الأصوليات، بين الدّين والسّياسة، إذ ليست تلك الصّلة حكرا على الحركات الدّينية فحسب. نجد أعمال جورج بالانديي تحلّل عديد أوجه تلك الارتباطات، خصوصا التي تجلي الوحدة الجامعة بين النّسق والرّمز. فلطالما أضفيت على السّلطة شرعية مقدّسة، وما نشاهده من استقلالية السّياسي عن كلّ هيمنة دينيّة، كما هو جار في الغرب، هو المنتهى الطبيعي لمسار تاريخي طويل. إذ تحرّر السّياسي عن الدّيني لم يبرز فجأة، فعادة ما تترجم في تقديس لما هو علماني. بشكل مغاير إذا ما تحول السّياسي أحيانا إلى دين فإن الدّين بالمثل قد يتحوّل إلى سياسي أيضا. سواء عبر إضفاء شرعية على الواقع المعيش، أو بالعكس عبر نمط احتجاجي من خلال مباركة التغيير الاجتماعي السياسي. فحتى الجماعة التي تلوّح بالانعزال عن مشاغل الحياة الاجتماعية تنجرّ عن مواقفها آثار سياسية. فليس هناك شكل للحديث عن الله في استقلالية تامة عن المجال السياسي، لأن كلّ لاهوت يروّج رؤية خاصة عن الواقع الاجتماعي، حتى وإن جاءت تلك الرؤية مضمَرة. يبقى الاختلاف جليّا بين الجماعات الدّينية ذات الطابع الكنسي وذات الطابع النِّحلي، حيث تتميّز الآثار السياسيّة للجماعة الدّينيّة المتغلغلة في المجتمع، والمحققّة لوئام معه، عن الجماعة التي تعيش قطيعة مع وسطها الاجتماعي الثقافي. فمن وجهة نظر نموذجية نلحظ الأولى تدعم إقرار الواقع والثانية تثير الاحتجاج عليه. ولكن هذا لا يمنع، وبصفة إجرائية، من ملاحظة ممارسة المؤسسات الدّينية المستقرة وظيفة نبوية، في حين الجماعات التي في قطيعة فهي تعيش تكيفا اجتماعيا مع القيم السائدة. فيمكن أن تخفي اللاامتثالية الإقرار، ويمكن أن تعبر نقيضتها عن الاحتجاج.
وغالبا ما دمجت الوحدة السياسية مع الوحدة الدّينية، فالمبدأ القائل: كما تكون الدّولة يكون الدّين –Cujus regio, ejus religio- رسم الخارطة الدّينية لأوروبا، وللعديد من الفضاءات الاجتماعية في العالم، مثل دولة باكستان الإسلامية، التي تسير حسب التعاليم الدّينية. فاستقلالية السّياسي تسير سويا مع الإقرار بالتعددية الدّينية، وأي اعتراف يعني أن الوحدة الوطنية قد تمر عبر طريق مغاير للتقليد الدّيني، وأن المواطَنة قد تتحقّق في غياب الإبراز للوجه الدّيني، والثورة الفرنسية جلية التعبير عن ذلك الأمر. ولكن من اللاّزم التنبيه، أن تلك الثّورة قد أضفت نوعا من التّقديس على ما هو سياسي.
فكما أوضح باتريك ميشال في حالة أوروبا المسَفْيتَة ، بإمكان الدّين أن يتحوّل إلى حاجز منيع يواجه السّلطة الشمولية، التي تخطّط لحشر المجتمع المدني تحت مظلّة السياسي، رافضة ترك الاستقلالية للديني. ذلك أن الدّين في الأنظمة الشيوعية قد حضر ضمن ثلاثة أنساق فاعلة، مضاد للاغتراب على مستوى الفرد، ومضاد للشمولية على مستوى الجماعة، ومضاد للسّفْيَتة على مستوى الدّولة . ففي الصّين وكما بيّنت فرانسواز أوبان، تَرافق أفول الشيوعية مع انبعاث الدّيانات التقليدية، مثل الطاوية والإسلام والمسيحيّة، فالفائض المادي الناتج عن اللّيبرالية الاقتصادية والإيديولوجية في الثمانينيات، جرى اسثماره، ليس في نِعَم استهلاكية فحسب، ولكن في تشييد فضاءات عبادة أيضا، وتنظيم احتفالات جماعية مكلفة . فبعد أن كان الدّين مخزنا تُستمدّ منه الشّرعية للنّظام الشّمولي، تحوّل إلى إدانة صارخة لانغلاق المجتمع على ذاته. ذلك الدفع للدّين للواجهة الأمامية للاحتجاج على الشّمولية، لما للدور الذي يمكن أن يلعبه كما كان شأن الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا الشرقية سابقا، يبرز التأثير الاجتماعي السياسي للدّين في بعض الحالات. وفي الوقت نفسه لا تعني تغيّرات الدّيني بالضبط حيوية مستجدّة، بل ظرفية مناسبة لظهور ما يسمّى بممارس الطقوس غير المؤمن.
فبسقوط النّظام الشمولي، أصبحت الكنائس، أماكن الصلاة والعبادة، مفتوحةً للأشخاص المعنيين بذلك. وكما لاحظ ب. ميشال، انه إذا ما ساهمت الكنيسة الكاثوليكية في دفع المجتمع البولوني نحو تحقيق حداثته السياسية، فإن ما يتوجب عليها اليوم هو ترسيخ تلك التعددية، والاكتشاف بنفسها، كونها ليست سوى توجّه من التوجّهات المقترحة، للأفراد الباحثين عن استقلالهم .
وعلى مستوى التوجّهات السّياسية المستوحاة من تتبّع السلوك الانتخابي، يعاين علماء الاجتماع أن العمل الدّيني جليّ الأهمية. فقد بين جوي ميشلا وميشال سيمون في مؤلّفهما: "الطبقة والدّين والسلوك السّياسي" -1977-، أن درجة الانتماء للكاثوليكية، تبقى المحدّد الأساسي للموقف السياسي للفرنسيين. مما لا يحد من تطوّر نسبي نحو تعدّدية سياسية داخل الجماعة الكاثوليكية . وفي ألمانيا، برغم التعددية، لاحظنا خلال الثمانينيات، صلة متينة بين التصويت لحزب (CDU) والكاثوليكية من ناحية، والتصويت لحزب (SPD) والبروتستانتية من ناحية أخرى . وفي أمريكا اللاّتينية وكما لاحظنا، يمثّل لاهوت التحرّر توجّها دينيا مواليا للمحرومين، مما مكّنه من إشاعة تشكيك في البنى الاجتماعية السّياسية القائمة. وفي الولايات المتّحدة دعمت الأغلبية الأخلاقية –Moral Majority- رونالد ريغن في اعتلاء سدّة الرئاسة. وفي الهند ينادي حزب بَراتِيا جَناتَة بدولة هندوسية، ويتّهم لائكية النّظام السّياسي الهندي الذي يضمن التعددية الدّينية.
كما يتدخل العامل الدّيني في السّياق الاندماجي لدى الأوروبيين، فاليوم سواء على مستوى الاتحاد الأوروبي أو على مستوى المجلس، يؤكّد العديد على أهمية التراث الدّيني في تدعيم الهوية الحضارية المشتركة بين الأوروبيين. وتبقى الصّيغة التي يُعبّر بها عن تلك الهوية مثار جدل واسع في الأوساط الدّينية واللاّئكية . كما تبقى المسألة الأساسية تدور حول القبول بالمجتمع التعدّدي وبلائكية المؤسّسات العامة، وهو ما يمثّل تحدّيا للدّول ذات التراث الأرثوذكسي، التي تواجه تعدّدية دينية جرّاء الانفتاح الديمقراطي، برغم ما تحوزه كنائسها الوطنية من حظوة لدى جهاز الدولة وما تربطها من علاقات مع الدوائر السياسية . فإذا ما كانت القوى الدّينية تساهم في بناء الوحدة الأوروبية، فإنها تبقى أيضا عامل انقسام وصراع، وذلك ما يمثّله مأزق احترام الأقلّيات الدّينية عندما تتماثل الدّولة مع الدّين الغالب. فما كان الترحيب بالوحدة الأوروبية من طرف الأديان شاملا، إذ برغم حضور الإسلام داخل التّراث الدّيني الأوروبي، فإن المسلمين القاطنين في البلدان الأوروبية ما أدركوا بعد أن أوروبا "أرض إسلام" . أما مع اليهودية التي طالما أكّدت على الدّولة الأمّة في تدعيم هويتها، فإن ما جلبه تشييد أوروبا من تشكيك في مقولة الدولة الأمّة، جرّها إلى إثبات هويتها عبر ذكرى المحرقة وعبر ممارسة الإحياء الدّيني .
فتأكيد السيادة السياسية غالبا ما يترافق مع منظومة شعائرية ورمزية تسعى إلى ترسيخ نهج معين ذي طابع مجازي، بصفة الأمر تدعيما للرّابطة الجماعية في أبعادها الاجتماعية المتعالية. إنها تلك الظاهرة التي ننعتها بالدّين المدني، والتي بالإمكان حصرها في منظومة من الاعتقادات والطّقوس، بفضلها تضفي الجماعة قداسة شاملة على كيانها وتنسج هيبة جامعة تجاه نظامها . إذ أي تكتّل سياسي ينبغي أن يولّد باستمرار إحساسا بالترابط والوحدة بين الجماعات التي يسوسها. فصياغة تصوّر للتاريخ الخاص، عبر تقدير للتضحيات المبذولة، وتقديس رمزي للرابطة الجماعية المتجسّدة في أعلام وأنصاب، من شأنه أن يولّد ويغذّي الولاء الجماعي تجاه الوطن. وإن كان هناك مقدّس لاديني، لزم النظر أيضا في الأديان لإثبات أن عديد المرجعيات العلمانية لا تفي بالأمر. ففي بلدان الشّرق كان مصير الأديان المدنية، التي ألغت كل مرجعية دينية الإفلاس. في أندونيسيا اكتسى الدّين المدني شكل إيديولوجيا توليفية تلقّن في المدارس، حتى تكون القاعدة الرّمزية المشتركة بين كافة المواطنين، أيّا كانت انتماءاتهم العرقية والدّينية. فإيديولوجيا البانكاسيلا مؤسّسة على دعائم الإيمان بالإله الواحد، والوحدة الأندونيسية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وفي اليابان تشغل الشنتاوية تلك الوظيفة، بعد أن خلفت الطقس الإمبراطوري. وفي فرنسا تطوّر ذلك الدّين المدني عبر المرور من المدنية السياسية-الوطنية للجمهورية المنتصرة إلى المدنية السياسية-الأخلاقية للدولة، المحتكمة للديمقراطية التعدّدية والمواجهة لشتى المخاطر الجماعية، إلى دين مدني لحقوق الإنسان ذي صبغة كونية، لا يلغي اليوم كما كان البارحة عناصر دينية بحثا عن مشروعية النظام الاجتماعي .
التوليفية المسكونية
تقدّم البرازيل بانوراما دينيّة معبّرة عن الظّواهر التوليفية. فالكاتِمْبو طقس الإشفاء، الذي تطوّر انطلاقا من نواة ذات أصل هندي؛ والكَنْدُمْبلي الدّيانة الإفريقية البرازيلية المميّزة، التي تدمج في أحضانها قدّيسي التراث الكاثوليكي؛ والأُمْبادا، التيّار الذي يؤوّل الدّيانات الإفريقية-البرازيلية والهندية-البرازيلية على ضوء نهج روحاني، تشكّل كلّها تعبيرات متمحوِرة حول تقاليد متنوّعة، كاشفة لحيوية تطوّرية للدّيني قادرة على صهر كافة المساهمات وإبداع أنماط مستجدّة. وفي تحليله للأديان الشعبية البرازيلية، يبيّن ر. موتا أن التضارب الذي يشكّله تنامي تلك الدّيانات، متواز مع لحظة تشهد فيها البرازيل تغيّرا سريعا في بناها الاقتصادية والاجتماعية. فعبر ذلك البحث عن الأصالة العرقية، النابعة من قلب السياق التحديثي البرازيلي، يلحظ ر. موتا سياقا آخر مضاد للعرقنة، حيث يتحدّث عما يسمّيه بابتلاع الهوية، ذلك الابتلاع على الشاكلة البرازيلية، الذي يبدو لدينا معبّرا عن بعض أوجه الواقعة الدّينية في أشد لحظات الحداثة تطرّفا. إذ نصادف عديد سمات الحالة الدّينية المعاصرة، حيث التداخل بين التقاليد الدّينية المتنوّعة والتوجّهات التوليفية، وتواجد الدّين الذي يساعد على العيش في الظرف الراهن، والمعاينة المباشرة والاختبارية للمافوق طبيعي، والتجلّي الاحتفالي للدّين، وكذلك أين يحوز المحلّي مكانة جوهرية. إنه زمن المزج والتوليف، والتّماس والتداخل المتنوّع، بين مختلف التقاليد الدّينية. فالتوليفية هي إحدى الخاصيات الجوهرية للثقافة المعاصرة الحالية، كما هي أيضا إحدى أوجه الدّين المعاصر جنب المسكونية.
يدفع الواقعُ التعدّدي الأديانَ لتوثيق صلاتها والتحاور فيما بينها، وهو ما لا يعني انتهاء الصّراعات بينها، حيث تتقدّم المسكونيات لإعادة ترتيب العلاقات الدّينية، تعوّض في ذلك الدبلوماسية المواجهات المباشرة دون إلغاء كلّي للعنف .
وتمثّل المسكونية لازمة للمجتمعات العلمانية والتعدّدية لحاجتها لدعاماتها لتسيير شؤونها بطريقة سلمية تنحو بعيدا عن أي إجحاف. وإذا ما كانت الدولة تثمن التعددية الدّينية، فإنها تهتم أيضا بالتفاهم بين الأديان. وللسّبب ذلك تقف مصالح الدّولة العَلمانية جنب التعدّدية الدّينية المتولّدة عن المسكونية المعتدلة، التي تعمل على تكريس الاختلاف، الذي لا يقف حجر عثرة أمام الوفاق والتعايش السّلمي. فالدّولة تترجّى في نهاية المطاف من مختلف الأديان والتقاليد الفلسفية، أن يضفي كل منها وبحسب مساهمته، مشروعية على المبادئ الأساسية للديمقراطية التعدّدية.
ولمواجهة الجمود المؤسّساتي وتنامي النّفور من السّياسة، وأمام ضرورة جذب المواطنين نحو أخلاق مسؤولة كما الشأن في ما يتعلّق بالبيئة، لغرض حماية وتيسير الحياة الديمقراطية، لزم التنشيط الاجتماعي للإيديولوجيات الداعية للتضامن والأخلاقيات المسؤولة. ففي هذا الاتجاه تتحرك عديد الأحزاب والنقابات والمؤسّسات التعليمية ووسائل الإعلام، ومن اللاّفت معاينة ما أصبحت عليه السُّلط العامة من توسّل للمؤسّسات الدّينية للعب دور في التربية الأخلاقية. إذ كثّفت تلك التوسّلات المسكونية الأخلاقية، ليس مع الاتجاهات المسيحية المتنوّعة فحسب، ولكن مع غيرها من الدّيانات أيضا.
أنماط التديّن العلماني
يتحدّث ريمون آرون عن الأديان العَلمانية، في ما يتعلّق بالنّازية والشيوعية، وضمن ذلك السّياق درس جون بيار سيرونو الأبعاد الدّينية للإيديولوجيات السّياسيّة . فعندما تتفَرْعن الإيديولوجيات السياسية، تغدو رؤًى حول الإنسان والعالم معانقةً كافة مظاهر الوجود، وتنادي بأخلاقية مميّزة. حينئذ نستطيع الحديث عن الأديان السياسية. فأن تطرح تلك الأديان السّياسية ذاتها بدل الأديان وتصارعها أحيانا، مبدية طابعها الدّيني ورغبتها في الحلول محلّها، هنالك يمكن الحديث عن شكل ديني ذي طابع عَلماني، متطوّر إلى أقصى مطافاته، من خلال منظومات اعتقادية مضبوطة وممارسات دينية مسيّرة من طرف كهنوت سياسي. لقد عاينّا أنماطا مختلفة من الأديان اللاّئكية بدرجات متفاوتة من التطوّر.
فانتشار الدّيني في العَلماني بإمكانه أن يتّخذ أشكالا خفيّة، مع المحافظة على تطوّره، حتى يولد أنماطا ذات طابع ديني إشكالي، تنؤو عن أن تكون أديانا صرفة. ذلك ما وفّق في فحصه ألبار بيات في مسعاه لرسم خارطة للتديّن العَلماني . ففي منظوره تبدو أنماط التديّن العلماني مصوغة من أديان قوية، نابعة من مسار وفاقي، جنب الأديان التاريخية.
يضبط ك. برومبرجر مثلا، عديد مظاهر التماثل بين مقابلة كرة القدم والطقس الدّيني. فهناك مساءلة للأبعاد الأساسية للوجود: الحرب، الحياة، الموت، المنكحيّة. فجلّ الحيثيّات المتعلّقة بمقابلة رياضية داعية للتذكير بمناخ الطّقس الدّيني. أين يتواجد محتفون بالقدّاس، وأتباع، وأخويات، وفضاء مقدّس... بالإضافة إلى سلوكات الأنصار، حيث يقيم البعض منهم نموذجا لمذبح محلّي على شرف الفريق المحبّذ. ولكن برغم ذلك التشابه يلاحظ ك. برومبرجر أن هناك بعض المظاهر الأساسية المنقوصة للحديث عن الطقوسية الدّينية، مثل العمق الدلالي، أي الوجه الأسطوري أو الرمزي الجلي الذي يوضّح انتظام الوقائع ومعاني المشاعر. حيث يكون الشعائري محلّيا لذاته، وكذلك مظاهر تمثّل العالم، والخاصيات المتعالية، وثبات المعبودات. ففي كرة القدم سرعان ما يتغيّر النّجوم، بالإضافة إلى غير ذلك من العناصر المفتقدة التي تكشف عن محدودية القياس، وصعوبة التفكير في الرياضة كدين بديل .
ولكن ما المراد بدين النّجوم الذي تحدّث عنه إ. مورين في أعقاب الخمسينيات؟ فهل بالإمكان الحديث عن ظواهر دينية انطلاقا من الحفلات الشعائرية للمغرمين بنجومهم؟ متسائلا م-ك. بوشال ، عبر دراسته للتوقير الشّعبي للمغني كلود فرنسوا بعد مماته. فخطاب المعجبين وسلوكهم، المجتمعين في نادي: -Club Claude François for ever- يسمح برؤية توقيرهم له كحدث ديني. ويلاحظ بوشال، أن الدّين المسيحي هو الذي وفّر المصطلح والتصورات لإجلال كلود فرانسوا. فهناك نقل للجهاز الرمزي المسيحي إلى محل آخر مشابه، يصحبه إجلال من طرف المعجبين لكلود فرانسوا، حاز فيه مكان الورع الدّيني التقليدي.
من البيّن أن تحديد الدّيني في العَلماني يستلزم تعريفا جليّا للمسألة الدّينية، ولا ينبغي، كما قالت دانيال هرفيي ليجير، رؤية الدّين في أي مكان، بعد افتقاده في كلّ مكان. في الوقت نفسه، من الصعب عدم التفطّن في عديد الظواهر، لآثار دينية مخبرة عن تحوّلات قداسية، ودون الحديث عن أديان ذات طابع مميز. فنحن على اتفاق مع ك. برومبرجر، عندما يثبت ما ينقص الطقوسية حتى تتحوّل إلى شعائر دينية. نستطيع الإعلان وبكل يسر، أنه بقدر ما يصبح الدّيني المعاصر شائعا ومنتشرا، بقدر ما تتوفّر الفرص للعثور على آثار للدّيني في العلماني وعلى أشكال من التعالي والطّقوس متعلّقة بأمور شتى. مما ييسّر الحديث عن أنماط من التديّن العلماني وعن صعوبة تمييز الدّيني العلماني. إن الشّكل الأخير هو إحدى علامات الانتشار الدّيني المعاصر، كما تفطّن ألبار بيات لهجانته، بين الإيمان وعدم الإيمان، بين التراث والمعاصرة.
التحوّلات المعاصرة للاعتقادات في المجتمعات الغربية
حتى وإن واصلنا معاينة العلاقات الحميمة بين الممارسات الدّينية والاعتقادات، فإن شيوع الاعتقاد يبقى السّمة المميّزة للواقع الدّيني المعاصر. يتحدّث غراس دايفي عن التجربة الدّينية لدى البريطانيين بكونها تتمّ ضمن حالة اعتقاد دون انتماء –believing without belonging-، لتوضيح الكم الهائل نسبيا للاعتقاد المترافق مع تراجع الانتماء الكنسي .
إضافة يترافق اهتراء التنظيمات المؤسّساتية للدّين مع تنام لأنماط مختلفة من التدّين. إذ نشهد في المجتمعات الغربية نوعا من الفردانية والذاتية تتعلّق بالشعور الدّيني. إنها هيمنة تشكيل الذات -do it your self- في الجانب الدّيني، سواء في ما يعود لجانب الطلب أو العرض، للآثار الإيجابية للخلاص. فمن ناحية الطّلب، نلاحظ استقلالية الناشطين الدّينيين الذين يصوغون اعتقاداتهم وتجاربهم الخاصة بما أصبحوا عليه من حركية في انتماءاتهم. أما من ناحية العرض، فنعاين تطوّرا لمؤسّسات شتّى في ميدان الخلاص، ونشأة سوق متنافسة في الميدان. يجلو ذلك بين التنظيمات الدّينية وشبه الدّينية، كما يجلو أيضا في حضن المؤسّسات الدّينية الكبرى، مثل الكنيسة الكاثوليكية، التي أصبحت مخترَقة من قبل عديد الحساسيات، مما دفعها لتوفير أنماط متنوّعة للمؤمنين حول كيفية عيش دينهم.
وتترافق فردية الشعور الدّيني تلك بسياق من الذاتية، فقد أصبحت كافة أوجه التجربة الدّينية، الفردية منها والجماعية، ذات قيمة عالية. تلك العودة للعاطفة الدّينية تتجلّى بتلوّنات مختلفة، تتنوّع بحسب التقاليد الدّينية. إذ نلحظ الالتجاء لمعيار جديد بشأن الحقيقة، إنه الاختبار، ذلك الذي يتم عبره التأكد من الآثار الإيجابية التي يجلبها الدّين.
فإذا ما أدركنا مع ر. لوميو أننا بصدد الولوج، إلى فضاء خيالي يتجاوز مقدرتنا العقلية والمنطقية، حيث يصوغ مخيالنا كينونتنا داخل العالم بخاصياتها المعرفية والعاطفية. عندئذ يتيسر لنا فهم، لماذا يحضر داخل المجتمعات العلمانية إيمان ثابت يتجاوز العرضية. وإذا ما كانت الاعتقادات تمثّل مأسسةً للمخيال وتمتيناً لعرى التواصل بين الذات والثقافة، فإن الظرفية المعاصرة في المجتمعات الغربية، تتميز بأزمة في أقانيم الاعتقاد لا أزمة اعتقاد، حيث تظهر صعوبة الاعتقاد في حقبة اهتزاز العقائد. ففي زمن انتهاء الأسفار الكبرى يصبح الفرد مفتقِرا للثوابت، وتتفتّت المتانة المؤسّساتية المعهودة الرابطة بين الدال والمدلول.
إن نِعَم الخلاص لها انزياح للتفلّت من مبدعيها، والمدلولات التي تعبر عنها، قد تهاجر من تراث إلى آخر كشأن الكلمات من لغة إلى أخرى. وقد تكون كذلك إنتاجات محلّية نابعة من تجارب خاصة وغير خاضعة لأي احتكار تقليدي أو مؤسساتي . فاعتمادا على ميشال سرتو يؤكّد ر. لوميو أن فعل الإيمان قد دخل في عطلة، ليتِيه في عالم الحس المتشعّب. في مقابل فعل النّشاط، الذي بات يتيما، مخلّفا قطيعة بين القول والفعل. لقد أصبحت التصوّرات فاقدة للمصداقية، وتحوّلت إلى علامات ظرفية غير مثيرة لأي تعبئة اجتماعية فعّالة.
فبحسب ر. لوميو، تولّد أيّة حالة تلغي الرّابطة بين الاعتقادات والجماعات، نزوعاً للاستهلاك المكثّف للاعتقادات، ما دامت هذه الأخيرة فاترة الفاعلية. إننا نعيش ظهور الدّين الجاهز، أين الانسجام هو من إنتاج المستهلِك لا المنتِج، وأين باتت "المغازات الدّينية العامّة" مؤسّسات مركزية تُعنى بتنظيم أحوال الاعتقاد. ففي تلك السّوق لم تعد المؤسّسات الدّينية وحدها المعنيّة بتصريف شؤون الإيمان، إذ ما عاد الأمر راجعا لسلطة مّا، بقدر ما صار الاحتكام فيه للمنفعة التي يسديها. كما لا يقع الهجر التام للتقاليد، وإنما يتولّد وفاء متضارب تجاهها، إذ تحفظ لوقت الحاجة لما لها من جدوى ونفع. فما عادت الاعتقادات دائمة الصلوحية، بل أصبحت إجابات نسبية عن احتياجات ظرفية ندرك عن تجربة تغيّرها . وليست الاعتقادات الدّينية، المدلولات المتأتية من تراث ديني محدّد مميز ، إلاّ وجها من الأوجه، فهناك أصناف أخرى جنب الاعتقادات الدّينية. يميّز فريق الأبحاث الكيبيكي ضروبا شتى: اعتقادات ذات طابع كوني، وأخرى خاصة بالأنا أو متعلّقة بالجماعة، فكل من تلك الحقول تمثل حالة خاصة لتشكيل العالم وفهمه كحقيقة جلية .
فعديد التشكّلات المتّصلة بإعادة تنظيم الأنساق العَقَدية هي بصدد التكوّن. تميز ميشلين ميلوت أشكالا مختلفة منها: التوظيف الدّلالي المستجدّ، مثل إعادة تعريف مدلول الله من طرف الكاثوليكي؛ والتكامل الوظيفي، عبر إضافة معان أخرى لاعتقادات دينية تقليدية؛ والانزلاق المفاهيمي، عبر استيراد مدلولات أجنبية للفضاء الدّيني المسيحي، مثل التناسخ؛ والإلحاق لحقل من المعاني، عبر تأويل ديني محدث لحقول أخرى من المعاني؛ والتكادس الأقنومي داخل حقل الاعتقادات المولّد لحضور رؤى مختلفة عن العالم لدى نفس الفرد.
وتشكّل تلك الأنماط المتنوعّة وحدة لا انفصام لها بفعل سلطة العقائد الدّينية الموحّدة المنسابة منذ الطفولة، إذ يتواصل حضور التكييف الاجتماعي سندا أساسيا. وباختلاف مع ذلك، تحضر السجلاّت العقدية الأخرى، المتعلّقة بالأنا والاجتماعي والكوني، في إعادة ضبط الدّيني وليس العكس. فالنموذج الشخصي للتمثّل الإلهي، المصدَّر من طرف المسيحية، ما عاد يحتلّ الثقافة الكيبيكية، يسجّل ريجنال ريتشارد أن 63,6% من البالغين، و 58% من تلاميذ المدارس المستجوبين، لا يقبلون بأن الله شبه إنسان، وإنما هو بعد خفيّ متجاوز للكون والأنا الاجتماعي. إننا نسير باتجاه تشكيلات تابعة للمقدّس متأتّية من جرّاء اعتقادات مستحدثة.
وتتفق نتائج الأبحاث المجراة سنة 1988/1989 حول الدّين لدى السويسريين ، مع تلك المعاينة لدى الكيبيكيين بشأن فردانية الاعتقاد، وتعدّدية المرجعيات، والنزوع للاحتواء على أساس التراث المسيحي . يبيّن كلود بوفاي التمايز بين المستوى الاجتماعي والمستوى الفردي في وعي الدّين، بين الشّكل الذي نفهم به الدّين لدى الآخرين والشّكل الذي تعي به إياه ذاتنا . فقد أصبحت الرّابطة مع الدّين نفعية، تحوّلت من علاقة ثابتة إلى علاقة مرتابة، خصوصا بين الشرائح الشبابية . إذ أصبح الانشداد للتراث المسيحي فاترا، برغم تواصل احتلال الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية بسويسرا، موقعا متقدّما في تصدير الرأسمال الرّمزي. وفي هذا البحث حول السويسريين تنبه م. كروغلر إلى النّسبة المئوية المرتفعة للإجابات بلا أدري. فقد لوحِظ تصاعد التردّد الذي يوحي بأن المعارف الدّينية، وكذلك إمكانيات التعبير عن الدّيني، أصبحت تطرح إشكالية لدى المستجوبين بشكل عام .
فبحسب تصنيف للاعتقادات أجري على طريقة كلوستر، ينقسم السويسريون بين مسيحيين متشدّدين 7%، ومسيحيين منفتحين 25%، ومتديّنين إنسانيين 51%، ومتديّنين جدد 12%، وإنسانيين بدون دين 4%. يظهر من جانب تأثّر الأنظمة الدّينية بمناخ اجتماعي ثقافي تعدّدي، وتراجع أعداد الذين تربطهم صلات أرثوذكسية بالمسيحية، فقط 7% من المسيحيين متشدّدين في مقابل 25% منفتحين؛ ومن ناحية أخرى يظهر أثر العلمنة الدّاخلية للدّيني مع ظهور قطب المتديّنين الجدد، الذي يفوق ثلاث مرّات من هم بدون دين. وهذه الأصناف المختلفة لا تتوافق مع الأصناف الممارسة، مما يؤكّد الطابع النّفعي للتديّن المعاصر. علاوة، فممارس الطّقس الأسبوعي، بعيدا عن كونه يتشكّل من المسيحيين المتشدّدين، فهو يعدّ أيضا نسبة عالية من المسيحيين المنفتحين والمتديّنين الإنسانيين. أما ما يتعلّق بالممارسات الدّينية الجديدة، خصوصا تلك العائدة لديانات الأسرار، فليست من خاصيات المتديّنين الجدد فحسب، ولكن المسيحيين المنفتحين أيضا.
إن التعدّدية تخترق بعمق الضمائر، فمع وجود تحوّل للدّين في قلب الحداثة، هناك أيضا تحوّل يدفعنا باتجاه تتبّع أثر العلمنة على العقائد وعلى الممارسات الدّينية للأفراد.