يبدو أن كل شيء في فلسطين مختلف تماماً، ويشكل حالة خاصة في كل شيء، حتى في التخلص من الخصوم السياسيين والثقافيين، فحادثة تصفية نزار بنات حالة تندرج ضمن هذه الحالة الخاصة التي أصبحت عادية في فلسطين، وما تبعها من تداعيات وخاصة من الأذرع الداعمة للسلطة الفلسطينية التي تسكت عما يحدث في كل مرة .
لقد ترك الإحتلال بصمته على عمل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وذلك واضح في عملية المداهمة؛ الوقت، والكيفية، والتعامل مع المطلوب . وليس الإحتلال فقط، بل أيضا تركت العقلية الأمنية العربية أثرها المقيت في عقلية عنصر الأمن الفلسطيني في أنه نسي للحظة أنه فلسطيني وأنه ينفذ الأوامر، كأن نزار بنات زعيم تنظيم إرهابي، ألقي القبض عليه بعد ملاحقة ومطاردة، ونسيت تلك العناصر أن نزاراً كان آمنا مطمئنا في بيته ينام ملء جفونه، وربما يحلم في أمر أبنائه الصغار وابنته التي ستذهب إلى امتحان الثانوية العامة . هنا أصبح رجل الأمن الفلسطيني "عاهة" مركبة احتلالية صهيونية مع أنظماتية عربية وقحة، لتنتج رجل أمن بطراز مركب يشتمل على كل السيئات التي يمارسها الطرفان، وكأن أجهزتنا الأمنية "مصرف" تتجمع فيه كل قاذورات الأنظمة العربية والأجنبية والإحتلالية .
هذا المشهد الإعتقالي، التصفوي فيما بعد، استتبع صمت رهيب من كل الإتحادات التي تنضوي تحت جناح منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تعد تعنى بالتحرير إطلاقا، بل كل ما يعنيها أن تكون ظلا للسلطة الفلسطينية في سياساتها القمعية، في المظاهرات السلمية، وفي الخطوات الإحتجاجية والإعتصامات، وما ينجم عنها كذلك من مقالات وآراء معارضة . لقد تخلت كل الإتحادات عن دورها، بسبب الإمتيازات الممنوحة لأمنائها العامين؛ نقابة الصحفيين، واتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، واتحاد العمال، وغيرها . فلم نسمع ولم نقرأ لهذه الإتحادات أي شجب أو إدانة لما جرى، وصمت أمناؤها ونقباؤها صمتاً مخزيا محزناً . هنا أيضا تثبت تلك الإتحاد أنها ذراع آخر للسلطة . فاتحاد الكتاب الذي فُرض أمينه العام فرضا على الكتاب من المستوى الأمني السياسي لن يجرؤ على أن ينتقد ما حدث لنزار بنات أو لغيره، بل إنه لا يرى السلطة الفلسطينية وهي تضرب الناس في الإعتصامات إلّا أنها تؤدي أعمالا وطنية، ويجرّم كل تلك الإحتجاجات التي يراها "ذات أجندة خارجية"، ويسارع إلى استحضار "شماعة الإحتلال" بلغة إنشائية محفوظة ومعلبة، تدعو إلى القرف والتقزز .
في كل مرة يبرهن اتحاد الكتاب الفلسطينيين أنه ليس على قدر المسؤولية ليحمل لواء الدفاع عن حرية التعبير والحقوق المدنية الأخرى، وحق الحياة والعيش بكرامة، فلهذه الحقوق جانب ثقافي أيضا، ولم نسمع من الإتحاد استنكاره لما يتم من اعتقالات سلطوية على خلفيات سياسية أو فكرية، لكنه "يتبجح" بخطاب شعبوي مقيت ضد الإحتلال . وجاهل جداً من يظن أنني أدعم الإحتلال أو ألا نقف في وجه العربدات الهمجية والإعتقالات التعسفية أو الأحكام الإدارية الجائرة، ولكن أنا ضد أن يتحول الإحتلال إلى شماعة أو مَذبّة يضرب بها الإتحاد وجوهنا ويحاول إخراسنا بها كلما طالبنا وقلنا "إن الحرية مسألة لا تتجزأ إطلاقاً" .
عليك أن تنتقد كل ما يشوش فكرة الحرية سواء من الإحتلال أو من السلطة أو من الأنظمة العربية التي تعتقل كتابنا مثل اعتقال أشرف فياض في السعودية وغيره في دول أخرى، وألا تكون انتقائياً أيها الإتحاد . الإنتقائية هنا حالة خاصة مذمومة جداً، وهي انحياز ضد الله والوطن والشعب وكل الأخلاق النبيلة، وبذلك فهي حالة إجرامية لا تخدم الأفكار العامة التي ينادي بها المثقف العربي والفلسطيني المنضوي تحت مظلة اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين .
أعلم علم اليقين ألا شيء سيتغير نتيجة هذا المقال، وأنه سيجلب المزيد من الحقد الثقافي والأمني عليّ من الإتحاد وغيره، ولكنني لا أستطيع أن أظل صامتاً . فلعل وعسى أن يأتي يوم يتمرد فيه الكتّاب جميعاً على هذا الإتحاد المتجمد السلطوي، ويدعون إلى اعتصام أمام "رئاسة الوزراء"، تنديداً بما حدث ليس لنزار بنات وحده بل لكثيرين غيره ممن تطالهم يوميا أذرعة الأمن المدربة على الأذى، ولا تعرف غير أن تؤذينا نحن فقط معارضي سلطتها، اعتقالاً، وضرباً، وتصفية جسدية .