بغداد 1992
في اوائل تسعينيات القرن الماضي*، وبعد ان كشفت الكارثة العراقية عن ساقيها، وبدت الحياة الاجتماعية والثقافية شبه نكتة ثقيلة في بلد يأن تحت وطأة الأزمات من اقصاه الى اقصاه، كان صاحب المسار الخاص في المشهد الغنائي العراقي، الفنان إلهام المدفعي، ينظم ببغداد حفلا موسيقيا جمعه الى عدد من الموسيقيين الشبان، وتحديدا في العام 1992 وضم من يعتبرون المدفعي "شيخ طريقة"، بجمعه النغم العراقي الأصيل الى اجواء الموسيقى الغربية الخاصة، وكان لصاحب السطور حديث مع الرجل الذي بدا متفهما حتى الملاحظات النقدية القاسية، دون ان يعترض على الجملة التي سمعها : " انا من جيل بدت له تجربتك أقرب الى المغامرة الروحية الجميلة والملهمة، ويعزّ عليّ ان اقول لك ان هذه البلاد لم تعد مناسبة لفنك الذكي والخاص، الحياة فيها صارت قاسية والثقافة تتراجع والذوق يتردى...".
عمّان 1996
بعد نحو ثلاث سنوات، كان المدفعي بالكاد يجد في سطح مبنى "نقابة الفنانين الاردنيين" في جبل اللويبدة، وسط العاصمة عمّان، مساحة ممكنة لتقديم اول نشاط موسيقي وغنائي، وكانت تلك فرصة شخصية لتجديد اللقاء، والكتابة عن امسية ستفتح لصاحب المزاج الغنائي النادر، الف باب وباب ليس في عمّان التي صارت بغداده الشخصية وحسب، بل في عواصم عربية واوروبية والى اميركا ايضا .
المدفعي في حفلاته الغنائية الاولى ببغداد اوائل سبعينيات القرن الماضي
كتبت عن تلك الأمسية بفرح حقيقي، كأنني اخبر القراء الاردنيين، وعبر بوابة الصحيفة الاكبر: "الرأي" عن النغم المتفرد الذي يعنيه بث روح متجددة في الموروث الغنائي العراقي، كما هو نغم المدفعي الذي احدث تحولا حقيقيا في مزاج الشباب العراقي مع بداية سبعينيات القرن الماضي، عبر فرقة غنائية لها شكل الروك وبمضون نغمي محلي صرف .
فرح الكاتب الشخصي، جاء ايضا من اكتمال حديث ثنائي مع المدفعي كان ابتدأ في بغداد، وكيف انها صارت ضيقة على صاحب الحلم الموسيقي البسيط، وان عمّان ستكون البداية الجديدة لتلك المغامرة التي كانت قد شهدت صعودا وهبوطا بالتزامن مع انتقالات حياتية لصاحبها الذي هاجر الى بريطانيا للدراسة، ومنها الى الامارات للعمل في السبعينيات، والعودة الى بغداد وهجرتها لاحقا .
عمّان 1999
بعد سنة ونصف في الولايات المتحدة الاميركية قضاها متجولا في قاعات ومسارح احتشدت بعراقيين وعرب مهاجرين في اكثر من عشرين ولاية اميركية قطع خلالها (240) الف ميل .
غنى المدفعي من جديده الغنائي مثلما استعاد معه الجمهور اغنيات حملت روحية الموروث الغنائي العراقي في طريقة معاصرة ابتكرها في السبعينات الهام المدفعي الذي اعطى الجيل من الشباب العراقي مثلا في جرأة التعاطي مع الموروث دونما "تقديس" لعناصر اصالته ودونما مبالغة في "الاغتراب" منه . ومن ذلك المزيج النادر، قدم اغنيات "جلجل علي الرمان"، "اشقر بشامة"، "فوق النخل"، "هيا بينا"، و "زارع البزرنكوش"، ومن اغنيات السبعينات الشهيرة غنى "القنطرة بعيدة" التي سبق ان غناها اول مرة المطرب سعدون جابر .
واخذ الحنين مأخذه عند مئات الالاف من العراقيين الذين حضروا حفلاته حين غنى لهم: "خطار عدنا الفرح" التي كانت احدى اغنياته الجديدة حينها، وحملت لاحقا عنوان الاسطوانة التي سجلتها له اكبر انتاج الاسطوانات وهي شركة EMI وقامت بتوزيعها لاحقا على مدى واسع في المنطقة العربية وبعض المدن الاوروبية التي تميز بحضور جاليات عربية وعراقية كبيرة اضافة الى المدن الاميركية التي سبق له ان زارها في جولته، ومع ارقام توزيع كبرى للإسطوانة، كان طبيعيا ان تقدم الشركة العريقة في الانتاج الموسيقي "الاسطوانة البلاتينية" للمدفعي مع تجاوز ارقام المبيعات، حاجز ربع مليون اسطوانة، وهو مؤشر نادر ما يحققه مطرب عربي في ذلك الوقت .
المدفعي ( من اليسار ) في اوائل سبعينيات القرن الماضي ببغداد
وكان الهام المدفعي قدم عروضا موسيقية غنائية لطالما كانت تحول أمكنة مختارة في عماّن الى امسيات وجد وشجن عراقي، اضافة الى عروض غنائية يشترك معه في احيائها موسيقيون عراقيون شباب ينشطون في الحياة الموسيقية الاردنية.
وفي تحول بارز ولافت في عمل الهام المدفعي الغنائي، تضمنت اسطوانة "خطار" عملا مصاغا بطريقة "الجاز الشرقي (ORIENTAL GAZZ) مزج فيه الساكسفون بالقانون والغيتار والباص غيتار والايقاعات، بعنوان "الله عليك"، التي ما انفكت الى اليوم تحفة حقيقية تمثل المزاج الروحي الجميل الذي جاءت عليه تجربة المدفعي.
كما تضمنت الاسطوانة غناء المدفعي وفق لحن تصويري – رومانسي، لقصيدة حملت توقيع الشاعر عبد الوهاب البياتي بعنوان "قطرة المطر" وغناها اعتمادا على توقيعات منفردة راقية يجيدها المدفعي على الغيتار.
* الجزء الاول من بحث مطول