غناء يورث البهجة والحنين
بعد أيام من عودته، احيا المدفعي وفرقته الموسيقية التي جمعت بين شرقي الالات وغربيها امسية غنائية شيقة في المركز الثقافي لكلية تراسانطة، بالعاصمة الأردنية، وغنى المدفعي الذي صدرت اسطوانته الثانية، مجموعة من الاغنيات التي تشير لاسلوبه الخاص الذي تشكل قبل اكثر من ثلاثين عاماً حين عاد من انجلترا بعد دراسته الهندسة، واسس فرقة في بغداد حملت اسم "13 ونصف" بدأت بتقديم نمطاً من الغناء بدا "مفاجئاً" وغريباً على الاسماع ·
انه الغناء الذي يتطلع الى البقاء في بيئة عراقية بل و( بغدادية ) تحديداً، دون ان يخفي سعيه للوصول الى معايشه حقيقية للعصر وتغيراته وتبدلاته الذوقية، وهكذا اجتمعت في غناء الهام المدفعي صفتان: الموروث الغنائي العراق والبغدادي الى جانب التوزيع والالات الموسيقية المعاصرة ( الغربية ) ·
بذلك حاول المدفعي ان ينقل سعي الفئة الاوسع من الشباب العراقي وابن المدينة ( المتعلم ) تحديداً، في ان تكون منبثقة من واقعها المحلي الخاص دون ان تنقطع عن العالم ومسايرة تحولاته التقنية والذهنية ·
الى جانب الهام المدفعي الذي تجد اغنياته رواجاً كبيراً في عمّان ومن الجمهورين الاردني والعراقي المقيم على حد سواء، كان هناك في الامسية موسيقيون بارعون امثال روبرت على ( الغيتار) الاسباني حيث عزف بطريقة تؤكد مهارته اللافتة والمتجددة، وانور ابودراغ على آلة ( الجوزة ) وهي احدى اكثر الالات الموسيقية التراثية العراقية حضوراً، وتصاحب مؤدي المقام العراقي ضمن فرصة خاص تسمى "الجالغي"، الى جانب ذلك نجد العازفين شيراك ميناس ( باص غيتار) ماهر حنحن ( كونغا ) وسارو ( درامز ) وانس غانم حداد ( كمان ) وطالب ( طبلة ) و( خشبة ) وهي طبلة صغيرة جدا لها استخدامها الخاص في ايقاعات الغناء الريفي العراقي .
وحين يغنى الهام المدفعي، "خطار" التي تعني "ضيف" او "ضيوف" بالدارجة العراقية، ورغم حزنها ( العراقي ) المقيم اذ ترى كلماتها: ان الفرح ضيف "خطار" ومن الصعب علينا ان نعيشه طويلاً، الا ان براعة لحنية اوجدها المدفعي جعلت من المستمع يعيش لحظتين قلقتين في آن: ان يكون ( حزيناً ) و( مبتهجاً ) !
كما غنى "يللي نسيتوته" و"فوق النخل" و"يازارع البزرنكوش" و"چلچل علي الرمان" وهي من اللوازم الغنائية العراقية الموروثة، الا ان براعة الهام المدفعي جعلها تكتسب مشاوير حياة جديدة حين ادخلها في "جو غنائي معاصر" اكان ذلك في طريقة الغناء ام العزف الموسيقي الحر غير المتقيد بقوالب ثابتة، واضافة الى اغنيات المدينة العراقية او ما يعرف اصطلاحاً بـ"البستة" وهي الاغنية الخفيفة التي كانت تصاحب مقاماً من الدرجة الموسيقية ذاتها، غنى المدفعي اغنيات عراقية خارج هذا التصنيف مثل اغنية "القنطرة بعيدة" التي ابدعها المطرب سعدون جابر اواسط السبعينات، كذلك اغنية "مالي شغل بالسوق" التي غناها المطرب حسين نعمة "واشقر بشامة" للمطرب فاضل عواد .
والى جانب الغناء العراقي غنى المدفعي في امسيته التي استمرت قرابة الساعات الثلاث دونما ملل او رتابة اغنيات "زوروني بالسنة مرة" "عليم الله"، "امتى انا اشوفك" وفيها نكتشف قدرة المدفعي على صنع جو غنائي خاص عماده البهجة والروحية في الاداء الموسيقي والغنائي، فبدت الاغنيات وكأنها خاصة به وليست طريقته في ادائها مجرد اعادة تقديم .
وطافت بالقاعة مجموعة من الشباب النشوان بالاغنيات وهي ترقص على ايقاع "التشوبي" الذي انتظمت فيه مجموعة من الاغنيات قبل ان يغني المدفعي بتأثر بالغ قصيدة ( بغداد ) التي حفلت بصياغة شعرية وموسيقية لا تخلو من شجي كأنه بذلك يقارب المدينة الجميلة والحزينة في آن، وانطلاقاً من جو بغداد عاد المدفعي لغناء نماذج من المزاح البغدادي كما في اغنيات "انا منين وانت منين" و"النوم محرم" وغيرها .
بيروت 2000: إحتفالات الألفية الجديدة
وشارك الفنان الهام المدفعي في موسم فني- ثقافي شهدته بيروت حمل اسم "لبنان 2000" وتضمن امسيات موسيقية وغنائية لفنانين من مختلف القارات، اضافة الى معارض تشكيلية وعروض مسرحية . واضافة الى اشتراكه في هذا الحدث فان المدفعي كان مدعوا للمشاركة في برنامج "يا ليل ياعين" المنوع والذي تقدمه الفضائية اللبنانية LBC، ليكون بذلك اول فنان غير لبناني يستضيفه البرنامج، كما كان مدعوا لاقامة عدة حفلات غنائية تتوزع ما بين بيروت وعدة مدن لبنانية .
والعروض الغنائية التي قدمها في لبنان فضلا عن تلك التي يقدمها في الاردن، تعتمد تدفق وحرارة العرض الحي ( Live ) بما فيها من ارتجال موسيقي للالات، وارتجال غنائي بحسب الجو العام، وبما ينسجم مع جو عراقي وعربي تشير اليه اغنيات تستمد من الموروث الشعبي امتداداتها النغمية والروحية .
وقضية اتصال عروضه الغنائية بالموروث، تجد حقيقتها في انسجام الالات العراقية والعربية: العود والقانون والجوزة والسنطور والايقاعات بمختلف انواعها، مع الغيتار حيث يلعب المدفعي عليه برشاقة وخبرة كبيرتين كذلك مع الايقاعات الغربية، واصبح الاسلوب الذي يشتغل عليه مؤشرا على احياء لبعض الوان الغناء العراقي والعربي لا سيما ان المجموعة التي تصاحبة، تتوفر على اصوات طيبة المستوى .
ويبدو ان حالة التجوال والبحث الدائب عند المدفعي على مستقر مكاني ونفسي، تولد عنده دافعا لايجاد مستقر نفسي تحققه الاغنيات والشكل الموسيقي، طالما انه غير ممكن كمستقر مكاني، فهو شديد الالتصاق بملمح مدينته غنائيا وموسيقيا، واللون البغدادي يكاد يغلف عموم طريقة المدفعي في الغناء .
وكمعادل موضوعي لفقدانه حميمية المكان الذي تربى فيه ونشأ - يعود الهام الى احدى العوائل البغدادية والعراقية المعروفة بتأثيرها السياسي والاجتماعي والثقافي- يجد في ردود وانفعالات وتحيات العراقيين الموزعين على بقاع العالم اليوم، مايروي الظمأ، فآلاف الرسائل التي وجهت اليه في الفترة الاخيرة من خلال البريد الاليكتروني، ومن عراقيي المهاجر والمنافي، تشير الى ان اسلوبه الغنائي يلاقي اعجابا متواصلا، بل هو رسالة بغدادية مليئة بالوجدان النقي لمن تقطعت بهم السبل عن المكان الذي يحبون.
ومن ملامح اسطوانته الثانية، كان اسلوب ( الجاز ) الذي غلف الاسطوانة الاولى، ومن خلال القوة التي يمنحها هذا الاسلوب موسيقيا، فانه تمكن من توفير مزيج من الموروث الغنائي العربي والعراقي . ضمن فضاء تجريبي لا بيتعد في اجوائه عن دلالات التجريب المسرحي .
*الجزء الثاني من بحث مطول